في السياسة الوطنية

بقلم
فيصل العش
مطبّات في طريق الثورة (2)

 تعرّضنا في العـــــدد الفارط إلـــى خمـــس مطبّات تقف في طريق نجاح ثورة التونسيين وسنردفها في هذا المقال بخمس أُخَر ونلقى عليها الضوء بالذكر والتحليل قصد إنارة السبيل أمام القوى الوطنية الصادقة التي تعمل جاهدة على تحقيق أهداف الثورة ونجاح المسار الديمقراطي للبلاد حتّى تأخذها بعين الإعتبار في أنشطتها ومخططاتها . 

 
المطبّ السادس :
بنية اجتماعية متآكلة
 
وقف الجميع بدون اختلاف على الوضع الخطير الذي أصبحت عليه البلاد والذي أنتجه حكم بن علي ونهب عائلته وأصهاره. فجميع المحللين متفقــــــون على الضعف الفادح لاقتصاد البلاد وارتهانه للخارج وتفشي ظاهرة الفساد والرشوة في مسالك الدولة، إضافة إلى نسبة الفقر والبطالة خاصة بالمناطق الداخلية مع تفكك وتآكل النسيج الاجتماعي وانحدار ثقافي رهيب. فقد عمل النظام السابق على تحطيــــــم كل أسس المجتمع ليسهل السيطرة عليه. هذه البنية الاجتماعية المتآكلة هي إحــــــدى المطبّات الكبــــرى في طريق الإنتقال الديمقراطي ونجاح الثــــــــورة، ذلك أن الفقر والبطالة والتهميش، ليست تربة مناسبة لنمو شجرة الديمقراطية. فالمواطن الذي لا يجد قوته وقت عياله، لا يهمّه من يحكمه. فهو يبايع من يوفّر له رغيف الخبز والماء والدواء ويثور على من لا يجد له حلاّ لوضعه مهمـــــــا ارتفعــــــت نسبـــــة وطنيتـــــه. كما أن الانتخابات لا يمكن ان تكون نزيهة في واقع اجتماعي يسيطر عليه الفقر والحاجة. ولهذا فالواجب يحتّم على الجميع الانكباب في البحث عن حلول سريعة تشمل الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمواطنين خاصة في المناطق المحرومة والمهمّشة. وهذا يتطلب الانحياز التام لهذه الفئـــات والعمــــــل على تغيير النمط الاقتصادي الليبرالي السائد وتفادي عمليات الترقيع كتقديم المنح الظرفية التي لا تزيد الواقع الاجتماعي إلا تأزما وتعقيدا وأن نولّي وجوهنا قِبَلَ دول الديمقراطيات الناشئة كدول أمريكا الجنوبية (البرازيل كمثال ) ونبتعد شيئا فشيئا عن حلول البنك الدولي والمؤسسات المالية العالمية التــــــي لا تريــــد إلا تحقيق مزيد من التبعية.  
 
المطبّ السابع : الهشاشة السياسيّة
 
بالإضافة إلى ما تقدم ذكره فإن واقع البلاد يمتاز اليوم بهشاشة سياسية كبيرة بالرغم من نجاح الخطوة الأولى المتمثلة في انتخابات المجلـــــس التأسيســــي في 23 أكتوبر 2011 . ذلك أن الساسة الموجودين سواء في الحكم أو في المعارضة ليس لديهم تجربة سياسية كبيرة . فحكامنا اليوم هم سجناء الأمس والعديد منهم لم يعش تجربــــــة ولو بسيطـــــــة في التسيير ومعارضيهم لم يتعودوا على النقد البناء والحوار المفيد فجميعهم كان في عهد المخلوع مختصا في النضال من أجل حرية التعبير والتجمع لا غير. فغياب توافقات حقيقية بين الفرقاء ووجود مشكلة في التواصل بينهم، يمثل مطبّا خطيرا في طريق النجاح . فالمطلوب اليوم أن يتنازل من هم في الحكم عن فكرة إدارة المرحلة الانتقالية بمفردهم بتعلّة الشرعية ومحاولة بناء جسور تواصــــل مع مختلف الأطراف السياسية لرسم خارطة طريق واضحة تبعدنا عن شبح التيه السياسي والإنحراف عن المســــــار الديمقراطـــــي. كما تتطلب المرحلة من بقية القوى الوطنية  التي لا تنتمي للترويكا أن تترك الاختلافات فيما بينها جانبا وتعمـــــل على خلـــــق قطـــب سياسي آخر لتجنّب الاستقطاب الثنـــائي القائـــــــم علــــى العـــــداء وليس على التنافس. 
 
