موقف سياسي

بقلم
محمد بن قاقة
ألا تستحون؟

 من التصرفات التي  أعتبرها ارتدادا على أهداف الثورة و نكوصا عليها ، والتي في اعتقادي لا تحتاج إلى تحليل و كثير من الجدل ، كلّ تصـــرّف من مسؤول حكومــــي أو ممثل للدولة أو السلطــــة في أي مستوى من مستوياتها ، يسعى إلى تحقيق مصلحة فرديّـة، في مثل هذا التّوقيت من الثّورة ( المجيدة و المقدسة ...) ليصبح بذلك ماهو بين قوسين تملّقا و قفّة سئمناها و أقرفتنا سنين عديدة يضحك بها قائلوها ، ممّن ذكرنا ، على ذقوننا و يتاجرون بها لتثمر تجارتهم أموالا ومصالح خاصّة و فرديّة  تزيد في نهمهم .

إنّ من أوكد استحقاقات الثورة إعادة الثقة بين الشعب و نخبه وبين الشعب و مؤسسات الدّولة ، وخاصّة النّخب السياسية ومؤسستي السلطة التشريعية ، الممثلة حاليا في المجلس التّأسيسي  و السلطة التنفيذيّة  و الممثلة في الحكومة . هذه الثّقة التي هرّأتها علاقة السّلطة السّابقة بالحكم . وهي ، كما علم من لم يكن يعلم ، علاقة الغنيمة و البقرة الحلوب . علاقة الضمآن بالماء . إن لم يجـــده فهو لاهث إليه ، و إن وجــــده لا يبقي منه قطـــــرة إلاّ احتساها .
و اليوم وأنا كمناضل سياسي و كمنحاز إلى المستضعفين من الشعب التونسي ، ليس لكلّ الشّعب التونسي ، لأنّ الظرف يتطلّب التمييز بين من هم مواطنون و بين من لا يزالون في وضع ”البيدون“ . اليوم أشعر بغضب و امتعاض ممّا يجري في ساحة نخبنــــا ، طلائع هذه الثّورة و المنتسبيــــــن للمدافعيــــن عنهــــا وعن  مصالحها .
حكومة تطالب بسنة بيضاء حتّى تخصّص كلّ الجهد و كامل الثّروة لإنقاذ " البيدون " ، علّها تقدر على إخراج بعضهم ممّا هم عليه من فاقة و بطالة . وقد أتفهّم هـــذا الموقف المنحـــاز أيضا ، رغم ما يكتنزه من شعبويّة و دمغجة ، لا يسمح المجال بمناقشتهــــا . لكن لنقل صدقوا .
في موقع آخر و في مستوى النقابات المهنيّـــة طلبات بالتّرفيــــع في الأجور بدعوى  الإلتزام بالإتفاقيات و دعم المقدرة الشرائيّة  للعمال . وهو رأي وجيه وحقّ  ، و إن أريد به أحيانا أقلّ من ذلك .لنقل أيضا صدقوا .
قبل كلّ ذلك ،   بالونات اختبار ترسل في الفضاء السياسي معلنة عن البدء في معالجة ملف التعويضات المالية الملياريّة للمساجين ، طبعا قبل ملف شهداء و جرحى الثورة الذي يمكن تأجيل النظر فيه.  فيسيل لعاب أغلــــب من شيّح النظــــــام السابــــق ريقهـــم ، ويصرخ الباقون ، بطولة  و نضالا ووطنيّة : ليست تضحياتنا للمتاجرة و كفانا أن كوفئنا بثورة الكرامة و الحريّة و العدالة الإجتماعيّة . آراء تسمع ، و لا طمعا في المال بل إحقاقا للحقوق . وشكر اللّه سعي الجميع .
