موقف سياسي

بقلم
محمد بن قاقة
قــراءة فيما عًُُرف بالأحزاب المتفرعــــة عن التجمع الدستوري الديمقراطي - الجزء الثاني

 موقف النخب من التجمعيين

قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011
 
لا يمكـــن أن نتعرّف موقــف النّخب مـــن التّجمعييــن بين 14 جانفــي و23 أكتوبر 2011 إلاّ في سياق مواقعها في هذه الفترة ومدى التزامها بأهداف الثورة . 
وإنّي أعني بالنّخب مؤسسات المجتمع و شخصيّاته الإعتباريّة التي ناضلت ضدّ نظام بن علي وقاومته سياسيّا واجتماعيا وثقافيّا . والتي كانت معبّرة بشكل من الأشكال عن الإرادة الشعبيّة . 
كلّنا يعلم بأنّ النّخب السّياسية فاجأتها الأحداث فشاركت في الثورة من مواقع قاعديّة أي أنّها كانت تساير الأحداث و تتفاعـــل معهــا ولم تكــن تتحــرّك من موقع القيادة. إذ لم تضع استراتيجيا للمسار الثوري ولم تقترح مطالب ولم تسيّر تحركات بصفاتها الحزبيّة ، إذ أنّ الثورة كانت فاقدة لتنظيم معبّر عنها ، ما عدا أشكال التنظم الميداني ( اللّجان المحلية لحماية الثورة  - لجان تنظيم التحركات )،  ولقيادات تخطّط لمساراتها ، عدا القيادات القاعديّة من مناضلين سياسيين ونقابيين وشباب متعلّم وفاقد للتجربة السياسية ( قيادات الشارع ) .
إلاّ أنّها سرعان ما تداركت الأمر بعد فرار بن علي فأصبحت فاعلا رئيسا في صنع الأحداث وتطوّرها ومحدّدة لمساراتها  ( الحكومات الثلاث ، المجلس الأعلى لحماية الثورة والإنتقال الديمقراطي ، اللّجنة المستقلّة للإنتخابات ،  الأحزاب ، الجمعيات ...) .
 فما هي الإستحقاقات التي عملت النخب على تحقيقها وهل هي في سياق مسار الثورة و أهدافها ؟
إنّنا لسنا في هذا المقام حيال الحكم على النوايا ، بل على عكس ذلك فإنّنا نعتبر كل القوى و النّخب منحازة موضوعيّا إلى الثّورة بما أنّها استجابت لأهم مطلب لها وهو الإطاحة بنظام بن علي. لكنّنا نسعى للمساهمة في معرفه مــــدا تطابــــق استراتيجياتهـــا ومواقفها وسياساتها مع أهداف الثورة في علاقة بموقفها من التجمّع والأحزاب المنبثقة عنه . 
لقــــــــــــــــد قــــرأت الأحــــــزاب الرئيسيــــــــــــــــة شعارdégage  RCD »   « والشعارات المماثلـة كمطلب للثورة فــي الإطاحــــة بالنظام ورمـــوزه والقطـــع مع منظومة الفساد واعتبار التجمّع وأحزابه جزء من هذه المنظومة.
إلاّ أنّه من الصّعب التخلّص من الشياطين القديمة السّاكنة منذ سنين بين نخبنا و المتمثلة في منطق المحاصصة و النّرجسيّة و الزعاماتيّة و الإقصائيّة ... هذه الأمراض الّتي عشّشت سنين في أحزابنا و نخبنا فانقسم أغلبها إلى حزيبات لا يتعدّى عدد منخرطيها عدد أصابع اليد . 