المطبّ الثامن : غياب الرؤية الواضحة
 
المطلوب ليس وضع البرامج والأهداف والمبادئ فالجميع تقريبا يتبنى نفس المبادئ الإنسانية السامية والأهداف النبيلة وليس المطلوب أيضا إرادة التغيير بل  تجسيد تلك الإرادة والأهداف والمبادئ في فعل على الميدان وتحديد طريقـــــــة عمـــل واقعيّــــة. إن غياب الرؤية الواضحة للواقع التونسي وعدم وجود برامج عمليّة يحدد فيها شكل التدخل و كيفية العمل لدى الذين يحكمون والذين لا يحكمون هي مطبّ من مطبّات في طريق نجاح الثورة التونسية . والظاهر أن هؤلاء السياسيين سقطوا في فخ الـــدوران في فلك الازمة فنظرا للخراب الذي ورثوه عن النظام السابق وارتفاع وتيرة اللهجة المطلبيّة لدى المواطنين، التجؤوا إلى ثقافة الارتجال وسياسة المناسبات لإيجاد حلول ظرفية للمشاكل المتراكمة والمعقّدة. ولا يمكن التخفيف من هذا المطبّ إلا عبر الابتعاد عن أخذ القرارات مركزيّا في قاعات مغلقــة مــــن وراء مكاتــــب مكيفـــــة أو في النزل وتفعيل الدور المحلّي وأصحاب الشــــأن الحقيقييـــن الذين يمارسون الفعل الميداني مع الناس ويعرفون جيّدا قدرات الجهات التي ينتمون إليها و إمكانياتها واحتياجاتها ومن ثمّ تقديم مقترحات عمليـة يتمّ تنفيذهـا عبـــــر مراحــــل بدعــــم مركزي. إنها الديمقراطية المحلّية فـــــــي ابهى صورها انطلاقــــا من النهج ومرورا بالحـــي ثم القريـــــــة فالمدينة فالولاية إلى أن يصل القرار إلى المركز. فهل ستتواضع الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة ومن ورائهما خبرائهما وينزلـــــــون إلــى الميــدان الحقيقي للفعـل مـــع الناس وبيـن الناس؟ ويتنازلــون عــن جـــــــزء من سلطاتهم لفائدة الدوائر المحليّة والجهويّـة القريبـة من هموم الناس؟ 
المطبّ التاسع :
 غياب المجتمع المدني
 
قد يستغرب البعض من تعبير "غياب المجتمع المدني "بتعلّة أن المجتمع المدني موجود على الساحة وأن مؤسساته تقوم بواجبها على أفضل وجه . غير أن الحقيقة عكس ما يتصورون، لأن ما يسمّى بالمجتمع المدني في تونس لا يحمل المضمون الحقيقي للكلمة. فالمجتمع المدني الحقيقي هو شكل من أشكال التنظيم الشعبي الواسع وليس جمعيات ، وإن كثر عددها، محدودة الإشعاع لا تمثّل إلاّ نفسها والمنتمين إليها، يعمل كثير منها ضمن أجنـــــــدات أطراف سياسيــــة أوعقائدية في الدّاخـــل وفـــــي الخــــــارج ومدينــــة إلى من يموّلها. 
المجتمع المدني الحقيقي كما نراه في الدول المتقدمة والمتطورة، هو المحرّك الرئيسي للحياة الوطنية في شتى المجالات الحيوية وهو مصنع التيارات الفكرية والثقافية والفنيّة وهو فضاء جامع للطاقات تتربى فيه الكفاءات والشخصيات النموذجية القادرة على الفعل في مجالات حياة المواطنين من أجل تحقيق السلم والتقدّم الاجتماعيين وذلك عبر الرابطات والجمعيات (المحلية والوطنية ) الفنيّة والثقافيّة والخيرية والعلمية. فمؤسسات المجتمع المدني ليست لها ولاءات سياسية وليست أداة للحكم أو للمعارضة بل هي صوت المواطنين بمختلف مشاربهم الفكرية والثقافية والعقائديّة تعبّر عن التوجهات العامّة للمجتمع الأهلي وتضغط لتعديل مسار الحكومات حسب مطالب المواطنين وليس القوى السياسية أو الأجنبية . لقد كانت الجمعيات والرابطات قبل الثورة ملجأ للإنتهازيين بالنسبة للجمعيات التي تدور في فلك النظام وملجأ للمعارضة بالنسبة للجمعيات الحقوقية. وبالرغم من قيام الثورة فإن أغلب الجمعيات لم تفكّ ارتباطها مع الأطراف السياسية أو الأجنبية وتصدّرت مهام المعارضة خدمة لأجندات حزبية وأيديولوجية، في حين عمدت أطراف سياسية أخرى إلى تفريــــخ عدد كبير من جمعيات عقائدية وإجتماعية وثقافية وفكرية تدّعي الإستقلالية لكنها في الحقيقة تعمل ضمن أجنـــــدة حزبيــــة معيّنــــــة. إن المجتمــــع المدنــــي لا يمكن أن يقوم بــــدوره إلا إذا قــــام بفك الارتبــــاط مع التيارات السياسية وتكوّنت مؤسساتــــه كتعبيــــر عن حاجيات المجتمع الأهلي وليس الطبقة السياسية. 
 