في البدئ كان  توزيع المناصب الوزاريّة . وكنّا ننتظر من مناضلين ، ضحـــوا  لأجل مبادئهم ، تعفّفـــا و ترفّعا عـــــن المصالح الفرديّة و الذاتيّة و اعتبار المسؤولية ، حقيقــــة ، . ”تكليف لا تشريـف“. و لكنّا و كعادتنا لا ندرك عمق الأمور و لا نفقه إلاّ الظاهر منها ، وهم أعلم منّا بمصالحنا . كثرت الحقائب ، تعاونـــّا على همّ الزّمان  ”و تعاونوا على البرّ و التقوى“ و انتقي الأقارب و الأحباب  ، ليس إلاّ عملا بـ ”الأقربون أولى بالمعروف“ . و ما الانتقادات المثارة إلاّ ”حسدا و كرهــــا و جهلا بكنه الأشياء و عمقها“ . وقالـــــوا ” موتوا بغيضكـــــــم“  فقلنـــــا ”إنّهـــــم لا يقصدوننـــا بل لعلّهــــم  على حق  و عذرا على الإحراج“ .
ووو.. مواقف كثيرة توحي ببروز علاقات قديمة  بالمال العمومي ، لاحظناها و فأفزعتنا نحن المكويين بنار الفساد المالي  ، لكنهم أقنعونا بأنّ النوايا حسنة و الوضع غير الوضع و النخب الحالية أبناء الثورة ، فاقتنعنا ، بل قمعنا  أنفسنا بأنّه من الواجب أن نبحث للجماعة عن أعذار إنجاحا لهذه المرحلة الانتقالية وعملا بالقولة الشهيرة ”التمس لأخيك سبعين عذرا“ .
لكن يبدو أنّ الأمر وصل إلى حدود لا تسمح بالتّأويل و التّحليـل  ... و كلّ ذلك ”تبرويل“ على قول عمّ عبودة ولد الحومة . ولا مجال للبحث عن العذر الواحد و السبعين .
 فقد برزت النوايا و طفى على السّطح مخزون  ما يكتنزه العقل الباطني لنخبنا من حقيقية عقيدة السلطة عندهم ،  وعلاقتها بالمصلحي و بالمالي . و ما لا يفرّق بين اليمين و اليسار، بين المؤمن و الملحد ،  بين التقدمي و الرّجعي . عقيدة سادتنا بني أميّة ” تلقّفوها كالكرة“ لتحقيق كلّ الغايات ، إلاّ المصلحة العامّة.
لقد صفصت بحقيقة ما ردّده الشارع سنين و ما رغب في تغييره بثورته على الفساد وما أوهمنا أنفسنا بانتهائه ” ليست السياســـة والأحـــزاب إلاّ مطيّة للسّلطـــــة ، و السّلطــــة أداة للإستكراش ، وهو المبدأ المشترك بين جميع السّياسيين“ .
 وإنّ ما دفعني إلى هذا القول ، هو ما تابعت من حملة مسعورة لنواب الشّعب بعد ثورة الشّعب على أعداء الشّعب ، فيها نهم  لامتصاص عرق الشعب بغير حقّ و دون حياء ممّـــن لازالوا في بلادهم ” بدون“ وليس في صمت و في السرّ ”إذا عصيتم فاستتروا“ ، بل وهم يصرخون ، مطالبين  غيرهم ممّن تطاول عليه الفلفل و الطماطم و البصل المنتـــــن و ”كرني الكريــــدي“ و ممّن إذا اعترضه الجزار قال له : أين أنت يا أخي لم أرك منذ مدّة طويلة حتّى خلتك ”حرقت“ ؟ ، ” كفّوا عن المطلبيّة فاستحقاقات الثورة في مقاومة الفقر و البطالــة و التفاوت الجهوي“ و ليس في المطالبــة واستغلال الفرص . وهم يقرؤون قول اللّه تعالى :  ”كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون“ ( سورة الصف الآية 3 ).
ومن الجانب الآخر من البحر و في نفس الفترة الزّمنيّة  يقتـــرح ، بل يفرض ، من لا يشاركنا  نفس ”عقيدة المـــال و السلطـــــــــة“ ، على حكومته أن تتنازل عن ثلاثين بالمائة من أجورهم ، دعما للمجهود الوطني في التقشّف .
هم يرسلـــون رسائل طمأنة لشعوبهم ، لأنّ ثورتهم تجازوت القرنين . فهل يجب أن ننتظر قرنين لنُطمئن ” البيدون“ بأنّ نخبهم في خدمتهم . و ”الهٌم“ لا تعود على  النّخب.