موقف سياسي

بقلم
محمد بن قاقة
قــراءة فيما عرف بالأحزاب المتفرعــــة عن التجمع الدستوري الديمقراطي ) الجزء الأول(

 (1) توطئة 

 
يندرج هذا المقــــال  ضمن المساهمــــة فـــــي الحوارات الوطنيّــة حول الموضوعات الحقيقة التي أثارتها الثّورة . ومحاولة لتقديم قراءة لما عرف بالأحزاب المتفرعة عن التجمــع الدستـــوري الديمقراطـــي و تحديد موقف منها يلتزم بمبادئ الثورة و مهامهــــا الآنيّـــة و الإستراتيجيّة .
 
لذلك اخترت الخوض في هذا الموضوع ضمن قراءة شاملة لتحوّل 14 جانفي 2012 و بالإجابة عن جملة الإشكاليات المتصلة به ، والتي من ضمنها :
* تحديد طبيعة هذا التحوّل . هل هو لحظة تاريخيّة  في مسار ثورة أم انتفاضة أو انقلاب ...؟ 
* ما هي القــوى الإجتماعيّـــة و السّياسيّــة المستفيدة أو الخاسرة من هذا التحوّل ؟ وما هو موقف قوى الثورة ، العملي ، منها ؟
* كيف تفاعلت الشّخصيات و الجماعات المحسوبة على التجمع مع هذا التحول ، و باقي الفرقاء مع هذه الشخصيات و الجماعات التجمعيّة؟ 
* كيف نتخذ موقفا من الشّخصيات و الأحزاب المتفرعة عن التجمع الدستوري الديمقراطي في التزام باستحقاقات الثورة و مبادئها وتفكيك منضومة الفساد بالأدوات الديمقراطية لا أدوات الإستبداد ؟  
ولذلك حاولت تقديم أجوبة أوّليّة لهذه الأسئلة بالتّطرق إلى العناصر التالية  : 
* نشأة هذا الحزب و علاقته بالحزب الإشتراكي الدستوري .
* تعريف التجمع الدستوري الديمقراطي من خلال أسلوب حكمه  .
* كيف تعامل التجمع مع الثورة . 
* موقف ( الشعب )  و موقف النخب السياسيّة من الأحزاب والشخصيات التجمعيّة الأصل .
* الخارطة الجديدة للسّاحة السياسية و موقع الأحزاب والشخصيات التجمعيّة الأصل فيها . 
* موقف حـــزب الإصـــــلاح و التنميـة من الأحـــزاب والشّخصيات التجمعيّة الأصل .
وهي عناصر تجدونها متداخلة في الورقة لا تخضع للترتيب والفصل الذي ذكرته .
 
(2) نشأة التجمع الدستوري الديمقراطي  
 
1 - التجمع الدستوري الديمقراطي وريث للحزب الإشتراكي الدستوري 
 
اثر الإنقلاب الذي قام به زين العابدين بن علي الوزير الأوّل على الرئيس الحبيب بورقيبة في 7 نوفمبر 1987 ، تأسّس التجمع الدستوري الديمقراطي في 27 فيفري 1988 كخليف للحزب الإشتراكي الدستوري ، الحزب الحاكم  منذ الإستقلال والمنقلب على  الحزب الحر الدستوري في مؤتمر قصر هلال  2 مارس 1934 ، تاريخ تأسيسه تحت تسمية " الحزب الحرّ الدستوري الجديد " .
السلّم التاريخي للهيمنة الدستورية
على الحياة السياسية بتونس طيلة ما يقارب القرن .
 
