في الصميم

بقلم
د. مصباح الشيباني
فلسطين في ذكرى النّكبة وأخطاء حكّامنا العرب القاتلة

  لم يشهد العالم في تاريخه المعاصر حدثا استعماريا واستيطانيا بقرار أممي مثلما حدث في أرضنا العربية بفلسطين. فاعتراف منظمة الأمم المتحدة بقيام دولة «إسرائيل» في فلسطين كان حدثا تاريخيا فريدا من نوعه شكلا ومضمونا. ولأول مرة في تاريخ الدول والأمم يتم تأسيس دولة استيطانية عبر ما تسمى بـ«الشرعية الدولية». 

 وهذه المسألة البسيطة والخطيرة في آن معا، ينبغي على شبابنا العربي والمسلم أن يقرأها قراءة موضوعية تقوم على أساس الوعي بالتاريخ حتى لا يتملكه الشك أو عدم الثبات في الدفاع عن حقه في استرداد أرضه المغتصبة في فلسطين. وإذا لم يستغل شبابنا اللحظة الثورية الراهنة، وإذا لم يمسك بالساعة والزمن ولم يكن لديه الوعي الكافي بأبعاد هذه القضية، فإنه لن يكون له أملا ونصرا في المستقبل، وسيظل المأزق العربي مستمرا بل سيزداد غموضا وتعقيدا. وقد تتشوه ذاكرته لأنّ ذاكرة الشعوب ليست صندوقا من حديد وصلب دونه سلاح وعليه أقفال، وإنّما هي وعاء مفتوح تصب فيه وتتسرّب إليه ليل نهار صور ومشاهد ونزعات ومطامح وإيحاءات( 1).تآمر الأشقاء أشد وطأة من سلاح الأعداء؟
منذ عشرينيات القرن الماضي، طرحت عديد المشروعات والمبادرات للتّسوية وللتفويت في الأرض العربية في فلسطين عبر قبول حكامنا العرب بهجرة اليهود العرب إلى فلسطين. وبدأ التّطبيل والتهليل ـ عبر مختلف وسائل الدعاية ـ من قبل النّظام العربي إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، وما التطبيع إلا اعتراف بأن فلسطين هي أرض الكيان الصهيوني،  والعمل على إقناع المواطن العربي بإمكانية التعايش السّلمي مع دولة إسرائيل. 
لقد تعلمنا من دروس التّاريخ أنّه في جميع معارك التحرّر الوطني تشهد السّاحات الداخلية انقساما عموديا بين قوى المقاومة وبين قوى المساومة. وغالبا، إن لم يكن دائما، لم يكن الخطأ الاستراتيجي لمصلحة المستعمرين في وطننا العربي هو الخطر الحقيقي على المقاومة العربية في فلسطين، وإنّما الخطر يكمن في محاولات أنظمتنا العربية مواجهة أي حراك ثوري وتحرّري في الوطن العربي بدعوى اعتماد استراتيجية «السياسة الواقعية» أو «سياسة المراحل»، ولكنّها في حقيقتها ليست إلا استراتيجية التّسويات العربية الرّسمية المُجهضة لنضالات الشّعب العربي تحت الشّعار الذي أصبح مبتذلا بدعوى «إنقاذ ما يمكن إنقاذه»، ووضعه أمام أمرين كلاهما مر: إمّا اليأس والإحباط، أو قبول التّسوية غير العادلة مع العدو الغاصب لأرضنا.
لهذا، علينا أن ننتبه إلى مخاطر هذه السّياسات العربية الرّسمية التي تسعى إلى توهم شبابنا بأن صراعنا مع الكيان الصهيوني هو صراع على الحدود وليس صراع على الوجود. فالحركة الصهيونية لن يتوقف هدفها على تجميع اليهود وتدريبهم وتسليحهم ونقلهم إلى فلسطين، ولن يكون هدفها الاستراتيجي منحصرا في إقامة دولة «إسرائيل» والتي أصبحت اليوم «دولة اليهود» وتحقيق أحلامهم الميتافيزيقية باسم «شعب الله المختار»، ولكن الهدف الأخير والأساسي بعد كل ذلك، هو القضاء على أي قوة عسكرية أو مقاومة عربية تمنعها من تحقيق هدفها الاستراتيجي وهو أن يعيش الصهاينة على أرضنا العربية حياة آمنة ومستقرة تسمح لهم بأن يتحولوا إلى أمة لها جميع مقومات الأمم الأخرى من لغة وتاريخ ودين وأرض ..الخ.
