بحث سوسيولوجي

بقلم
د. مصباح الشيباني
بحث سوسيولوجي في العلاقة بين العروبة والإسلام

  المقدمة

    في هذا الوضع المتردّي الذي آلت إليه الأمة العربية والإسلامية ومناخ التّناقضات والتّساؤلات الحضارية الكبرى منذ أكثر من نصف قرن، قد يبدو المتحدث عن المشروع القومي العربي مثل الطائر الذي خرج عن السّرب. لكن يظلّ من الصحيح أيضا أن التردّي الذي تمر به الأمة هو النّتيجة الطبيعية لغياب المد القومي وأنّ الخروج من حالة التردي والتخلف لا يكون إلا بالعودة إلى منطلقاته الأساسية. 
    نقف اليوم عند حالة من التحوّل التاريخي للأمة تسودها كل علامات العجز عن التغيير أوالتطور والفشل في معالجة ومواجهة تحدياتها الداخلية الكبرى (الاستبداد والتخلف والتبعية) والمخاطر الخارجية سواء في مجال الصراع ضد الامبريالية العالمية والصهيونية، أو في مجال النمو الاقتصادي وتجاوز التخلف. ولا يمكن لأي تجديد أيديولوجي أن يتجاهل قضية العلاقة بين القومية والإسلام باعتبارهما مسألتان مترابطتان بصورة جدلية، وما لهذا الترابط من إرهاصات وإشكاليات عامة وجزئية تستوجب البحث عن حلول جديدة.
 فالأمة العربية وحدها مازالت تحمل ظواهر حضارية مميزة في ذاتها، ظواهر مميزة للحضارة الإسلامية من لغة وفن وآداب وفكر وعادات وتقاليد..الخ وفي الأمة العربية ظواهر حضارية لا يمكن فهمها إلا على أساس من معرفة العلاقة الحضارية الخاصة بين الإسلام والأمة العربية.(1)
 
 1ـ علاقة توافق أم تعارض؟
 
   إن الحديث عن العلاقة بين الإسلام والقومية العربية يِؤكد أن هناك مشكل في طبيعة العلاقة القائمة بينهما ويستدعي منا جميعا  البحث عن حل. وهذه المشكلة تدفع اليوم بالمفكرين إلى الوقوف على وجود مشكل أو مأزق ما بينهما والأمر استفز العقول للبحث عن حلول حتى يتحول المشهد العربي من واقع التخلف والقطيعة بينهما إلى واقع التكامل بينهما.
  لقد تكوّنت الأمة العربية في ظل الحضارة الإسلامية ولم يكن الدّين قيمة مضافة إلى وجودها القومي. والدين الإسلامي بالنسبة إلى الأمة العربية أكثر من مجرد دين إذ هو جزء من نسيج قوميتها. لهذا، فإنّ الذين لا ينتبهون إلى دور الإسلام في تكوين الأمة العربية أو يتجاهلونه أيا كان منطلقهم العقائدي أو الفكري والأيديولوجي، سيرتطمون به عند أوّل احتكاك بقضايا هذه الأمة وفي البحث عن سبل النهوض بمستقبلها.
 