هذه  الخلافة تستمدّ  شرعيتها من :
- الشعارات التي رفعها المنقلبون من تحوّل سلمي للسّلطــــة وتواصل مع الخطّ الدستوري  .
- تبنّي الحزب الإشتراكــــي الدستـــــوري بإطاراته و قواعــده  للتّحول ومباركتهم له ( التحوّل المبارك ).
- الإعتماد على هياكل الحزب الإشتراكي الدستوري ورصيده المعنوي و المادي  في بناء الحزب الجديد ( التجمع ) .
- إعتماد نفس التقاليد الإنقلابية  في التداول على السلطة:انقلاب  زعماء الحزب  الحرّ الدستوري الجديد في 1934  على حزب الثعالبي، أوّل حزب وطني تونسي . 
- نفس المشروع السياسي للحزب الإشتراكي الدستوري (براقماتية  سياسية ، ولاء تام للغرب ، سياسة الترغيب و الترهيب مع المعارضين و اعتماد  سياسة الهياكل الفارغة ( أحزاب ، غرف نيابية ، هيآت إستشارية و رقابيــة ، جمعيــــات ...) بقيادات تابعة و موالية لا يتجاوز دورها التسبيح بحمد السلطة  وتمجيد إنجازاتها وتبرير ممارساتها. تشويه الآليات الديمقراطية كالإنتخاب والإستفتاء والإستشارة الوطنية باستعمالها لتكريس الآحاديّة و الهيمنة والإنفراد بالرّأي . توظيف فلكلوري للهوية وللمقدّس (رفع  الآذان في وسائل الإعلام المرئية و المسموعة ، بناء المساجد ، الإحتفال بالأعياد الدينية ، اليوم الوطني للباس التقليـــــدي ... ) . رهن أجهـــزة الدولة وتحويل وجهتها لخدمة الحزب و قياداتــــه . استعمال جهــــازي الأمن والقضاء لقمع المعارضين و " المارقين على النظام ) ... 
- اعتماد نفس أسلوب الحكم و الذي عبّر عنه بورقيبة بأسلوب "العصى و الجزرة ".
- احتقار الشعب والإستخفاف به باعتباره غير مؤهــــل للمواطنـــة وهو عند الرّجلين و الحزبين   « poussière d’individus »  .
- توظيف القاعدة الشعبية للحزب في قمع المعارضين و إفساد تحركاتهم ( المليشيات ) ومراقبة المواطنين و الوشاية بهم ( لجان المراقبة و لجان الأحياء و ”الصبّابة“ ) أو للتعبئة الإحتفالية  ...
- اعتماد نفس الشرعيّة التاريخية : إخراج المستعمر و بناء الدولة ، عند الدستوريين وإنقاذ البلاد من حرب أهليّــة و هيمنـة ”الخوانجيّة“  و بناء دولة الحقوق والمؤسسات عند التجمعيين. 
2 - التجمع الدستوري الديمقراطي المؤتمن على التغييــر الديمقراطي والوحدة الوطنية  :
تبنى التجمع بيان 7 نوفمبر واعتبره البيان التّأسيس للمرحلة الجديدة للحزب و البلاد . فأصبح بذلك  الحزب المؤتمن على التغيير ( التغيير الديمقراطي ) وعلى  المبادئ التي نادت بها القوى الديمقراطية وناضلت لأجل تحقيقها عقودا . و جمّع أغلب القوى السّياسيــــة حولـه ثمّ حول  " الميثاق الوطني " الذي أعلن عنه في مؤتمر التجمع ( مؤتمر الإنقاذ ) المنعقد في 29_31 جويلية 1988 . والّذي وقّعه يوم 7 نوفمبر 1988 سبعة أحزاب سياسية ( كل المعارضات ماعدا حزب العمال الشيوعي ) و 15منظمة ، ليكون عقدا بين الفرقاء في التعامل السّياسي والمشاركة السياسية و ضامنا للوحدة الوطنية . 
 لازالت هذه الأحزاب الموقعة قائمــــة إلى اليوم ، من بينهــــا حزب النّهضة والإشتراكي التقدمي (الجمهوري حاليا) وحركة الديمقراطيين الإشتراكيين ( نواة التكتل الحالي) . و لم تقم أي منها بنقد ذاتيّ في دعمها لبن علي و لمساهمتها في وضع أسس حكمه وإكسابه وحزبه شرعيّة قيادة التحول الديمقراطي  وهما أبعد ما يكونا عنه، فكرا وتاريخا . 
وانبثق عن الميثاق  المجلس الأعلى للميثاق الوطني و الذي أصبح اللجنة العليا للميثاق الوطني . وهي أولى الهياكل الصورية التي تفنن التجمع و نظام بن علي في بعثها منذ ذلك الحين وإلى يوم فراره.
إلاّ أن هذه الوحدة الوطنية لم تصمد أمام  أول انتخابات تشريعية ورئاسية في 2 أفريل 1989  و التي كشف أنّ لا بن علي ولا حزبه الجديد راغبان في التغيير أو قادران عليه  ، وبأنهما تواصل للنظام البورقيبي الكلياني .