فبرزت عند الجميع الرغبة في الإستحواذ على نصيب من تركة التجمع المنحلّ و المتمثلة في مليوني منخرط   وما يمثّله هذا العدد  من قاعدة انتخابية و شبكة علاقات هائلة و انتشــــار  فـــي كـــل جهـــات البلاد والقطاعات و الشرائح الإجتماعية و التي كوّنها خلال نصف قــــرن من الحكم بالولاءات و بجهازه تعبوي ستاليني و شخصيات مؤثرة جهويا ومحليا ، خاصّة في الأرياف و المناطق التي لا وجود فيها لهيكل اداري غير ”الشعبة“ وبأمواله الطائلة ، ما لم يصـــادر منه بعد وما قد يساهم به رؤوس الأموال الفاسدين رشوة وتملقا للحكام الجدد ... وقد عبّرت هذه الأحزاب من اليمين واليسار عن ترحيبها بالتجمعين الذين لم يتورطوا في جرائم ضد الشّعب ، واتفق جميعهم على أنّه لا يعقل إقصاء جزء من الشّعب انخرط طمعا أو إكراها في هذا الحزب . إلاّ أنهم كانوا مهندسي الفصل 15 من المرسوم عدد 35 المؤرخ في 10- 5-2011 و المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التّأسيسي و القاضي بإقصاء ”كل من تحمّل مسؤولية في الحكومة في عهد الرئيس السّابق باستثناء من ينتمي من أعضائها للتجمع الدستوري الديمقراطي ، ومن تحمل مسؤولية في هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي في عهد الرئيس السابق إضافة إلى أعضاء الديوان السياسي“ . 
إذن أصيبت  القوى السياسية في تعاملها مع ملف التجمّع ”بانفصام في الشخصيّة schizofrénie  “ فهي من جانب تبارك حلّ حزب التجمع ثمّ تقصي قياداتــه مـــن التّرشـــح في انتخابـــات التأسيســـي ، ومن جانب آخر  ترحّب بالتجمعيين و أموالهم و آلتهم التعبوية ، ولم يمثل إستثناء في هذه الثنائية إلاّ اليسار الرّاديكالـــي و الأحزاب الصّغيـــرة والتي لم تكن معنيّة بهذه المحاصصة ، للأسباب موضوعيّة. 
 يبرز هذا الموقف أن المصالح الحزبية الإنتخابية و منطق المحاصصة هو الغالب في معالجة الأطراف السياسية الفاعلة  لموضوع من أهم مواضيـــع الثّـــورة. وهـــو توظيــف سياســوي آخر فـــي ملف العدالة الإنتقاليّة، يضاف إلى توضيف المقدس والهوية والحداثة وغيرها من الموضوعات الهامة والمصيرية والتي ساهم حلّها بمنظــور حزبــي في تشكل الساحة السياسية على هذا النّحو الذي هي عليه والذي عليه مؤسسات الثورة من مجلس وطني و حكومة ...
إنّها مقاربة غارقة في السياسة السياسوية، بعيدة كلّ البعد  عن الحسم السياسي في إحدى أهمّ  مؤسسات الفساد . إذ أنّه بحشرنا للقضائي والتشريعي  في الحسم السّياسي نقاضي ونقصي ونمنع . لكن لا نغيّر ثقافـــة سائـــدة بثقافــة بديلــة. ولا نؤسس لواقـــع متناغــم مع مبادئه وأفكاره .
 
الإستراتيجيا الحالية للتجمعيين 
 
تتميز المرحلة الحالية بانعدام التـــوازن فــــي الخارطــــة السياسيــــة. فمن ناحية نجد حزبا قويا يمتلك قاعدة شعبية هامّة و يقود حركة دينية تمثل رقما انتخابيا هائلا . ويهيمن على  ائتلاف حاكم  وأغلبيّة مجلسيّة مع شريكين ضعيفين. وفي المقابل معارضة متكوّنة من أحزاب وشخصيّات ذات مرجعيّات يساريّــــة وقوميّــــة وليبراليـــة ودستورية تجمّعية. يوحّد بين أغلبها هدف إرباك الإئتلاف والإطاحة بحزب النهضة في الإستحقاق الإنتخابي القادم، وهــو مــا تعمــل على تحقيقه منذ الإعلان عن نتائج انتخابات التّأسيسي، وإن كانت تعلن عن إرادتها في إنجاح هذا الإئتلاف الحاكـــم من موقع المعارضة. وبقيّة الأحـــزاب الغير ممثّلة في المجلس الوطني التّأسيسي والتي تشكل شتاتا لا تأثيـر حقيقي له في الحراك السياسي . 