ومن المخاطر التي تهدّدنا اليوم محاولات تشويه حقيقة هوية مجتمعنا العربي وتفكيك مكوّناته الحضارية والتاريخية وإعادة بناء ثقافته وتقاليده وقيمه لتكون على ما يتفق مع مصالح دول الغرب. ففي ظلّ التغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة والمتشابكة بات الاستخدام السّياسي للدّيانات والمذاهب حينا وللقبلية والعروشية حينا آخر في مجتمعنا العربي يقدم نفسه على أنه بديل عن الاندماج والبناء الاجتماعي الوطني والقومي التي أصبحت، في نظر البعض، مهدّدة بالزوال في المستقبل. 
 أصبحنا نعيش اليوم، حالة الاستقطاب الحدي بين العلمانيين والإسلاميين على نحو غير مسبوق في تاريخ الأمة. بل نعيش في ظل مناخ عربي تهيمن عليه ما يسميه البعض بـ" الطائفية الثقافية" أو"الحروب الأهلية الفكرية". بدأنا نشهد حالة من الغلو بين هذين القطبين الأمر الذي يهدّد كيان المجتمع والأمة ويستنزف قواها ومواردها على حساب البحث في أمهات القضايا من تجزئة وتخلف واستعمار. إذ يعمد بعض الباحثين العرب والغربيين إلى تشويه صورة شخصية الإنسان العربي والمسلم، وإلى معالجة تطور المفهوم القومي عند العرب على نحو يغلب عليه الطابع الفكري والسياسي البحت في إطار عملية ممتدة من التشويه والتضخيم. وقد بدأت هذه الكتابات على نحو أكثر انتشارا بعد حرب حزيران / يوليو 1967 التي لم  تكن نكسة للعروبة فقط، بل كانت نكسة للمسلمين جميعا بضياع فلسطين، وما أدّت إليه من وقوع الوطن العربي كله في براثن الأطماع التوسعية الاستعمارية واحتلال بعض أراضيه من قبل الاحتلال الصهيوني. 
 
 إن فهم طبيعة العلاقة التاريخة بين العروبة والإسلام ما تزال هي وحدها القادرة على تفسير بعض القضايا الحضارية وذات المسلكيات الخاصة بالأمة العربية. فالإسلام حمى الأمة العربية حين احتمت الأمة العربية بقيمها الحضارية التي غرسها الإسلام فيها. فلم تمتد إلى النظام الرأسمالي داخلها جذور يصعب اقتلاعها، ولم تكن شريكة في عصابة الرأسماليين العالميين. وكلما بحثنا في ثمرة حضارية يقال لها عربية نبحث عن فرعها ثم جذورها نجد أنها من شجرة حضارية طيّبة زرعها الإسلام وحماها ونماها وحفظها حتى أثمرت. فليس هناك من سبب لدى الشعب العربي وليس من الوجاهة والموضوعية إلى القول بوجود تعارض أو تناقض بين علاقة الانتماء إلى الإسلام وعلاقة الانتماء إلى العروبة أو بنفي العلاقة بينهما حتى يستغنى بأحدهما عن الآخر. 
 وحتى تكون القراءة للعلاقة بينهما مُؤسِّسة لأصول الوعي الحقيقي بمشكلات المجتمع، وحتى تفعّل هذه العلاقة في مستوى الإدراك ( المخيال) وفي مستوى الأفعال( الممارسات) وفي مستوى المواقف والسياسات والعلاقات تقتضي أولا تحديد طبيعة هذه المشكلات؟ وما مدى وعينا بها والعمل على حلّها أي من أين نبدأ وكيف نعمل وإلى أين نتجه به في المستقبل؟ 
إنّ عدم الاهتمام بالبعد التاريخي والثقافي أو تجاهلهما في إعادة البناء المجتمعي، لن تؤدّي إلا إلى إعادة إنتاج رؤية أو وصفة علاجيّة شمولية وغير واقعية لمشاكله الحقيقيّة، فتكون بذلك عديمة الأهميّة في تغيير الواقع العربي نحو الأفضل. كما إنّ عدم التزام مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية بتأسيس المنظومة الثقافية والقيمية العربية الجديدة، والاكتفاء باستنساخ التجارب الغربية، لن يؤدّي إلا إلى حالة من الفراغ في الشرعية السياسية للتجربة الديمقراطية، وإلى الإخفاق في تأطير الجماهير من أجل ضمان تحقيق التماسك الاجتماعي وتجنب مختلف عوامل التشتّت والانقسام الداخلي. 
 