لقد أخطأت النخب السياسية لحظة التّأسيس بقراءتها للإنقـــلاب قراءة لا تاريخية تطغى عليها العاطفة و المصالح الحزبية . ولم تدرك بأنّ موازين القوى كان لصالحها . فهي موضوعيا و تاريخيّا صاحبة مشروع التغيير.  و غلّبت الآني على الإستراتيجي ، فلم تلتزم بمبادئها و لم تثبت عليها بالضّغط نحو تأسيس مسار للتغيير الديمقراطي المؤسّساتي بما يتطلبه من نقد للفترة السابقة و تحميلا للمسؤوليات والمطالبة بالمحاسبة و اجتثاث مؤسسات و رموز الفساد و ضمان المشاركة الحقيقية في الحكم و التداول على السلطة و وضع مسار يؤسّس لثقافة المواطنة الضامنة وحدها لعدم الإنتكاس  ...
لكنها اكتفت  بالمناصب التشريفية و المواقع الديكورية التي أحدثت شرخا في الحركة الديمقراطية بانقسامها إلى راديكالية و موالية وانقسام أحزابها  إلى منسجمين و معارضين . انقسام و تهميش كلّفا الشعب التونسي معاناة ثلاث وعشرين سنة مارس خلالها نظام بن علي بقيادة حزبه  أبشع أساليب القمع و الإرهاب وإقصــــاء الوطنيين والديمقراطيين و الأحرار و كلّ من عارضــــه . وكرّس دولـــة الحزب وحزب العصابات  فأصبح الولاء للتجمع ولاء للوطن . فانتشرت ثقافة الفساد و المحسوبية و التمعش من الدولة والشعـب ، ثقافـــــــة أفسدت ما أسسته دولة الإستقــــلال من مؤسســات ، رغـم هشاشتها ،  وكرّست قيم العائلات المفيوزية التي تضع الولاء للعائلة و رئيسها " le parrain  " فوق كل الولاءات و تعتبر الغاية في الكسب المادي مبررة لأيّ وسيلة ، بل الشاطر " المهفّ " من يختصر طرق الثراء و ينتهج أقربها ، بالتحيّل و الرشوة وشراء الذمم  و السرقة و الإتّجار في كلّ ما يوفرالربح المادّي.حتّى أضحت القيم و الأخلاق مؤشرا على السذاجة و الغباء " دغفة وقلّيل " .
وكان التجمع ، في كل ذالك ، الجهاز التنظيمـــي و الفكـــري ، الرّاعي والمبرّر لهذه السياسة . و الحزب الأقرب لعصابة مفسدين تجمع بينهم المصالح المادية و السلطة السياسية و الإدارية الراعية لهذه المصالح و المانعة للسؤال والمحاسبة ، من حزب سياسي بالمفاهيم المتعارف عليها .
تواصل هذا الوضع تصاعديا خلال 23 سنة ، ليمس جميع الشرائح و المؤسسات و كلّ القطاعات في المجتمع ،  و يدفع بالبلاد نحو الإفــــلاس العـــــام ّ . ولم يعبر أحـــد من الدستورييـــن القدامـــى ولا التجمعيين عن رفض أو نقد أو لوم إلاّ للوطنيين المعارضين والمحاصرين في مقراتهم الحزبية والجمعياتية و المهجّرين والمسجونين وتحت التراب .ولم يصدعوا إلاّ بكلمة تسبّح بحمد بن علي و نظامه وحاشيته . بل وكانوا البوليس السري الواشي بالشعب نخبا و عامة و العين التي لاتنام ، الساهرة على تبييض ناصية النظام وحزبه . فويل لمن ينبت ببنت كلمة ضدهم ، أو ينوي ذلك في سرّه .
عاش التونسيون خلال هذه الفترة التجمعية مشهدا شبيها بحلبة صراع رومانية ، تهاجم فيها  السّباع  عبيدا ضعافا عزّلا ( الشعب ونخبه )  ، و المتفرجون ( التجمع و توابعه من المعارضة الديكورية ) يصفّقون مزهوين طالبين المزيد من الفتك و الدماء .  
كانت فترة حكم بن علي و حزبه فترة تصحّر كلّي . لا تعبير فيها عن فكر و لا عن مشروع مجتمعي  إلاّ الكذب على الشعب و على العالم و التدجيل و قلب الحقائق و إفراغ القيم  من مضامينها . كالديمقراطية و الحداثة و التنمية و التضامن و الوطنية. والمجتمع من حراكه الفكري و السياسي حتّى أصبح الوطني من لم ينقلب عن مبادئه و ينخرط في " سيرك السحــــــرة prestidigitateurs ". والمعارض من يحسن فنّ المقاومة و النطق بكلمة " لا " . من منّا لم يفاجئه  تاريخ 14 جانفي 2011 بحقائـــق مخجلـــة اكتشفناها عن هذا النظام  و حزبه الحاكم .
 