لذلك، فإنّ دعوة حكامنا العرب سواء كانوا فرادى أو مجتمعين، عبر ما تسمى بـ«جامعة الدول العربية» أو «منظمة الأمم المتحدة» إلى «السّلام» مع إسرائيل هو في جوهره إعتراف صريح باغتصاب أرضنا العربية في فلسطين، والاعتراف هو المقدمة أو الشرط الأول لتحقيق أمن «دول إسرائيل» ولضمان استقرار مجتمع الصهاينة وتكوين أمتهم.
ولكن، ومهما كانت مستويات الاعتراف والتطبيع مع هذا العدو، فإن مشكلتنا مع الصهيونية كدولة وكمجتمع لن تتحول في يوم من الأيام إلى حالة من السلام، ولن تكون هذه الدولة عضوا طبيعيا مندمجا في أمتنا العربية والإسلامية، لأن الأمر، وبكل بساطة، ليس في عهدة أنظمتنا العربية ، ولا في عهدة حكوماتنا، ولا في عهدة جامعة الدول العربية، ولا في عهدة منظمة الأمم المتحدة، ولكنه في عهدة الشعب العربي والمسلم الذي قال كلمته « لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض» مع العدو. وأي جهة رسمية أو غير رسمية عربية أو فلسطينية تتجه نحو التطبيع لن تمثل الشعب العربي ولا يمكنها مهما ادعت من «شرعية» أن تتنازل عن حق ليس من حقها التصرف فيه، ويصدق فيها قول الشّاعر:
 وينبحون النبح كالكلاب         طريقهم ليس على الصواب
وليس فيهم من فتى مطيع         فلعنة الله على الجميـــــــع
فلسطين ومشروع «الشرق الأوسط الجديد»
تسعى قوى الامبريالية العالمية إلى دعم الكيان الصهيوني حتى تظلّ دولة «إسرائيل» دائما أقوى دولة في المنطقة من خلال الحفاظ على تفوقها العسكري والاقتصادي. وفي مقابل ذلك، تسعى هذه القوى إلى القضاء على جميع حركات المقاومة أو عزلها عن محيطها العربي والإسلامي. لقد ولد المشروع الصهيوني من رحم انقسام الأمة ومن الضرورات الجيوـ سياسية لعصر الامبراطوريات الاستعمارية الغربية واصطدامها بطموحات التجديد والنهوض العربي والإسلامي»(2).
لعل أوّل محطة لتحقيق المشروع الأمريكي والصهيوني في المنطقة بدأ مع انهيار النّظام العربي عبر اتفاقيات «كامب ديفيد» ( 1979). فمنذ توقيع مصر هذه الاتفاقية مع الكيان الصهيوني انتقلت المنطقة العربية إلى مرحلة تاريخية جديدة في اتجاه تحقيق ما يسمى بمشروع «الشرق الأوسط الجديد». وفي بداية التسعينيات من القرن الماضي تدعم العمل العربي الرّسمي في اتجاه تحقيق هذا المشروع. فقد انخرطت أغلب الأنظمة العربية وقبلت الانخراط في إخراج مسرحية «المفاوضات» و»التطبيع» وذلك وفق شروط العدو الصهيوني وليس على أساس منطق التحرير، وأصبحت هذه الأنظمة حليفا للعدو، بشكل علني ومستتر، في تصفية المقاومة العربية والفلسطينية بالاغتيالات لرموزها تارة وبالسّكوت عن حروب الإبادة الجماعية التي تتعرض لها فلسطين تارة أخرى.
ومنذ احتلال الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية العراق سنة 2003 تمكّنت «الحركة الصّهيونية» من تحقيق عديد الانجازات الإستراتيجية لصالح دولة إسرائيل وهي:
 1ـ اغتيال المئات من العلماء العراقيين في مختلف الاختصاصات العلمية .
2ـ حل الجيش العراقي الذي كان يمثل أهم قوة عسكرية عربية وإقليمية لمواجهة القوة العسكرية الإسرائيلية.