 علينا أن نجازف بقول أشياء معرضة للنقد وتكون موضع خلاف شريطة أن يكون في ذلك إثارة حقيقية لقضايانا الأساسية وليس لمجرد الترف الفكري أو من باب المغالطات أو الارتدادات التاريخية. ونتجنب سيطرة البعد الأيديولوجي على البعد العلمي أوهيمنة تصوّرات سياسية "منمذجة" ومعينة لإدراك العالم ومن ثم نضمن الحكم على قيم مرجعية معينة حكما موضوعيا من أجل طرح البدائل وانجاز مهمات محددة في زماننا ومكاننا المحددين.
  فالقراءة العابرة لابدّ أن تتولد عنها أخطاء بنيوية وإدراكية وأحكاما خاطئة ومواقف ازدواجية باعتبارها تركن إلى الحلول التوافقية وتكون حلولها ذات مصدرية خارجية أو لا تاريخية. ومن بين الأخطاء  اتهام القومية بالعصبية والعدوانية والشوفينية وهو ما يتعارض قطعا مع أحكام الدين الإسلامي " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" (المائدة ،الآية2). فكيف يكون النّضال القومي ضارا بمصالح المسلمين؟ 
 
 يقول بعضهم أن خطر القومية الأوّل يكمن في أنها تلهي المسلمين عن الصّراع ضد عدوهم الديني. وعرقلة الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام بإشعال مشاعر القومية. وما لم تحارب القومية فإنّها ستضعف حتما حركة المسلمين. هذا ما يردّده بعض الدعاة و"الروحيين" الذين حملهم جهلهم بالفكر القومي إلى اتخاذ موقف العداء من علاقة الانتماء القومي ويسعون وهم واهمون أن يستبدلوها بعلاقة الانتماء إلى الدّين، وقد نسي هؤلاء أنّ الإسلام عالمي في ذات جوهره وهو دين للناس كافة، ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. فالجماهير العربيّة ثارت على أنظمتها الفاسدة وانتفضت في مختلف الأقطار العربية ولم تكن مدفوعة بولاءات طائفيّة أو سياسيّة أو دينية، بل كانت تحرّكها المشاعر الوطنيّة والقومية الصّادقة في التخلّص من أنظمة الاستبداد ومن واقع التخلف والتّبعية إلى الغرب الاستعماري.
هل تمخضت التجارب القومية ـ السياسية والاقتصادية والاجتماعية ـ عن معوّقات موضوعية لتحقيق التقدم وبناء الديمقراطية أم أنّها كانت نتاجا طبيعيا نظرا لمعاداتها للإسلام مثلما يذهب بعض منتقديها؟
 
  2ـ أهداف الفكر القومي 
 
   يستهدف الفكر القومي بكل بساطة تقديم رؤية سياسية لقضية الأمة العربية توجه من خلالها مقومات نهضتها وتحدّد عبرها أسسها ومنطلقاتها. وهي كأي فكر إنساني مهما بلغ من الوضوح والعلمية يظل فكرا مجردا وعاجزا عن التّأثير إن لم يغتن بحركة الواقع، وإن لم يغتن بالتفاعل العضوي العميق مع تيار الحياة من حوله. فالتيارات القومية الثّلاثة الكبرى التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية (حركة القوميين العرب والبعث ثم الناصرية) كانت كلّها تيارات متكاملة رغم اختلافها حول الأسلوب. وكانت عبارة عن عطاءات فكرية قبل أن تكون برامج سياسية وعملية. وقد مثلت التجربة النّاصرية أوّل تطبيق عملي حقيقي للفكر القومي. وكانت هذه التجربة عميقة وغيّرت مجرى تاريخ الأمة، وحركت قوى التغيير كما استفزت القوى المعادية في الداخل والخارج.
 
  وتنطلق القومية العربية من واقع سياسي واجتماعي بعينه. تنطلق من واقع الأمة العربية مكتملة التكوين، تنطلق من وحدة الجغرافيا والتاريخ واللغة ووحدة المصير والآمال والتحديات. والإسلام ليس محصورا في المساجد أو الزوايا، بل هو دين ودنيا، الإسلام " عقيدة وشريعة". فلا فرق عند القوميين بين المسلم والقبطي، أو بين العربي والبربري والكردي منذ أن تشكلت هذه الأمة منذ أربعة عشر قرنا. فالتفسير التاريخي الذي يغيّب مقومات الوحدة العربية ويستحضــر تناقـــض "الأقليات" فيها ويتجاهل أسبــاب الاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي هو تفسير لا يساعد على فهم موضوعي لإشكاليات التنمية والتخلف وغيرها من القضايا العربية الأخرى.
 