الشعب يريد
 
  اختلفت القراءات للتحركات الشعبية والأحداث التي آلت إلى فرار بن علي يوم 14 جانفي 2011 .
هل هي ثورة بالمفهوم السوسيولوجي و الثقافي ؟ هل هي قطيعة مع النّظام السياسي السابق و أسلوبه في الحكم ؟ هل هو تصعيد لقيادة سياسية تعبر عن هذا التغيير و تنطق على لسانه ؟ هل هو تغيير في مواقع و مصالح القوى و الشرائح الإجتماعيّة ؟ 
أسئلة عديدة مثّلت إشكاليّات حقيقيّة لتحديد طبيعة هذا التغيير البركاني الّذي عرفته بلادنا و الّذي امتدّ إلى بلدان عربية أخرى ومسّ كلّ بلدان العالم ، حتّى أنّ شعاراته رفعت وبلغة التونسييــن في نويويرك و اليونان و بلدان عديــــدة عبّرت شعوبهــا عن رغبة في التغيير" الشعب يريد " .
لقد رفعت ثورة 14 جانفي 2011  الشعارالمركزي الشعب يريد  وشعارات أخرى ( التشغيل استحقاق يا عصابة السراق،Dégage ياخماج ، الشعب يريد إسقاط النظام ، Dégage  RCD )    
لتعبّر عن وعي و عن إرادة . وعي بأنّها أدركت عمق الفساد واستحالة استمراره أو إصلاحه و عن إرادة في  التغيير الجذري واجتثاث منظومة الفساد كاملة برموزها و مؤسساتها و القطع معها ومع أساليب عملها نهائيا . إرادة في التّأسيس لمجتمع يحقّق " الحرية والكرامة و العدالة الإجتماعية " . وكان مسار الأحداث تصاعديا على مستوى التحركات و الشعارات ، رافضا المصالحة والصّفقات مطالبا بالتأسيس :
( مسرحية مسرحية، والحكومة هي هي -  الشعب يريد إسقاط الحكومة -  الشعب يريد مجلسا تأسيسيا ) .
 ومحدّدا الأعداء : ( يا نظام يا جبان، شعب تونس لا يهان - تونس - تونس حرة حرة و التجمع على برة - التشغيل استحقاق، يا عصابة السراق - dégage  dégage   ياخمّاج ) . 
ولذلك ، ودون الخوض في  جدل استباقي حول مستقبل الثورة ومصيرها ، نقول إنّها ثورة .
  ثورة بدلالات مطالبها ( شغل ، حرية ، كرامة ...)
  ثورة بما أحدثته من تصعيد لقوى و شرائح اجتماعيّة و جهويّة كانت مهمّشة رغم نسبتها العددية الغالبة في المجتمع التّونسي ( العاطلين عن العمل – الفقراء و المهمشين – سكان المناطق الداخلية ).
  ثورة بانتماءات قياداتها الميدانيّة  إلى الشريحة الثائرة ( النقابيون القاعديون و الجهويون – الشباب المثقف ) .
  ثورة لشعبيتها ( الإلتحام الجماهيري الكبير و الإنتشار الجغرافي العام ) .
  ثورة لتجذّرها ( لم تطالب بالإصلاح بل بالتغيير الجذري  ) .
  ثورة لشموليّة مطالبها ( لم تقتصر على المطلبيّة الإجتماعية بل كانت مطالبها سياسية و ثقافية ...) 
  ثورة بأدواتها النضالية الكلاسيكيّة و الإبداعيّة الجديدة (الإستشهاد " الإحتراق " – المسيرات النهارية و الّليلية   – المظاهرات – الإعتصامات - صحافة المواطنة – الإعلام الرقمي ...) .
بقي أن نسأل إن كانت قادرة على  إفراز نظام  مجتمعي يضمن الحريّات الفرديّة والجماعيّة و الفصل بين السّلط و استقلال المؤسسات و التوازن الجهوي و العيش الكريم و الرفاه  لكل المواطنين ؟ هل هي قادرة على تأسيس ثقافة المواطنة والإبداع والعمل بدل ثقافة القصور و التمعّش و التواكل ؟ هل هي قادرة على ابراز نخب جديدة مؤمنة بأهدافها  معبّرة عنها ؟ هل هي قادرة على بناء مؤسّساتها وتنظيماتها الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية والثقافية ؟ هل هي سيرورة أم لحظة يتيمة لا مستقبل لها ؟
إنّ هذه الإشكاليات تحيلنا إلى أهمّ شروط استمراريّة الثورة، وهي استعداد النّخب لنكران الذات لصالح  أهداف الثورة و سعيهم اعتماد استحقاقاتها خارطة طريقهم . وقدرتهم على القطع مع منظومة الفساد قطعا مؤسّساتيا وثقافيّا ، بالأدوات السياسيّة الديمقراطية لا غير .
 
