الكلمة لأهل الإختصاص

بقلم
د.محرز الدريسي
النخبة في تونس: المتاهة و قلق الإصلاح (3) مجتمع الدولة ونخبة الدولة والإطلالات النقدية

 

مع تركز الاستعمار الفرنسي ونشر هيمنته العسكرية والإدارية على البلاد التونسية،أحدث تشويه في النسيج الاجتماعي والثقافي، و عمل على تمزيق النخبة وإحداث انشطار بين نخب حداثية وعصرية متخرجة من المعهد الصادقي ونخب تقليدية متخرجة من جامع الزيتونة، وخلق على مستوى المسميات وهيئات التدريس والمؤسسات التعليمية، حاجزا مؤسسيا و نفسيا،  بتوظيف خريجي المعهد الصادقي من النخب الحديثة والتغافل عن الزيتونيين أو بتشغيلهم في أنشطة إدارية دنيا. كما زرع المستعمر بذور الانفصال والتفرقة وعدم التعايش "الاستراتيجي" بين رؤيتين ومقاربتين، جاعلا من الإقصاء أداة تسطيح للمساهمات وإفراغ لثرائها وشل للدينامية الداخلية لخطاباتها. مروجا أنه لا يمكن أن تتقاطع النخبة العصرية والنخبة التقليدية، فارضا قانون الصمت أو الصمت المتبادل ، والصمت لا يحرك والتجاهل لا يثير الفكر ولا يخصب الرموز، بل يزعزع الثقة و القيم. و تكثفت  أثناء النضال الوطني  النخبة في نخب سياسية بامتياز أو بصفة دقيقة اتخذ المثقفون خصائص السياسي (رجل السياسة)، ولعل طبيعة المرحلة جعلت من الكفاح السياسي له الأولوية على الثقافي وإن كان الثقافي وحتى الاجتماعي والنقابي حاضرا بعمق. وهذه الفواصل التي رسمها المستعمر الفرنسي وغذاها وضخمها ساهمت بشكل غير مباشر في الانشقاق الذي حصل سنة 1934 بين الحزب الحر الدستوري التونسي والحزب الحر الدستوري الجديد، ولم تستطع الحركة الوطنية الحفاظ على وحدتها والصمود أمام الصراعات الداخلية. ودون الدخول في تفاصيل الصراع نكتفي بالإشارة إلى نقطة وحيدة أن ما روجت له دعاية الخط المنتصر من أنه انشقاق بين حزب "نخبوي" ارستقراطي وحزب "شعبي" خاطئة تاريخيا، وهي فكرة فندها هشام جعيط مبينا أن  الفكرة التي ترى أن الحزب القديم "نخبوي" (بالمعنى السلبي) أي منفصلا ومتساميا عن الجماهير لا أساس لها من الصحة، معتبرا أن خلاياه وشعبه امتدت إلى فئات اجتماعية متنوعة.(1)

من المؤكد أن خلافات في الرؤية والأسلوب ومنطلقات العمل الكفاحي حاضرة، وأن تناقضات كامنة في تحديد طبيعة الأهداف واختلاف في قراءة المرحلة، إلا أن رسم خط الانفصال  بين نخبة تقليدية ونخبة عصرانية، هو في الحقيقة تصنيف غير دقيق، لأننا نجد في كل من المجموعتين عناصر من العصرانيين في النخبة التقليدية وعناصر تقليدية في النخبة العصرانية. وهذا التصنيف المبسط والمبني مؤسسيا يخفي استقطابا أو تزييفا للحقائق، فبأي معيار ميتا- سياسي يمكن تصنيف النخب، أليس التصنيف احتكار للمعنى وإنتاج  لقراءة إقصائية؟ ألا يطمس السياسي بذلك كل تنوع ثقافي لتطوير الحراك داخل النخبة لإفراز منظومة معرفية أفضل وصياغة مبادئ مجتمعية جامعة؟

وسيخرج الانفصال من قمقمه مجددا مع صراعات أشد وأخطر بين التيار البورقيبي والتيار اليوسفي، حيث اتخذت الخلافات السياسية طابعا عنيفا ودمويا، أخرجها من سياقها الظاهر في تصور طبيعة الاستقلال  التام أو الداخلي  مفرزا انشطارا سياسيا مغلّفا  بتمايزات ثقافية و قيمية  وتباينات في التطلعات المستقبلية. انفجر الصراع وكشف تناقضا في العراء بين تيار يعتقد في نموذج أوروبي وتيار يعتقد في نموذج عربي- إسلامي، و أسس هذا الانشقاق لانشقاق شعوري وثقافي وذهني وقيمي لدى النخبة التونسية ، ستكون له استتباعات معيقة، وسيقحم داخل النخبة مفاهيم الإقصاء وعدم التعايش مع المختلف ورفض وحدة الثنائيات والتقاء الأضداد وكرس انعدام التسامح بين أبناء المنشأ الحزبي الواحد والوطن الواحد. هذا التباين السياسي و التنوع الثقافي، لم يتم التصرف فيه بطريقة موحدة ولم ينظر إليه كتمايز إيجابي وخصب، بل وظفت الآلة الحزبية في تضخيمه ووشم الفكر السياسي والممارسة الثقافية بطابع تصنيفي باهت منتجة نتوءات حادة في صلب النخبة.