 لاشك أن التردي العربي الرّاهن قد أفرز موجة من التشكيك في مقومات هويتنا العربية الإسلامية. لقد أصبح العداء إلى الوحدة وإلى من سلّموا وعملوا إلى تحقيقها يعبّر عن نفسه بأساليب جديدة ومتنوعة (ثقافية واقتصادية واجتماعية ورمزية) وما رفع شعارات الخصوصية الإقليمية المقدسة والهويات المتعددة الدينية والاثنية  والجغرافية  والمذهبية..الخ. إلا إحدى تجلّيات هذه الهجمة الجديدة ولو تمّت بلبوس ثوري أو حقوقي. ولذا أصبح العداء موجها إلى محاربة " وحدة الهوية العربية" كمرحلة ارتدادية ومن أجل تبرير التراجع عن هدف النهوض بالأمة وتفكيك عناصر قوة هويتها الثقافية.
  لم تكن مقومات الهوية العربية الإسلامية بالنسبة إلى الشعب العربي مسيحيا كان أو مسلما، عربيا كان أو كرديا،  ليست محل جدل أو اختلاف، لكن اليوم عادت مسألة الهوية إلى ساحة الجدال السياسي وينظر إليها أعداء الأمة على أنّها أم القضايا بعد أن كانت بديهة.
 
 إنّ الدين وحده لا يمكن أن يشكّل وحده مصدرالوجود القومي لأي شعب ، ولن يشكّل بمفرده هوية أي قومية، ولن يكون المصدر الوحيد لبناء التنمية. فتغييب جدلية التاريخ العربي القومي في دراسة ظواهره الاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية يحول البحث التاريخي والسوسيولوجي إلى نوع من التقرير السياسي والأيديولوجي الانطباعين، ويخدم الوضع القائم ويبرره ولن يكون في كل الأحوال قراءة من أجل تغييره لأنّه يعزل ماضيه عن مستقبله.
 يعتبر القوميون أن الإسلام مثل الهيكل الأساسي الذي قام عليه بناء الحضارة العربية. وإذا كانت الحضارة هي مصدر القيم والمعايير الأخلاقية والاجتماعية التي تفرق بين ما هو مقبول اجتماعيا وما هو مرفوض، فإنّ أي إنسان عربي مسلمًا كان أو غير مسلم، يعتمد في حكمه على الأشياء والحوادث اليومية بأحكام حضارته ومقاييسها الدينية. فالحضارة العربية القومية قامت على قاعدة الإسلام ونمت واكتملت في ظلّه. وليس غريبا أن يعرف تاريخنا العربي الذي يتميز بالتعددية في مستوى الشرائع والمذاهب وفي الألسن واللّهجات والقوميات والاتجاهات ألوانًا من الابتلاء والتوتّر، وأن نشهد اليوم من يريد إسقاط الأمّة العربية في مستنقع التّناحر المذهبي والاقتتال الداخلي بين الأعراق والأديان والجهات. 
 
 والدّعوة إلى العنصرية مهما كانت مسمياتها وخلفياتها هي الدعوة إلى النّكوص إلى ما قبل أربعة عشر قرنا. وهي الدعوة للخروج على عقلية وحدة الأمة العربية تاريخا وثقافة وحضارة ووجدانا، من أجل إعادة الصدام مع هويتهم وذاتيتهم. لا شك أن الدعوة الإسلامية كانت دعوة عالمية للناس كافة ولم يدع الإسلام لقومية أو سيادة عربية، غير إنّ ذلك لم يمنع خصوصية العلاقة بين العروبة والإسلام، ومن ثم اعتزاز العرب منذ البداية بدورهم في نشر الإسلام. ومفاخرتهم بالقرآن كتابا عربيا، وإكبارهم للغته العربية، لغة السّماء والأرض. 
لم تكن الرّسالات السماوية الكبرى وفق المشيئة الإلهية قد نزلت فوق هذه الأرض عبثا أو عبئا، بل كانت إحدى عوامل التوحيد والتّعايش بين القبائل والشعوب ، وعاملا رئيسا لصياغة القيم والرقي بالعادات فضلا عن أنّها كان لها دور ومسؤولية إنسانية وعالمية فرضتها العناية الإلهية على هذه الأرض لتدفع بالأمة إلى القيام برسالة حضارية ذات أفق إنساني.
 