 فبقدر انحياز النّخب عن  هذه الإستحقاقات و انحيازهم لموضوعات ومهام مغايرة لها ، يكون عدم الإنتماء ، و الإصطفاف موضوعيّا ، في صفّ الثورة المضادة . 
إذن  إنّ الإنتماء إلى الثورة هو التزام متواصل بأهدافها و الإلتفاف عليها هو تهميش لهذه الأهداف و لو من أطراف عرفت تقليديا بانحيازها لهموم الشعب و بتضحياتها ونضاليتها .
لقد ألغت الثورة في اعتقادي الشرعيات الماضية ( شرعية النضال والتضحيات ...) لتضع منطقا جديدا ، منطقا تقدّميّا ينقض الشرعيات المنزّلة على الشعب ويبرم شرعية الحلول المستقبلية شرعيّة البرامج المجيبة عن الإشكاليات و المحققة  للفعاليّة الآنيّة و المستقبليّــــة ويجعل المواطن ( الشعــــب ) هو القاضي و الحكم في تحديد من يمتلك الفعاليّة من غيره .
على من يروم خدمة الشّعب و الاصطفاف إلى صفّه ، أن يلتزم بفكر الثورة ، فيكتسب شرعيّتها لاشرعيّة الماضي النضالي أو شرعيّة الضحيّة أو شرعيات أخرى ماضويّة المصدر ، " شكر الله سعيكم"،  فيحقّــــــق بذلك النّجاعـــــة لا المكاسب الحزبيّـــة أو الطّائفيّــــــة أو الأيديولوجية أو الشّخصيّة . 
لأنّ " الشعب يريد " ثقافة جديدة تقطع مع ثقافة الفساد و تأسّس لثقافة المواطنة .
 