 كما تتميز بانعدام استقرار أمني واجتماعي وتدهور للمقدرة الشرائية وتعطّل للحركة الإقتصاديّة والماليّة وتراجـــع للإستثمـــار الداخلــي والخارجي وشلل القطاعي السّياحي والنسيج وقطاعات أخرى استراتيجية وارتفاع ثمن النفط واختلال الميزان التجاري ...  أضف إلى ذلك التهديدات التي أصبح يمثلها اليمين الدّيني وموقف الحكومة منه و ارتباك الأداء الحكومي والرسائل السلبية التي يرسل بها للرأي العام. والتباطئ في معالجة الملفـــات المستعجلــــة كملـــف البطالــة   وملف شهداء وجرحى الثورة وتعاطيها الغامض مع ملف العدالة الإنتقالية ومحاسبة رموز الفساد واسترجاع الفارّين والأموال المهرّبة و في اعتمادها بعض أساليب النّظام السابق في الحكم كتوزيع المناصب في الحكومة والدولة حسب الولاءات الحزبيّة  والمزج بين الحزب والدولة في  المستوى التّشريفاتي وعند اتخاذ القرارات وتبرير الأخطاء كالعنف الذي يمارسه جهاز الأمن  واعتماد المليشيات الحزبية في التصدّي للمعارضة وصدّ بعض التحركات الشعبيّة والإرباك الذي عرفه المجلس الوطني التّأسيسي عند انطلاقــه وفي تحديد مدّة نشاطه وفي وتيرة صياغتة للدستور...
هذا وصف عام للمشهـــد السّياســـي بعد الإنتخابات. والمتميّز سياسيا باستقطاب أيديولوجـي (ديني، مدني) مفتعل ومتوتّر. يحكمه منطق الإقصاء والعداء العقائدي التّاريخي والإستحقاق الإنتخابي القادم وتعبّر عنه ممارسات استفزازيّة متوتّرة تسعى إلى إرباك الآخر .وهي متناقضة في الغالب مع ما عرفته ارهاصات الثورة وحراكها من لحمة و تضامن وطني ووعي سياسي يؤجّل الخلافي ويعمل على المشترك. ويتجه نحو مهام المرحلة . 
إضافة إلى ارتباك الحكومة في ممارستها للحكم وعدم الإستقرار الأمني والإجتماعي وتعطّل الحركة الإقتصاديّة و الماليّة .
في هذا التجاذب توجه الشقّين إلى رصّ الصّفوف ، بالمعنى الحربـــي للكلمــة ، وكــلّ بأدواتــه المتاحــة. هذا يتأكّد يوميّا  من خلال انصهــار أحــزاب تنتمـي إلى مدارس متناقضــة ، أو التقـــاء بيـــن فرقــاء غير متجانسين فكريّا ، ومن خلال التشهير والتجريح الإعلامي ، وسياسة ليّ الأذرع . ومن خلال بوادر انزلاقات عنف مادّي من الجناح المتطرّف في فريق السلطة كما في الفريق المعارض .
في هذا الواقع المتوتّر  و الّذي يعتبره البعض طبيعيا في فترة ما بعد الإطاحة بنظام كلياني و تأسيس نظام ديمقراطي على أنقاضه ، ينزّل ملف الأحزاب المتفرعّة عن التجمّع و التي لا يمكن أن تطالب  بأحسن من هذا الوضع ، لإيجاد موقع قدم ، ولما لا ، موقع فاعل في المشهد الجديد ، تعود مــن خلالـــه إلــــى المكـــان الّذي لا تستطيــــع العيش إلاّ فيه، موقع الحكم ولو بالشّراكة . 
