زاوية نظر

بقلم
جيلاني العبدلّي
من الرعيّة إلى المواطنة

 الرعيّة كمصدر لفعل رَعَى تعني الضبط والمراقبة، وتُحيل على السواد الأعظم من الخاضعين للأمر الواقع المحكوم بآليات السيطرة والترويض والمراقبة.

بهذا المعنى عاش التونسيون لأكثر من خمسة عقود تحت حُكمي الديكتاتورين الراحل الحبيب بورقيبة والمخلوع زين العابدين بن علي، وخضع غالبيتهم للحكم الفردي وأشكال القمع والمنع والمراقبة والمصادرة، ودبّ فيهم الخوف والتخويف من شقّ عصا الإذعان ورفض سياسة الامتهان، وانتشرت بينهم الوشاية والدسيسة، وانساق كثير منهم إلى التزلف للحاكم والتمسح له والإطناب في تعظيمه والتفنّن في مدحه، وساد عند كلّ طلوع له أو ترحال التحشيد والتطبيل والتزمير والتصفيق والتنميق، وأضحى نيْل الحقوق مشروطا بمدى الولاء وإثبات الوفاء.
 وهكذا جرى ترسيخ ثقافة الرعيّة في الواقع اليوميّ بدل المواطنة، وجرتْ معاملة التونسيين طيلة هذه الحقبة المظلمة كرعاع وحشوة وسواد ودهماء في استخفاف جليّ بهم رغم ما عرفوه من تحولات تعليمية وثقافية واجتماعية، وما أصبحوا عليه من وعي دفعهم إلى التمرد في محطات كثيرة على نظام الحكم، وهو الذي قادهم إلى الثورة على الديكتاتور زين العابدين بن علي وعملهم على اجتثاث منظومته في القمع والمصادرة والاحتكار التي رزحوا تحتها طويلا، وهم اليوم مُصرّون على رفع التحدي عاملون على تكريس مواطنتهم التي طالما افتقدوها ونشدوها.
والمواطنة كمصدر للفعل – وَاطَنَ - وفْق ميزانه الصّرفيّ - فَاعَلَ – تقتضي المشاركةَ والاشتراكَ إذ نقول: - وَاطَنَ - الرَّجل قومه أي قاسمهم العيشَ في وطن واحد، وأضمر فِعْلَه معهم، ووافقهم عليه، وهو ما يعني المعايشة والإقامة في إطار جغرافي معيّن، والتوافق فيه على الفعل ظاهرا وباطنا. وبالتالي فهي انتماء لوطن محدّد يرتبط مواطنوه بمنظومة من القيم الثقافية والقوانين المنظمة لحقوقهم وواجباتهم على قاعدة الانصاف والمساواة والأمن، وبهذا المعنى تفترض المواطنة دولة وطنية تُقيم مجتمعا وطنيا يقوم على إدارة العيش المشترك، ونظاما ديمقراطيا يوازن بين الحقوق والواجبات، وهو ما يطمح له عموم التونسيين، ويعملون عليه بعد إطاحتهم بنظام الجبروت في الرابع عشر من جانفي 2011، من أجل الخروج من ظلام الرعيّة وانسحاق الذات إلى نور المواطنة وتحقيق الذات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
 وإنهم لِغايتهم هذه لمَدركون إذا ما تسلحوا بروح المسؤولية، والتزموا ببناء مجتمع متكامل متوازن يرغد فيه المواطنون فيسعدون، ولا شك أنّ من "سعادة المرء أنْ يكون رزقه في بلده" كما يقول علي كرم الله وجهه علاوة على حقوقه الأخرى المكفولة في إطار التوافق والتعاقد والالتزام