  لقد عانت المنطقة العربية قبل نزول القرآن، قرونا طويلة من الظلم والصراعات القبلية والاحتلال الأجنبي ( الفارسي الوثني، والروماني المسيحي) ولم يكن غريبا أن تنضم القبائل المسيحية وجميع الملل والنحل العربية إلى جيوش الفتح الإسلامي، بل إنّ فتح مصر على وجه الخصوص لم يكن من الممكن أن يتم لو لا وقوف المصريين المسيحيين إلى جانب إخوانهم العرب في معركتهم ضد الرّومان.
ألم يستعن الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يروي الزهري، ببعض اليهود في حربه ضد المشركين وأعطاهم نصيبهم من الغنائم مثلهم في ذلك مثل المحاربين من المسلمين؟ ألم يسمح الرسول لصفوان ابن أمية، المشرك بالله، بأن يخرج معه في غزوة حنين؟ ألم يأمر عمر ابن الخطاب، كما يروي الطبري، أمراء المدن في العراق بأن يستعينوا بمن يحتاجون إليه من الفرسان المجوس؟ 
  فالموقف الفكري العدائي والدّعائي ضد القومية العربية على قاعدة أنّ الإسلام دعوة عالمية  لكل الناس دون تمييز عرقي أو ديني هذا الأمر نقرّه، لكن في الوقت نفسه ما نقرّه هو سلخ العروبة عن الإسلام أو افتعال التناقض بينهما. لأنّنا ندرك تماما أن لا تناقض بينهما من أي نوع. وأنّ بينهما لحمة عضوية لا تنفصم. وقد أسهم جميع العرب في بناء الدولة العربية التي ظل الإسلام والمسلمون فيها أقلية عددية لنحو قرنين من الزمان، فكانت انجازا عربيا قوميا، ولم تكن "دولة دينية" كما يتوهّم الذين لا يعلمون. 
 
لم تفشل دولة الخلافة العثمانية لأن دعاة القومية العربية، أو العرب عامة، قد تآمروا ضدها وخرّبوها كيدا للوحدة الإسلامية. لقد بدأت دولة الخلافة تفقد هيبتها وتفقد سيطرتها وتفرط في ولايتها على رعاياها وأرضها وشارفت على نهايتها قبل أن يعرف عربي واحد كلمة القومية، وقبل أن يحلم عربي واحد بالوحدة العربية. 
 كما تحرّرت الأقطار العربية من الاستعمار الأوروبي بعد أن اندثرت دولة الخلافة وبدونها. ولم تتحرّر إلا في نطاق حركة التحرّر العربي التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين. والشّعب العربي لم يستمع إلى نداء القومية إلا مقترنا بهدفه في التحرر والوحدة وفي الدّفاع عن كيان الأمة وحفظ وحدتها. وأي موقف يبارك تجزئة الأمة العربية ليس من حقه أن يدعو إلى الوحدة الإسلامية. لابد من حسم موقفنا أولاً من التجزئة قبل الاختيار بين العروبة أو الإسلام. فالوحدة الإسلامية لا تنقضها ولا تعوقها الدعوة إلى الوحدة العربية أو النّضال من أجلها أو تحقيقها.
 