وكان الهاجس التحديثي والإصلاحي والتنموي للمشروع البورقيبي مجسما في برامج الدولة، فدولة الاستقلال صاغت مشروعها السياسي حول تغيير العقليات والبنية الذهنية بتحديث بنيات المجتمع والحرص على استبعاد الهياكل التقليدية أو تهميشها. واعتمدت الدولة الفتية في ذلك على أجهزتها الإقناعية والدعائية والإيديولوجية والقمعية لإحداث التغيير الثقافي و الاجتماعي، في سياق متوتر وصراعي، حيث خيم مناخ التناقض بدل التنافس والتضاد عوض الحوار المشترك. و تضخمت الصورة  المبنية على "القطيعة" وعلى عدم التكامل وعدم البناء على المشترك، بالصراعات السياسية والحزبية والشخصية، جاعلة من النمـــاذج "الصادقيّـــة" و"الزيتونيّـــة" لا تتعايـــش ولا تتحاور، بل حــرص بورقيبة في سياقــات متوترة على جمع الزعامــة والإمامة (2)، فلم يكن مجرد رئيس دولة بل كان صاحب مشروع إصلاحي واجتماعي، وله موقف من التجديد الديني أو على الأقل لديه فهم آخر للمسائل الدينية عقيدة وتشريعا، وتطبيق رؤيته الإصلاحية، اعتمد مجموعة من الخطوات:

الخطوة الأولى: تفكيك البنيات التقليدية و إخراج الرموز الدينية- الزيتونية من دائرة الفعل والتأثير، وكان هناك إقصاء منهجي للنخب الزيتونية،حيث بادرت السلطة  بإغلاق جامع الزيتونة ومحاصرة النخب التقليدية وجمعية صوت الطالب الزيتوني خطابا و وظائف وآليات. ففي مستوى الخطاب برزت الاجتهادات البورقيبية في مسائل الصوم والحجاب ومدونة الأسرة مستعينا في ذلك بالبعض من النخبة الزيتونية التي ساندته إما اقتناعا أو خوفا. واعتمد رأس الدولة في إصلاحاته طابعا استعراضيا باستخدام "الصدمة النفسية"،  وأدى ذلك إلى تصاعد حدة التوتر في مسائل تحتاج للروية والتعقل والتحاور، مصطدما ببعض رموز مؤسسة الزيتونة أمثال ( الشيخ محمد الطاهر النيفر- الشيخ عبد الرحمان خليف...).

الخطوة الثانية: اهتم  بتقليص صورة النخبة الزيتونية المثقفة وتحجيم دورها كمدخل لإلغاء دورها الاجتماعي بإلغاء "الأحباس" (الأوقاف) و  توحيد دور المفتي  واختزاله في شكلانية  المنصب الإداري، و تم استثناء خريجي  الزيتونة من المناصب الوزارية والولاة (ولاة المحافظات)، فمن بين 93 وزيرا تداولوا على الوزارات من بداية الاستقلال (1956) إلى سنة (1980)، نجد

أن 4’91 % متحصلون على مؤهل جامعي (دبلوم عالي- إجازة- أستاذية) ولا يوجد أي وزير متخرج من التعليم الزيتوني. أما فئة الولاة التي تضم في نفس الفترة 78 واليا ، لا يوجد منهم إلا 4 ولاة متخرجون من التعليم الزيتوني  أما البقية فهم متخرجون من كليات الحقوق ومن المعاهد الفرنسية العليا المتخصصة (3).

واتسمت هذه المرحلة بزخمها في إسكات الرأي الزيتوني، لا انتصارا للدولة وأجهزتها بل انتصارا  لنموذج تحديثي وإصلاحي لا شك في ذلك، ولكن تمأسس على الإقصاء  والتنافي، و جعل السياسي يخنق التنوع الثقافي ولم يترك للجدل والمطارحات فرصة التلاقح بل نمط الثقافي مثلما نمط السياسي. في نفس الوقت الذي كان التعاطي مع النخبة المثقفة بمكيالين إما التوظيف أو التهميش ، وارتكز الجهد على أولوية بناء الدولة على حساب الحرية والديمقراطية كقيمة، ولعل هذا "الهرم المقلوب" طبع بنية الدولة الحديثة بمواصفات هيمنية وتسلطية أعادت إنتاج النموذج "الباياتي" وقد اتخذ طابعا جمهوريا مع تحريف دور النخبة.

و تميزت الحقبة الأولى- دون الدخول في التأريخ- "بفراغ ثقافي صارخ" حسب عبارة السوسيولوجي محمد كرو(4)، حيث لم تنجز أي كتابة مسرحية ولم تنتج إلا فلما واحدا "جحا" وهو إنتاج مشترك (تونسي- ايطالي) سنة (1957)، وتقلص الإنتاج الأدبي من 6 وحدات إلى صفر (5)،و قد يفسر ذلك بالانشغال بتركيز مقومات الدولة الجديدة إلا أنه يفهم أيضا الانطلاق في تحجيم الأصوات المختلفة والتشريع للصوت الواحد (الحزب الواحد).