لقد استغــل التجمعيــــون حالـــة الإستقطـــاب الأيديولوجـــي وتعامل كل الأطراف مع الواقع بعيون رانية إلى الإنتخابات القادمة، وبحث المعارضة عن تحالفـــات تمكّــن مـــن بنـــاء حزب أو جبهـــة  قادرة على منافسة حزب النهضة منافسة حقيقية (هذه المعارضة  المتعوّدة على تحديد الحلفاء وفقا لموقفهم من النّهضة و ليس حسب أطروحاتهم ) ، ليمروا إلى المرحلة الثالثة من استراتيجيّتهم والمتمثلة في البروز كحليف لاغنى عنه في ملحمة الإطاحة بحزب النهضة. وعرضوا  على كلّ من يرغب ما يمتلكونه من سبع نقاط مميّزة لبعث مشروع سياسي يجمّع القوى (الوسطيّة) ويحدث توازنا في السّاحة السياسيـة، بزعامـة السيد باجـي قائد السبسي وتحت تسمية ”نداء تونس“  وهي : 
aفكر مستنير يعبّر عن الإعتدال والحداثـــــة والأصالـــــــة الوسطيّــة التونسيّـــــة ومتجــــــذّر في المخيلة الجماعيــــة التونسيــــــــــــــــــــــة: ”الفكــــــــــرالبورقيبــــــي“.
aشخصيّة كريزماتية . زعيم و رجل دولة ، قادر على تجميع شتات القوى الوسطيّــــة والتّعبيـــــــر عــــــن هذا الفكر :”السيد الباجي قائد السبسي“.
aمراس و قدرة على التّعبئة و حشد قاعدة شعبيّة انتخابيّة: ”الآلة التجمّعية النائمة والتي تحركت في اجتماع  نداء تونس بالمنستير“.
aالمــــال: ”ما لم يسيطــر عليه من أموال التجمّع ، وما قد يوفّره بعض رؤساء الأموال من المدافعين عن هذا المشروع المحافظ عن مصالحهم، إضافة إلى وعود الأصدقاء والأشقاء في الخارج“.
aجهاز الإدارة :”ما بقي مواليــا مـــن الهياكـــل المركزيــة للدولــة والهياكــل الجهويــة : ولات ومعتمديــن ومندوبيـــن جهوييـــن ... والمحلية : عمد و مشائخ و رؤساء شعب ...“
aالتجربة في تسيير الدولة و الإدارة .
aتأييد خارجــــي: ”شبكة العلاقات الخارجية (جولات قائد السبسي في عواصم العالم بعد تنحّيه عن رئاسة الحكومة تأكد هذا التجاوب)“ .
كما أنهم برزوا أكثر شراسة وثقة في النفس ، حتّى أنّ بعضهم صّرح ، وفي أكثر من مناسبة ، بأنّه ”لولا موقفهم المحايد من الثورة ، لما كان من الممكن تجنب سقوط أرواح كثيرة“ ( مثال : تصريح كمال مرجان للوطنية 1) ملمّحين إلى ما حدث في الثورات العربية الأخرى . لكنّهم متناسين بأنّ المقاومة في البلدان العربيّة الأخرى كانت من كيانات سياسية ، وإن انحرفت ، وليس من عصابات مرتزقة ، لا يجمع بينها إلاّ المصلحة الشخصيّة ،كما هو الأمر بالنسبة للتجمع .
 وقد أظهرت المعارضة  نزعة براقماتية في حكومة الغنوشـي الأولــى وعند إعادة تشكلها فــي أحزاب تجمــع المتناقضـات وخلال حضورهــا في اجتماع نــداء تونــس وتهليلهــا بمبــادرة قائــد السّبســي ، معتبرة أن وجود التجمعيين لا يمثل عائقا في بناء مبادرة سياسية مشتركة تحقّق توازن الساحة السياسية و تضمن التّداول على السّلطة وإنجاح المسار الديمقراطي (الإطاحة بالنهضة ) .ولـــم يعبّــر منهــا بوضـــوح عن موقف رافض إلاّ حزب . أمّا باقي اليســار الرّاديكالـــي فلم يعبّر عن موقفه من هذه المبادرة إلاّ تلميحا .  