   لقد كتب محمد عابد الجابري " إن اللغة الفصحى العربية ظلت دوما الرباط الروحي الفكري بين الأمة والشعوب القاطنة في المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، فالي جانب كونها لغة القراءة والكتابة وبالتالي لغة التواصل النظري والروحي فهي أيضا لغة القرآن وبالتالي لغة التراث وما تبقى من التاريخ.  وهذا ما أضفى ويضفي عليها  نوعا من القدسية. فكما كانت من قبل شرط الاجتهاد الديني أي التشريع فهي اليوم شرط الوجود القومي. إنها التاريخ العربي الإسلامي ذو الطابع الروحي المهيمن شيء واحد. لقد اندمجت في هذا التاريخ وأصبحت سر أسراره واندمج هو فيها فأصبح حاضرا يتخطى حواجز الزمن تماما كما فعلت وتفعل اللغة العربية نفسها"(2).
 
 إن المآل الأيديولوجي لخطاب ارتجاع الأصول القارة واستئنافها وكمون الإسلام فيها لا يمكن أن يكون بالنسبة إلى الإسلاميين إلا طلبا للحكم باسم الإسلام على اعتبار إن هذا يمثل الحكم السوي الوحيد.
 أما عند غيرالمسلمين، فهو ليس إلا ثابتا لا تاريخيا يعوض عن اتجاه قومي أصابه الوهن، أو عن ليبرالية دون ثقة اجتماعية أو ذات حنين إلى مجتمع قديم. ولذلك فإنّ المحصلة النهائية هي أداء أيديولوجي صرف، وليس تقريرا لوقائع، أداء مآله كما لاحظ أحد المفكرين الإسلاميين البارزين في صيغة تخوف وتساؤل خلق نوع من الانحياز المطلق إلى  ذات حضارية غير معلومة الحدود، وإلى خلق خصومة ـ نفسية  وثقافية ـ مع آخرين غير معلومي الحدود كذلك (3).
 
3ـ  القومية العربية والعلمانية 
 
هل القومية العربية هي نزعة فكرية علمانية؟
 تواجه المجتمع العربي اليوم عديد القضايا والمشاكل التي تمثل تحديات شملت  مختلف المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية باتت تهدد الوجود القومي من تخلف اجتماعي واقتصادي وتجزئة سياسية. ورغم هذا الحشد الكبير من القضايا المصيرية والتحديات التاريخية لم نشهد إلى اليوم حراكا سياسيا وثقافيا متنوعا ونشيطا بما يتلاءم مع اتساع هذه القضايا وخطورتها على مستقبل الأمة.
   نلاحظ  أنّ هناك نوعا من الإعاقة والشّلل في توجيه الرأي العام العربي بعد الثورة وتوجيهه ، بحيث استوطنت المشاكل وجدبت الحياة السياسية والثقافية شيئا فشيئا وباتت الأمّة تعيش حالة من التصحّر الثقافي والتخلف الاجتماعي والتفقير الاقتصادي الشامل، فعادت الرجعية والسّلفية إلى الظهور من جديد في ظل العجز المتواصل عن مقاربة مشاكل الأمة الرّاهنة بنفس مُجدّدة ومتجدّدة.
 
  لقد وصلنا إلى وضع كان قد وصفه المفكر الجزائري " مالك بن نبي" بقوله إننا منذ خمسين عاما نسير مبتعدين عن الأهداف التي أعلناها عشية الاستقلال من ربقة الاستعمار. فالأمل بالوحدة أصبح أبعد منالا والاستقلال المنجز لم يتم الحفاظ عليه ولم يكن تطويره ممكنا. وها نحن بعد خمسين عاما نستدعي المستعمر الذي طردناه من قبل وهو ما حدث في العراق وليبيا ويحدث اليوم في سوريا..الخ. 
  لقد كان الاستعمار الغربي للوطن العربي تخريبًا وتغريبًا. إنّه تخريب إقليمي لوحدة الأمة وتجزئة الولاءات العرقية والمذهبية من أجل تجزئة مواردها وحتى لا تتوحد قواها. وكان أيضا تغريبًا من خلال استبعاد الإسلام نظاما للحياة والاكتفاء به مناسك وعبادات. ومن نقض لإحدى مقوّمات الحضارة العربية الإسلامية في جوهرها.
 فالذين يسلبون عقول الناس بالتخويف من العروبة هوية أو من الإسلام دين حياة هم أكثر القوى حرصا على كتم الأنفاس واغتصاب العقول من خلال طرح إشكالية الهوية من جديد والتشكيك في مقوّماتها. وهي إحدى المسائل التي كنّا نعتقد أنّها لم يعد يوجد خلاف حولها في البلاد العربية عموما وفي تونس خصوصا.
 