3ـ العمل على التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية والإفريقية ونجحت مع حلفائها الغرب في تقسيم السّودان إلى دولتين على أساس ديني وعرقي، والعمل على تفكيك أي منظومة وطنية أو قومية بينها.
4ـ تسويف القضية الفلسطينية وتحييدها من الحراك الثوري العربي الرّاهن، والعمل على تمييع وتشويه طبيعة الصّراع العربي الصهيوني وتحويله من صراع وجود إلى صراع حدود بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلى حد الوصول بالحكام العرب جميعا إلى الاعتراف بـ«يهودية» هذه الدولة مثلما دعا إلى ذلك رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، والاعتراف بأن «القدس» عاصمة أبدية لهذه الدولة. 
  إنّ تحقيق مشروع «الشّرق الأوسط الجديد» والعمل على تحويله إلى واقع « جيوـ سياسي» كان ولا مازال يشكل مطلبا ملحا وهدفا مشتركا بين الأنظمة الأقليمية العربية العميلة، وبين الكيان الصهيوني. وأصبح الوطن العربي كله يواجه أخطر مؤامرة من قبل نظم الابتزاز والنهب والفساد والتجويع، ويتعرّض إلى أخطر سياسة عدوانية مجنونة تقودها شلل سياسية عربية أعمتها مصالحها الذاتية الضيقة، وقوى غربية استعمارية أعمتها سياسة الاستعلاء، والهيمنة والتفوق المادي والعسكري في نظام دولي أحادي القطبية. ولكن مشروع «الشرق الأوسط الجديد» لن يعترف به الشعب العربي ولن يكون هذا «الكيان الجديد» موجودا إلا في قاموس الأعداء، لأن هذا الكيان لن يكون حلا لمشاكل أمتنا ولأزماتها المتعددة، ولن يُبنى إلا على أنقاض كيانها لا قدّر الله.
  لذلك، يتحدّد الآن في ظلّ هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ الأمة الواجب الأساسي للشعب العربي تجاه القضية الفلسطينية والمقاومة معا. ومن أهم التحديات التي تواجهه هي كيف يستثمر كل الإمكانيات المتاحة له لتطوير الظروف «الثورية» للحيلولة دون تحطيم عزائم أبطال المقاومة، وللحيلولة دون إمكانية تفكيك بنيتها الداخلية أوالتشكيك في عقيدتها النضالية خاصة في مخيال الشّباب العربي والمسلم. ومن هنا فقط يمكنه تحدي جميع الأنظمة العربية والقوى الرجعية والدول الغربية الإستعمارية المتآمرة على حقه في تقرير مصيره وفي استرداد أرضه العربية المغتصبة. 
   لهذا، يمكن أن نؤكّد على التّالي: 
1ـ من واجبنا كعرب ومسلمين أن نؤيد كل خطوة دعائية أو سياسية أو اقتصادية أو عسكرية تكسب المقاومة موقعا متقدما سواء على المستوى الداخلي (الفلسطيني) أو العربي، وعلينا أن نبارك أي إنجاز ثوري ومقاوم ولو كان معنويا فقط. 
2ـ ينبغي علينا أن نرفض وأن نفضح وندين عبر جميع الوسائل المتاحة والمناسبة كل موقف أو عمل يهدف على التنازل عن الأرض العربية في فلسطين أو في غيرها من وطننا العربي، ومهما كانت مسمياتها أو شعاراتها فهي وفي كل الأحوال ليست إلا استسلاما وتفريطا في حقنا في تحرير فلسطين.
   لقد بات واضحا أنّ الاستقلال الحقيقي هو الذي يخلق السّلام مع أي عدوّ، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وأنّ «عملية السّلام» الملتبسة الخالية من جميع مضامين السّلام الحقيقي وشروطه، ليست إلا مؤامرة غربية ولن تؤدي إلا إلى إطالة أمد الاحتلال للأرض العربية، ومن لا يعي بحقائق التاريخ لا يمكنه أن يستشرف أفق المستقبل. 
هوامش
(1)  ـ محمد حسنين هيكل، سقوط نظام: لماذا كانت ثورة يوليو 1952 لازمة؟، دار الشروق ، الطبعة الأولى، 2003، ص 8.
(2)  ـ بشير موسى نافع، الامبريالية الصهيونية والقضية الفلسطينية، دار الشروق، القاهرة، 1999، ص 9..