ولم يكن الوضع استثنائيا بل يحكمه منطق يخلط بين الحزبية والوطنية وبين البنية الحزبية وبنية الدولة وبين الدولة وشخصية بورقيبة. وتعزز ذلك بتأكيد "الوحدة القومية" لخوض "الجهاد الأكبر" بعبارة بورقيبة  أي التنمية الاجتماعية والاقتصادية، واستوعبت جموع المثقفين في أجهزتها المختلفة في التسيير والإدارة. ورغم تطبيق استراتيجيات امتصاص النخب، وفرضت  التنمية "الاشتراكية الدستورية" خيارا رسميا لا فقط في التعبير التنظيمي بل حتى في التعبير الثقافي والإعلامي. وتعاطت الدولة مع النخبة باعتبارها مجرد "إطارات" إدارية، واعتمدت إستراتيجيتها على دمجها في أجهزة الدولة ودواليبها، وانخرطت النخبة مع الدولة الفتية في تدعيم صناعة "مخيال جديد" يدور حول "الأمة التونسية" والتونسة. وتضخمت الدولة من خلال جهاز إداري مركزي قوي، على حساب مجتمع انطلق فيه مسار التفكك وانهيارات للبنى التقليدية دون نشأة هياكل مدنية جديدة تشتغل فعليا، وقادرة على تحصين المجتمع. وجعل هذا الوضع من الدولة مؤسسة تبتلع كل المجتمع، وصارت الدولة هي الباعث الاقتصادي والمبدع الثقافي والمتحكمة في كل المؤسسات وهي الفاعل الوحيد،أي دولنة المجتمع، بل تزعم رأس الدولة " كل نشاطات الأمــة، فيصبــــح مجتهدا أو فقيها وأديبا وعالما (..) مع لعب دورالزعامة الفكرية في المجتمع والتأثير في المجتمع وفي الدولة"(6).

وسدت الدولة تقريبا كل إمكانيات الفكر الحر والتفكير المغاير والنظر المتنوع، و اندمجت النخبة في دواليب الإدارة وهيكلت العمود الفقري للدولة التونسية، وتناغمت مع الحزب الحاكم ، وأسست لنواة المأزق الخانق للانصهار بين الدولة والحزب. والنخبة المثقفة المنصهرة والموظفة والتي دفعت أو انخرطت في مرحلة من الإغفاءة المطولة، مثلت نموذج النخبة المثقفة الأنقليزية المرتبطة بالسلطة مع عدم تخليها عن دورها النقدي، في حين أن نخبتنا المثقفة تماهت مع السلطة والتبست بالإداري و تخلت النخبة عن دورها النقدي بل زوّقت وسوّقت، ولم تساهم النخبة المثقفة في  تفعيل المجتمع المدني مقابل تغوّل الدولة.

بهذا المعنى سيّجت كل مساحات التفكير مع هيمنة فكر سياسي دعائي و مشخصن يدور حول تسيير الدولة وإنتاج فكر سياسي غير خصب ومشاريع تنموية مترددة وسلوك سياسي مهتز وأفق مستقبلي مسدود،و انشغلت النخبة في تصريف الأمور وفقدت عندئذ دورها التاريخي والنقدي وغابت الثقافة السياسية النقدية.

لهذا لا تزال التجربة البورقيبية تشكل المجهر الذي نفحص به ومنه الطابع الهيمني والتسلطي للدولة الحديثة، فلئن غادر بورقيبة فإن البورقيبية- كنمط حكم وكنموذج تعامل مع النخبة- لم تغادر الفضاء السياسي والثقافي، بل بقيت الثنائيات الانشطارية مترسّخة نافذة في "العقل الجمعي"، واستمرت احتكارية الحداثة والهوية تمزق "الشخصية التونسية" حسب عبارة المنصف وناس (7) دعمته السلطة وتبنته النخبة وكرسته السياسة

----

(1) جعيط.الشخصية العربية الإسلامية، والمصير العربي، دار الطليعة، بيروت، 1984.

(2) لطفي، حجي. بورقيبة والإسلام ..الزعامة والإمامة، دار الجنوب للنشر، تونس، 2004.

(3)عبد القادر،الزغل،أسماء، العريف."سلطة المثقفين ومثقفو السلطة في تونس"، في الأنتلجنسيا العربية، الدار العربية للكتاب، بن عروس (دون تاريخ).

(4) محمد، كرو."المثقفون والمجتمع المدني في تونس"،في الأنتلجنسيا العربية، الدار العربية للكتاب،بن عروس(دون تاريخ).

(5) محمد، كرو."المثقفون والمجتمع المدني في تونس"،في الأنتلجنسيا العربية، الدار العربية للكتاب،بن عروس(دون تاريخ).

(6) هشام،جعيط. الشخصية العربية الإسلامية، والمصير العربي، دار الطليعة، بيروت، 1984.

(7)  المنصف، وناس. الشخصية التونسية،محاولة في فهم الشخصية العربية، الدار المتوسطية للنشر،أريانة،2011.