  كانت أطروحات التيار العلماني ومحاولة  تبيئتها  في مخيالنا العربي والإسلامي مثار جدل ونزاع دائمين. لكن اليوم لم يعد مدخل العلمانية كمسار للتّحديث أو التّطوير صائبا مثلما يعتقد البعض. لقد تبيّن أن "مشروع العلمنة" لم يكن سوى وهم من أوهام الحداثة الغربية التي أنتجت عدة انتكاسات حضارّية للبشرية جمعاء(الحروب والنزاعات الطائفية والتبعية..). ولم تعد تذكرنا –نحن العرب والمسلمين- إلا بزمن الماضي التعس. الزّمن الذي تحتكر فيه ألفاظ "العقلانية" و"الحقوق والحريات" والتقدم..الخ من دون أن تكون هناك عمليّة توصيف حقيقي لهذه المفاهيم وشروط تحقيقها. ولذلك لم تعد تمثل بالنسبة إلى التجربة العربية المعاصرة سوى صخبا أيديولوجيّا يسعى إلى إذكاء الفتنة والصّراع حول مقوّمات هويّتنا، وإنتاج مجتمع أشباح ليس له وجود حقيقي عندنا. 
 
إنّ التحكم في مسار بناء المشروع النهضوي  للمجتمع التونسي والعربي واستيعاب استحقاقاته الرّاهنة، لا يمكن أن يكون عبر التمسّك بوصفة علاجيّة جاهزة غير قائمة على قراءة صحيحة لطبيعة مشكلاته الخاصة وأساليب حلّها بشكل فعلي. ومن المؤكّد أنّ العلمانية عندنا لم ولن تقنع الناس واقعا أو تصورا، وستبقى محتفظة بأسسها الفكرية ومضامينها الدينية وظروفها التاريخية الخاصة بالتراث الغربي المسيحي. ولأن للعلمانية نظاما، وللإسلام نظاما، وهما لا يتفقان في أكثر من وجه، ولما كان مصدر مشروعية أي نظام اجتماعي أو سياسي هو القبول العام، وكان أغلب الشعب العربي مسلمين، فان قبولهم نظام العلمانية لا يتحقق-بدون أكراه- إلا بالإبقاء على الإسلام دينا "لله" واستبعاده نظاما للحياة في الوطن الذي هو "للجميع" لتخلو الحياة العربية لنظام لا يتفق في أكثر من وجه مع الإسلام نظاما.(4) 
  كما إنّه ليس من الوجاهة العلمّية أن ننظر إلى الدّين نظرة جامدة – باعتبارها تتعارض مع قانون التطور- لأنّه شارك وما يزال في تأطير التحولات الاجتماعية وتشكيل خصوصية المعيش اليومي للمجتمع. فهذه المقاربة اليوم، لا تعبر سوى عن حمى حرب ثقافية وإعلامية، لأنّها لا تنطلق من صميم أصل المشكلات الحقيقية التي يعيشها المجتمع العربي (التخلف، الاستعمار، الاستبداد..الخ)، ولا تستهدف حل تلك المشكلات بشكل علمي ومدروس، بل اكتفت بالاهتمام بمشكلات ثانوية أو لم تكن موجودة أصلا في الصراع بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة. فمسيرة المجتمعات تختلف دوما هنا وهناك، ولا يمكن فرض رؤية واحدة بشكل مطلق، لأنّها تؤدي إلى الاغتراب إذا لم تكن مبنية على نقد وموضوعية وبصيرة(5). 
 