المطبّ العاشر : 
غياب البعد الثقافي للثورة
 
لم يترك بن علي وزبانيته أساسا من أسس المجتمع التونسي إلا دمّروه . بالإضافة إلى القمع والاستبداد، عملوا على تهميش وإقصاء المثقفين والتسويق لثقافة الإستحمار مستعينين في ذلك بثلّة من أشباه المثقفين المتغربين وبعض المثقفين الذين باعوا أنفسهم للسلطان. كما عمدوا إلى التعليم، فأفرغوه من كل محتوى ومضمون وحاربوا كل أشكال التديّن والالتزام بالهوية العربية الإسلامية. وفي ظلّ هذا التصحّر الثقافي والمعرفي، انتشرت ثقافة الفساد والرشوة والانتهازية وعدم المبالاة وحب المال وكره العمل وانتشرت الجريمة والرذيلـــة وفساد الأخـــلاق. أما بعد الإطاحة ببن علي، فقد هرول الجميع إلى السياسة وتركوا الثقافة جانبــــا ولم يبال أحد بالمثقفيـــــن ورجال التعليم بالرغــم من أن جميع النصوص التأسيسية للعدد الهائل من الأحــــزاب التـــي تأسســــت بعد الثورة تضمّنت فقرات ومبادئ خاصّة بالتعليــــم والثقافـة. فغدت الساحة الوطنية مرتعا لقوى فكرية سلفيّة متطرفة بشقيها الديني والعلماني المتغرب، فاحتلت المشهد الثقافي والفكــــــري وحولتــــه إلى ميدان صراع وعراك بينها. إن ثورة سياسية غير مصحوبة بثورة ثقافية هي ثورة عرجاء ومهددة بالانتكــاس ولهذا السبب يعتبـــــــر غياب المشروع الثقافـــي مطبّــــا خطيرا في طريق الانتقـــــــــــــــال من الاستبـــــــداد إلى المواطنـــــــة والديمقراطيـــــة. فالاستبداد ثقافــة والديمقراطيــــــة والمواطنة ثقافة فكيف يمكن أن نمرّ بسلام من ثقافة الاستبـــــداد التي كبّلت العقول والأيدي إلى ثقافة المواطنة التي تحرر التونسي وتجعله سيد نفسه وتدفعه نحو الإبداع .  إن نجاح ثورتنا لَيَمُرُّ حتما عبر القيام بثورة ثقافية شاملة تجذّر التونسي في هويته العربية الاسلامية وقيمها الإنسانية السامية من دون تعصّب أو انغلاق، وترفع من مستوى وعيه وتعليمه، وتحلّ قيم العمل والإتقان والابتكار والتضامن في ذهنه وتفعّل فيه الروح الوطنية والوعي بمقومات المواطنة الحقيقية. وعلى المبدعين بمختلف اختصاصاتهم أن يعوا بأهمية دورهم في منح الثورة بعدها الفكري والإبداعي ومضمونها الرّوحي والجمالي وأن يساهموا في نشر ثقافة التسامح والحوار والقبول بالاختلاف والتعدد حتّى يقطعوا الطريق أمام الثقافات الهدّامة والأفكار المتطرفة المنبتة عـــــن واقعنـــا شرقيــــة أو غربية ، يمينيّة أو يسارية. 
 
الخاتمة
 
ليست المطبات التي ذكرنا هي الوحيدة في طريق نحاج ثورتنا فطريقها وعرة مملوءة بالمطبات والحفر. لكننا نقدّر أنّها الأكثر تأثيرا من غيرها . ومعالجتها قبل فواة الأوان يتطلّب تضحيات جسام يقدمها الوطنيّون أوّلها عدم التفكير في تحقيــق مكاسب شخصيـــة أو حزبية آنيّة على حساب مصلحة الوطن ثم التطبيق الميداني لفكرة التوافق حتّى لا تبق مجرد شعارات يرفعها السياسيّون للمزايدة على بعضهم بعضا وأن يجلس الجميع إلى نفس الطاولة ليتدارسوا بعمق كيفية الخلاص .. حتى لا نعود إلى نقطة الصفر أو تحتها وسيكون الخاسر الأول والأخير شعبنا الذي ضحّى بالغالي والنفيس وقدّم الشهيد تلو الشهيد حتّى لحظة هروب بن علي ونهاية حكمه.