موقف و موقع التجمع الدستوري الديمقراطي
و الأحزاب المتفرعة عنه من الثورة 
 
عرفت الثورة التونسية تواصلا مع الحكم التجمعي مع جرعة معارضة ، وذلك في  حكومتي الغنوشي الأولى  و الثانية  برئاسة رئيس مجلس نواب بن علي ، كأوّل رئيس لجمهورية الثورة . وكانت هذه الحكومة الإستراتيجيا التجمعية ، بالمفهوم الموضوعي للكلمة ، لإعادة صياغة انقلاب 7 نوفمبرجديد . وذلك باقتراح مفارقة " التجمعيين   النّظاف  - التجمعيين   الوسخين " لشخصنة الفساد الحاصل في فترة حكم بن علي وتقديم مؤسسة الحزب كإحدى ضحايا ه. وهو سيناريو يجنّب التجمّع و التجمعيين الإقصاء و المحاسبة الجماعية كحزب شارك في الفساد بل أفسد المجتمع .
واستجابت بعض أحزاب المعارضة  لنداء الواجب الوطني ( حسب قراءتهم ) وشاركوا في حكومة الغنوشي الأولى و انخرطوا في هذا الحلّ انقاذا للبلاد . 
هذا على مستوى الجهاز الحكومي أمّا على مستوى الحزب فإنّ التجمعيين  لم يؤيّدوا الثورة و لم يلتحقوا بها بل التزموا الصمت والمراقبة. وهو نفس الموقف الذي اتخذه الدستوريــون في انقلاب 7 نوفمبر . و هو موقف طبيعي (لحزب ) فاقد لفكر مميز و لبرنامج مجتمعي  و لفعل سياسي مؤثر  في الواقع . حزب تابع للدولة متمعّش منها ، لا تجمع بين أفراده إلاّ المصالح المادية  .
أرسلت قياداته  بالونات اختبار ليتحسّسوا موقف الشارع منهم  على أمل تخفيف الأضرار وتحيّن الفرصة السانحة و الإعداد للعودة إلى السلطة من جديد . إذ صرّح أمينهم العام بأنّه " لايجب التفريط في حزب له تاريخ ...و الحزب مطالب بالقيام بإصلاحات جذرية و تغيير إسمه و العودة إلى الثوابت التي تقوم على الوطنية والحرية والكرامة للتونسيات والتونسين ...وهناك قرارات ستتخذ في بعض الأشخاص و الحزب سيكون بوجه جديدة ...ونحن نقبل حتى أن نكون حزب معـــارض ، ليست لنا عقــــدة في هذا المجـــال" (تصريح محمد الغرياني أمين عام التجمع للقناة التلفزية الفرنسية France 24  في 2 -2 -  2011 ) .
بدّد اعتصام القصبة الثاني آمال الدستوريين و أطاح بخطط حكومتهم  بالإصرار على تحقيق مطلب الثورة في التغيير الجذري ورفض رموز العهد البائد و مهندسيه " اعتصام اعتصام، حتى يسقط النظام ". (وقد عاقب في انتخابات المجلس الوطني التّأسيسي من شارك من الأحزاب في هذه العمليّة رغم رصيدهم النضالي ضد بن علي ومن قبله ). 
وكانت الإستجابة بحل الحكومة و الإبقاء على الرئيس و تشكيل حكومة من ( بيرقراط) برئاسة الباجي قائد السّبسي وهوممّن أحالهم نظام بن علي على التقاعد  السياسي منذ سنين ، فالتزم الصمت المؤيد لهذا النظام ، رغم أنّه رمز من رموز البورقيبية والدستورية المنقلب عليها . فكيف شكّلت هذه الحكومة و من شكّلها ؟ أسئلة بلا إجابة إلى يومنا. لكنّها تعبّر عن إصرار النظام القديم ورموزه على العودة إلى الحكم باستعمال أساليب مكيافيليّة ، بعيدة عن الوضوح والشّفافية تعودوا على نسجها في أروقة المكاتب وفي الدّعوات الديبلوماسيّة ...  . وذلك لأنّه لا وجود لهم خارج دوائر الحكم ، فكما لم يستطع الدستوريون تشكيل معارضة لبن علي، لايمكن لهم اليوم و لا للتجمّعيين البقاء خارج دائرة الحكم .  
حُلَّ التجمع الدستوري الديمقراطي  في 9 مارس 2011 بحكم قضائي و ليس بفعل ثوري كما هو الحال في الثورات التي عرفها العالم منذ القرن الثامـــن عشــر. الثورة الفرنسيـــــة 1789،   البلشوفية1917  ، الصينية 1949  ، الإيرانية 1979 فثورة السود في جنوب افريقيا 1983 ...  و التي أطاحت بالأنظمة الحاكمة وأسّست على أنقاضها أنظمة ثورية مؤهلة لتحقيق أهدافها . لم يحلّ الثوّار التجمّع و لم يؤسسوا على أنقاضه تنظيمهم السياسي . 