 أمّا النّهضة وحليفاها فإنّهم ليســوا أقلّ براقماتيــة مــن المعارضــة، بل إنّهم أسرع عمليّا وأكثر فعاليّة. إذ قدّم أعضــاء من كتلـــة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية إلى المجلس الوطني التّأسيسي مشروع تنقيح للفصـــل 15 من المرسوم الإنتخابـــي. ويتمثــل هــذا التنقيـح في منع أعضاء حكومات بن علي المتعاقبة وكل من تحمل المسؤوليات التاليـة فـــي التجمـــــع المنحــــل مـــن العمــل السياســي والمشاركــة في الإنتخابات لمدة خمس سنوات. وهم:الأمناء العامون و مساعدوهم، أعضاء الديوان السياسي، أعضاء اللجان المركزية، الكتّاب العامون للجان التنسيق ، الكتّاب العامون للجامعات، رؤساء الشعب. 
هذا المقترح باركه حزب النهضــة على لســان رئيس الحكومة ورئيس الحزب في احتفالات عيد الشهداء ونادت به الهيأة التأسيسية للحزب مع تحديد المدة إلى عشر سنوات. كما رحّب به أعضاء من نواب العريضة والتّكتل مع الملاحظ أنّ الناطق الرسمي للتكتل ورئيس الكتلة النيابية عبّرا عن موقفهما الشخصي والذي يعتبر أنّ هذا المقترح يدخل البلاد في مزايدات لا طائل منهــا و أنّ هياكل الحزب لــم تناقش بعد هذا الموضوع . 
 
نحو صياغة موقف
 
لقد انصهر  الحزب الدستوري فكريّا و تنظيميّا  في التّجمع الديمقراطي ، و لم يعد له وجود سياسي خارجه. و ما تعرفه السّاحة من عودة للدّستوريين كفصيل سياسي هو جزء من استراتيجيا التجمعيين للعودة  إلى السّاحة بقناع يمكّنهم من تحقيق ثلاث مكاسب على الأقلّ ، وهي :  
a توظيف التراث الدّستوري للقفز على فترة حكمهم  المظلمة بأخفّ الأضرار و دون تحمّل المسؤوليّة فيما حصل خلالها من خراب للدولة و المجتمع  وهروبا من المحاسبة الجدّية  .
aرفع الحرج على من يرغب في الإلتحاق بأحزابهم أو بإحدى مبادرتهم ، كنداء تونس مثلا .
aاستثمار الرّصيد العاطفي الّذي يحمله جزء من التّونسيين لبورقيبة كموحّد للأمّة التونسية و باني الدولة الحديثة و ناصر المرأة و محرّرها .
إلاّ أنّه ، ورغم ما حققوه إلــــى اليوم مــن مكاســب ، لا يمثلون في اعتقادي تهديدا حقيقيا للثّورة و لمسارها أي أنّهم لم يرتقـــوا إلى مستــــوى الثّــورة المضـــادّة وذلك  للأسباب التاليّة :
aليس للتجمعيين مشروع مجتمعيّ مستجيب لاستحقاقات الثورة ومنسجــــم مع أهدافهـــا، وذلك رغــم دعــــوى الوسطيّة وغيرها من الدعوات الفارغة المحتوى والمشحونة بالإنتهازة  والتناقض .
aتغلغل الشخصنة و الزعاماتية عندهم ، و الولاء للأشخاص ، يعيق توحد كلمتهم و تجميع شتاتهم .
aلقد قطع الشّعب مع رموزهم القديمة و حسم فيها . و ليس لهم من رموز شابة بنفس الكريزما قادرة على توحيدهم و تحقيق التواصل . يمكن القول أنّ تركيبتهم العمريّة الهرمة  عامل حاسم في مستقبلهم السّياسي . 