إنّ سبب تخلف المجتمع العربي يكمن أساسا في غياب القوى المجتمعية والمؤسساتية المدنية الفاعلة. والمطلوب اليوم هو بناء هذه المؤسسات أو إعادة الرّوح إلى بعضها حتى تعبر عن ضمير المجتمع والعمل على انجاز المشروع النهضوي بحلة عصرية وثورية ومن خلال المراجعة الجدية للتراث العربي والإسلامي وليس بالقفز عليه أو بالتنكر للمنجز منه.  والدّعوة إلى العلمانية الغربية، هي إفراز غربي ظهر زمن الانحطاط، وهي وليدة تجربة تاريخية خاصة  وظروف مختلفة تماما دينيا وسياسيا واجتماعيا و ثقافيا. الأمر الذي يتعذّر معه، بأي منهج علمي، أن ننقل المقولة إلى تربة غير التّربة التي نبتت فيها أو مناخ غير المناخ الذي نمت فيه إلا إذا تم ذلك بأساليب التعسف والمغالطة.
 وبالتالي، فإنّ قضية الفصل بين الدين والسياسة من أهم القضايا التي تفجرت منذ البدايات الأولى للقرن العشرين ولم تحسم بعد. ولعلّها ستبقى ما بقي الدّين، وما بقيت السياسة. والقول بالفصل بين الدين والسياسة هو الدعوة التي وصفها رشيد رضا بـ " المقالة الابليسية" نسبة إلى إبليس. وقال عنها الزعيم المغربي علال الفاسي إنّها من "الاسرائيليات الجديدة" التي اندست في التفكير الإسلامي. ومثلما يقول الإمام السني محمود شلتوت وشيخ الأزهر في عهد عبد الناصر في كتابه "من توجيهات الإسلام" من أنّه يصعب أن نفرّق في الإسلام بين ما يمكن أن يسمى دينا فقط أو سياسة فقط، فكل ما يتعلق بالعقيدة والعبادة دين. فالحقيقة أنّ جوهر الخلاف بين القائلين بالفصل بين الدين والسياسة والقائلين بالجمع بينهما، يكمن في الفرق بين مفهومين "الدين للسياسة" و "السياسة للدين". إذا، هو خلاف في عمقه ليس بين جمع وفصل، ولكنّه خلاف حول تحديد أيهما أولاً: الدّين أم السّياسة. 
 
الخاتمة 
 
 إنّ التجنّي على العروبة باسم الإسلام ، أو على الإسلام باسم العلمانية ليس من الوجاهة العلمية أو الأخلاقية في شيء. وهو ليس من الحكمة في شيء. لقد سقطت قيمة هذه الخطابات منذ أن أُنتُهكت مضامينها واهترأت ألفاظها فتحوَلت الحرية إلى عربون لبيع الوطن، وباسم الهوية تتمّ الدّعوة إلى الانفصال والتَناحر على صفحات الإعلام وفي حفل المبارزات الكلامية الفضائية وغيرها. ومشاهد البؤس في هذا الوطن مازالت كثيرة لا حدود لها والعمل الذي ينتظرنا جميعا عظيم جدا بقدر ما غفلنا عنه في الماضي وحتى الّسّاعة. فإذا لم ننتبه له اليوم جرفتنا الحوادث إلى هوة الموت غير مأسوف علينا".  
 فالإسلام لم يلغ ما صنعه التاريخ من قبله وإنّما طوّره إلى مستقبل أفضل وأكثر غنى وأكثر تقدما ومدنية وحرية. لم يكن الدّين الإسلامي مجرّد دين بالنسبة إلى الأمة العربية، بل كان عنصرا من عناصر تكوينها القومي وبالتَالي فهو جزء من وجودها ذاته. فالإسلام كان نورا والتكوين القومي كان تقدما. 
وهل الحرية والمساواة وتحقيق التنمية تساوي الاستغراق في "قضايا" لا علاقة لها بالواقع والتنكّر لمشاغل الجماهير وهمومها الحقيقية؟