خلال هذا الوضع المتعثر الذي عرفته الثورة في مستوى قيادة وتسيير البلاد ، سمح بتأسيس الأحزاب دون شروط جدية إلى أن أشرفت على المائة . و لا ندري إن كان التجمعيون مهندسي هذه الخطّة أم لا . لكنّنا نعلم أنّها سياسة أغرقت السّاحة و أربكت العمل السّياسي و ميّعت دور الأحزاب  و مكّنت التجمعيين من إعادة التنظّم ببعث ما يقارب الثلاثين حزبا ترأستها زعامات تجمعية من الصفّ الأول كـمحمد جغام عن حزب الوطن و كمال مرجان عن حزب المبادرة و الصحبي البصلي عن حزب المستقبل  و فوزي اللّومي عن الحزب الإصلاحي الدستوري ...أو أخرى من الإطارات الوسطى و التي لم تبرز في العهد السّابق . وذلك بعد محاولتهم الأولى اليائسة في البحث عن عذرية جديدة و البروز كمستفيدين من الثورة .  
عرفت الثورة علاقة كرّ و فرّ بين الجماهير الثائرة و بقايا النظام السّابق . تمثّلت في :
إصرار التجمعيين على العودة إلى صدارة الأحداث و افتكاك المواقع و استغلال نقاط الضّعف والإرباك الطبيعي و المفتعل لأداء الفاعلين السياسيين ، بتوضيف دهاء سياسي اكتسبوه خلال نصف قرن ، وعملت زعاماتهم في الحكم على ركوب الأحداث و استغلال الظروف الملائمة للتّمركز في  أجهزة الدولة و الإدارة  وتوضيف سلطتها لتهيئة الظروف لما بعد حكومة السّبسي  ( السيطرة على الإدارة بالتمركز في المواقع الحسّاسة " أكثر من 600 تسمية وترقية في مناصب قيادية وحكومة السبسي مستقيلة مثلا ..." )  . 
ضغط الشّارع بما لديه من أدوات ( مسيرات ، اعتصامات ) لإفشال هذه السياسات وتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقة من مكاسب .  
إذن يمكن تلخيص استراتيجيــــا التجمعييــــن بعـــــد فرار بن علي في مرحلتين :
مرحلة محاولة شخصنة الفساد و انقاذ الجهاز ومن خلاله أهم الرموز .وهي التي سبقت زمنيا حلّ التجمّع . وتتمثل في تقديم التجمّع كضحية وقع استغلاله ، كحزب جماهيري ، من طرف القصر و بعض المنصّبين في هياكله المركزية و الّذين لا يحملون مبادئه وأفكاره من يساريين وانتهازيين تابعين للعائلة الحاكمة . وبأنّ التجمعيين الدستوريين قاوموا وحاولوا الإصلاح من داخل الجهاز وأنقذوا ما أمكن إنقاذه من ماء الوجه  . و اليوم هم يباركون هذا التحول المبارك و مستعدون للمساهمة في قيادته بما لهم من تجربة في الحكم ومن علاقات ونفوذ وطني و دولي .
 مرحلة مراقبة الأوضاع و الإستعداد لإعادة التشكّل في صيغة تلائم الوضع الجديد . وهي مرحلة امتدت إلى انتخابات 23 أكتوبر 2012  . وقد فرضها الوضع التنظيمي الجديد و موقف الشعب من حكومتي الغنوشي . وقد كانت كلمة السرّ في هذه المرحلة  : التواجد في مؤسسات المجتمع والدّولة ( الإدارة ) و افتكاك مواقع قيادية فيها وبعث مؤسسات أخرى ( أحزاب ، جمعيات ، نقابات ...) و المشاركة في انتخابات المجلس الوطني التّأسيسي بقائمات الأحزاب الجديدة وتشريك ذات نفوذ مالي و نجوم الرياضة و الفنّ  فيها...و العمل على اكتساب أكبر عدد ممكن من المقاعد .  واستغلال قرار إقصاء القيادات التجمعية من الترشح للبروز في موقع الضحيّة .  
وقد ساهمت حكومة الباجي قائد السبسي في انجاح هذه الإستراتيجيا بالحدّ من مدة الإقصاء ومداه عند صياغة الفصل 15 من المنشور عدد 35 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التّأسيسي. وكذلك بالترخيص ببعث الأحزاب التجمعيّة رغم الجدل الدّائر حول شرعيّة ذلك من عدمه .كما أنّها لغّمــــت الإدارة بترقيــــــات بوجوه تجمعيّـــــــــة الولاء والإنتماء لامبرر لأغلبها . إضافة إلى تأجيل الحسم في موضوع محاسبة رموز العهد البائد من التجمعيين و رؤوس الأموال منهم خاصّة بدعوى أنّ المحاسبة فردية و لا يمكن إلاّ أن تكون في نطاق العدالة الإنتقالية . وهي من مهام حكومة منتخبة دائمة .أي أنّه موضوع مؤجّل إلى ما بعد انتخابات التّأسيسي .
لقد حقق التجمعيون مكاسب و احتلوا مواقع و أعادوا ترتيب البيت و لم يكونوا ليحققوا ذلك لو وقع الحسم في مسألة تسيير المرحلة الإنتقالية و التي امتدت سنة بقيادة سياسية لرموز  التجمّع .