aموقف أهمّ القوى الحيّة في المجتمع منهم ، ورفضها التعامل معهم أو حتّى مهادنتهم .
aالموقع الرّمزي الّذي يمثّلونه ”أعداء الثورة وجلاّدوا الشعب“ شيطنهم و استحال امكانيّة الإطمئنان لهم .
aتقييمهم للفترة السابقة و هروبهم من تحمّل المسؤوليّة ومن النّقد الذاتي والإعتذار للشّعب على الماضــي. يؤكّــد موقعهــم الفوقــي والمتعالي ، ويبعدهم أكثر عن الشعب الذي رفع شعار ”لا للحقرة“.
 aمحاولتهم ، الإختراق بقوّة ، بلغة كرة اليد . وادعاءاتهم بأنهم أصحاب فضل على الثّورة بالتزامهم الحياد . وإيحاءاتهم وتهديداتهم  المستبطنة وتلميحهم  بقدرتهم على إدخال البلاد في فوضى وحرب أهليّة. ( حمام دم – انظروا ما حدث في ليبيا واليمن وسوريا ...) .  
هذه الأسباب وغيرها ، تجعل من عــودة التجمّعييــن أمــرا مستبعــدا ، و تأثيرهم في مسارات الثورة محدود . و ما تضخيم حجمهم وخطورة تحركاتهم ، من طرف بعض الفاعلين السياسيين ، إلاّ لغايات حزبيّة انتخابيّة كما بيّنته سابقا أو نتيجة قراءة مغايرة للثورة ، تجعل منها إمّا تواتر أحداث أدّت إلى ما أدّت إليه من تغيير في السلطة ، لا يرقى إلى مستوى الثّورة أو هي مؤامرة أمبريالية في سياق إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية في المنطقة فيما يعرف بالشرق أوسط الجديد  .
هذا الإستنتاج لا ينفي أنّه ، وفي كلّ الحالات ، قد تتطوّر التعبيرات المحافظة و الرجعيّة إلى ثورة مضادّة أيّا كان ضعف قوّتها الأصلية . وذلك إذا تغافلت النّخب الجديدة عن واجباتها أو انحرفت عن مسارات التّأسيس مؤجّلة مهام  المرحلة إلى فترات لاحقة .وذلك لأيّ سبب من الأسباب .
هذه البديهيّة تُلزم الفريق الحاكم ومن والاه والفريق المعارض بمختلف فصائله. وتحملهما مسؤوليّة قيادة المرحلة الإنتقاليّة التّأسيسيّة وحماية الثّورة، كشريكين شرعيّين . كلّ من موقعه وبقدر حجمه الجماهيري و الإعتباري . 
فمن جانب السّلطـة يجــب عليهـــا الإلتـــــــزام بالحوكمـــة الرّشيـــدة ، التي تتحقّق في اعتقادي باحترام خمس مبادئ :
aالترفّع عن توضيف الشرعيات الماضية والبروز في مظهر الضحية أو البطل لابتزاز عاطفة الشعب .
aاحترام بنود العقد الّذي تسلّمت بموجبه السلطة ، بمستوييه الهيكلي و الترتيبي .  ”تحقيق الإنتقال الديمقراطي بالوتيرة الاّزمة“ .
aالإنتباه لعدم تجاوز أو التناقض مع ثلاث مبــادئ أساسيّـــة للثورة في ممارسة السلطة : الحريّة – العدالة – الكرامة .
aحماية الدّولة بمنع النزوع الطبيعي للحاكم إلى احتكار السلطة المؤدّي للإستبداد . والتوقي من ذلك بتشريك من هــم خــارج الحكــم من قوى المجتمع في التشاور واتخاذ القرار وممارسة السلطة . ودعم وتطوير آليات الضّمير والمرشد المدني ( الصّحافة – المعارضة – المجتمع المدني ...) .
aاتخاذ القرارات و المواقف و وضع الأسس الإصلاحيّة الاّزمة ، دون ارتباك أو حسابات حزبيّة. وإن كانت لا تحقّق المصلحة الإنتخابيّة الآنيّة . فالسّلطــة تداول والإصلاح مســـارات . وغالبا ما تكون تكلفة التأسيس الإصلاحي غالية على واضع لبناته الأولى. إلاّ أنّ ”ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض“ . وما لا تُدرك فوائده اليوم ، تُدرك غدا .
وأمّا من جانب الفريق الخارج عن الحكومة ، فعليه أن لا ينس أنّة جزء مـن السلطــة وشريـــك في تأسيــس ”الإنتقال الديمقراطــي“ وأنّ موقع  المعارضة لا يقلّل من مسؤوليّته . وفشله في القيام بهذا الدور سيفشل المرحلة و يمكّن من بروز قوى الثورة المضادة ومن مضاعفة تأثيرها . ولقيامه بهذا الدور يجب أن يلتزم بأربع مبادئ ، وهي :
aالوعي بأنّ المرحلة تحمّل المعارضة نفس مسؤولية الفريق الحاكم في التأسيس . 
 aالتمييز على المستوى النفسي و الخطابي و المبدئي بين معارضة نظام شرعي و نظام مستحوذ على السلطة . بين نظام وطني وليد ثورة شعبية ونظام عميل وليد انقلاب . فإن كان واجــب التعامــل مع الثّاني لغاية الإطاحة و التّنحية ، فإنّ التعامل مع الأوّل تعاوني وتكاملي ، يفرضه التداول السلمي على السّلطة وتواصل البناء والإصلاح . 
aمراقبة السّلطة ونقدها وتقديم البدائل والمقترحات . والمشاركة الفاعلة في الإستشارات والحوارات و الحد من المبالغة والتجنّي ، و إن كان ذلك مقبولا في الديمقراطيات العريقة فإنّه يؤكّد عند الشعب ما كرّسه النظام السّابق من شيطنة للسّياسي بوصله بكلّ الصفات السلبية .
aممارسة المعارضة المؤهّلة للحكم والبديلة للسلطة القائمة . وذلك بوعيها النوعي و الإحصائي لحاجيات الشعب ومسكها الجدّي الملفّات واقتراحها الدقيق لسياسات واستراتيجيات. وذلك بعيدا عن العموميات والتنظيرات والمزايدات الكلاميّة ، التي اكتسبتها نتيجة تهميش الحكم السّابق لــــدور المعارضـــة ورفضــه لتشريكهـــا في إدارة الشّأن العام أو المشاركة فيه  .  
إنّ تغليب  السياسي على السياسوي و إضفاء المبدئي عليه  وربطه بالإستراتيجي ، وحده كفيل بحماية ثورتنا الفتيّة ومقاومة الفساد المؤسساتي والشخصي و تحقيق التحول الديمقراطي الضامن لاستمراريتها . إذ أنّنا في غياب الوعي بالمرحلة واستحضار المبادئ البديهيّة و الغايات الأوّليـــة من الفعل السياسي نسقــــط في الإنتهازية الخطيرة في مرحلة تأسيس خاصّة . والتّي تتحوّل المواقف فيها إلى سنن قد تطبع المجتمـــع سنينــــا . كما حـــدث في اللحظـــة التاريخيّـــة الأولــــى  من تأسيـــس الدّولة الحديثــة. إذ وقع التضحيّــــة بالديمقراطيّة علـــى حساب بناء الدولـــة، رغم التنوع والتعدّد السياسي والأيديولوجي والديني المميّز للمجتمع التونســــي والّذي كــان بــــه مؤهـــلا أكثـــر مــن غيـــرة من المجتمعات لاحتضان التعدّد الفكري والسياسي .
واليوم في تعاملنا مع ملف التجمع و التجمعيين ، كما في تعاملنا مع جميع الملفات علينا الإلتزام بأوّل مبدئ للثورة وهو ارساء ثقافة المواطنة و التي لا تستبدل الصّراع السياسي بالإقصاء وسلطة الأغلبيّة بتسلّطها و قوّة القانون بقوانين القوّة ... كما يجب أن لا ننسى بأنّ السّلطة للشعب يمارسها من خلال المؤسسات والأدوات الديمقراطيّة كالإنتخاب والإستفتاء. وأنّه  ليس من الديمقراطيّة و لا من التّأسيس لها مصادرة هذا الحقّ . وإنّ  اتخاذ مواقف مصيريّة باسم الشعب اسكات  لصوته وإن كان ممّن انتخبهم . كما أنّ التّأسيس لما يناقض إرادة الشّعب في القطع مع الإستبداد التفاف على  إرادته. 
إنّ هذا الموقف المبدئي من شعبنــا يجعـــل منـــه صاحب السّلطـــة ولا وصاية لأحد عليه ، وأنّ قراراته ملزمة للجميع وأنّه الوحيد المالك لحــقّ الإقصــاء لا ينوبــه فـــــي ذلك أحــد مـــن الأشخــاص أو المؤسسات . 
وكالتزام منّا بذلك و لتحديـــد موقفنـــا مــــن الأحزاب التجمعيّـــة ،  نرى بأنّ :
aللتجمعيّين الحق في التواجد السياسي في تشكيلات قانونيّة .
aلهم الحقّ في التعبير عن أطروحاتهم للشعب عبر الأطر القانونيّة المعروفة كباقي مكونات الطيف السياسي .
aلهم الحق في التحالف و اقتراح المبادرات والمشاركة في الحكم إن اختارهم الشعب .
aلا يحقّ لأيّ مؤسسة أن تقصي فصيلا سياسيا عن الحياة السياسيّة  . وإن كان المجلس التّأسيسي ، إذ أنّه السلطة العليا في سياق تحقيق أهداف الثّورة وليس في سياق التناقض معها .
إنّ من واجب النخب الجديدة الدفاع عن حقوق التجمعيين الجدد والقدامى بقدر التزامها  بمقارعتهم  سياسيا و فضح طبيعتهم كقوّة ماضويّة انتهازيّة فاسدة والتّذكير بما فعلوه أفرادا وجماعات ، بالشعب التونسي . لأنّه لا نصنع الجديد بأساليب قديمة .
 كما يجب عليها الوعي بمهام المرحلة التّأسيسيّة و العمل على تحقيقها من موقع المسؤوليّة التاريخية .بتجنب التهميش واتباع خارطة طريق تحقق أهداف الثورة و استحقاقتها . 
وعليها الإنخراط الجدّي والحقيقي في تفعيل مسارات العدالة الإنتقاليّة و بعث مؤسساتها و آليّاتها وفق التمشيات التالية : 
aكشف الفساد بأنواعه و ممارسيه و شبكاته .
aمحاكمـــة الفاسديـــن، محاكمــات عادلــة وفــــي دوائـــر خاصّـة ولا إستثنائيّة .
aجبر الأضــــرار المادية والمعنويّـة للأفراد و الجماعات. وتقديم الإعتذار ورد الإعتبار .
aإصلاح المؤسسات ( الأمن و القضاء و الإعلام ...) .
a المصالحة .
إنّ التعامل السياسي مع ملف التجمعيين الجدد يضعهم في حجمهم الحقيقي و يصيرهم ذكرى سيّئة الذكر ، و يُكسب المجتمع حصانة ضدّ الفساد ، نتيجة للحراك السياسي الذي سيحدثه .كما أنّه يحقق غاية بيداغوجية تأسيسية  ، وهي تراكم تجربة ديمقراطية ، تمكن مستقبلا من التعاطي السليم في معالجة الإختلافات الحادّة . وهي الثّقافة التي إن أرسيناها في شعبنا و نخبنا ، نكون حقّا قد حقّقنا ”الثورة التونسيّة“، ”ثورة الحريّة و الكرامة“، ”ثورة 14 جانفي 2011“ .