في السياسة الوطنية

بقلم
فيصل العش
الثورة التونسية ... في مفترق الطرق

في مثل هذه الأيام من السنة المنقضية كانت الساحة السّياسيّة تعيش على وقع الحملة الانتخابية الخاصّة بالمجلس التأسيسي وكان الجميع يتحرك بحماس في كل الاتجاهات ويحاول بشتّى الطرق أن يكسب ودّ المواطن التونسي لعلّه يفوز بشرف كتابة الدستور الثاني للبلاد. وتعددت القوائم وتكاثرت حتّى أنها تجاوزت المائة في بعض الدوائر وبالرغم من التجاوزات التي حدثت هنا وهناك، فإن الانتخابات أجريت في ظــــروف أجمعت كــل الأطراف على قبولها وأقرّت شرعية من اختاره الشعب يوم 23 أكتوبر ليكوّن مجلسا تأسيسيّا معبّرا عن سلطة الشعـــب، يتعهّد بصياغة دستور جديد ويعيّن حكومة ، يكون رقيبا عليها، تُرسي منظومة لمقاومة الفساد وتنطلق في بناء مؤسسات الدولة على المبادئ التي قامت من أجلها الثورة. 

... وبدأت الإنحرافات

سرعان ما بدأ الانحراف عن أهداف الثورة يبرز في أداء عدد كبير من القوى المكوّنة للمجلس الوطني خاصّة بعد تكوين حكومة ”الترويكا“. فعوضا عن العمل المشترك الذي كان لابدّ أن يميّز نشاط أعضاء المجلس، انبرت الأطراف تصطاد لبعضها البعض الأخطاء وتحاول كل منها بكل الطرق عرقلة مبادرات الآخرين . فغدت ”المعارضة“ العدو رقم واحد للحكومة وغلب على أدائها طابع الاحتجاج والرفض لما تقترحه أو تفعله الحكومة بلغ في عدّة مناسبات مستوى الانسحاب من جلسات الحوار داخل المجلس والمشاركة في مظاهــــرات تندد بممارســـات الحكومـــة وتدعو إلى ”إسقاط النظام“ بينما تجنّد أعضاء المجلـــس ممن ينتمــــي إلى الثلاثي الحاكم أو أغلبهم للدفاع عن اختيارات الحكومة وتحول بذلك المجلس التأسيسي إلى حلبـــــة للصــــراع بين ”الترويكـــا“ و”المعارضين لها“ موضوعه النشاط الحكومي وأداء الوزراء. ونتيجة لعدم توازن القوى داخل المجلس لصالح التحالف الحكومي، فإن مهام رقابة المجلس للحكومة أصبحت بلا معنى .

الشرعية الانتخابية لا تكفي

الانحراف الثاني الذي سُجّل خلال الفترة التي انقضت يتعلّق بتجاهل ”الترويكا“ لطبيعة السّلطة في المرحلـــــة الانتقاليّــة التأسيسيّـــة وما تتطلبه من السعي إلى محـــــاورة جميع الأطراف بما فيهـــا الخاسرة في الانتخابات ومنظمات وجمعيات المجتمع المدني والبحث عن التوافق في بناء لَبٍنات مسار تحقيق أهداف الثورة، حيث اعتبرت الشرعية الانتخابية كافية لحكم البلاد والانفراد باختيار الطريق والطرق المناسبة لتسيير دواليب الدولة وتحديد الأولويات وكيفية تنفيذهــــا وهي بهذه الاختيــــارات أقصت بقصد أو بدونه، أطرافا ساهمت في الثورة وأطيافا اجتماعية وسياسية اختارها الشعب  سواء من القوى الممثلة في المجلــــس الوطنـــي أو تلك التي لم تستطع دخول قبّة باردو ( ثلث أصوات الناخبيـــــن يوم 23 أكتوبر تحصلت عليها القوائم التي لم تفز بمقاعد ).

... مخاطر تهدد الثورة

تسبب الأداء الضعيف للتحالف الحكومي وتكرُّر أخطائه وفشله في معالجة عدّة ملفّات ملحّة إضافة إلى محاولات العرقلة التي تقوم بها بعض القوى باستمرار والتطاحن داخل المجلس الوطني التأسيسي، دون إغفال مؤامرات الثورة المضادّة، في ارتفاع نسبة عدم الاستقرار والاحتقان السّياسي والاجتماعي وتنامي ظاهرة النزوع إلى التمرّد الفردي والجماعي على أجهزة الدولة. فتتالت الدعوات إلى تغيير هذا الوزير أو ذاك وإعلان فشل الحكومة وتكرّرت أحداث العنف والفوضى واستهتار المثقفين والعامّة بمؤسسات الدولة حتّـــــى أصبــــح طرد الوالــــي من مكتبه خبزا يوميا في بعض الجهات وغدت شعارات ”الشعب يريد إسقاط النظام“ و”الشعب يريد اغتصاب الوالي“ المطالب اليوميّة للمتظاهرين وصار الاعتصام الفوضويّ وقطع الطريق الأسلوب الشائع للمطالبة بالتشغيل والتنمية ، مما هدّد استقرار البلاد وأمن المواطنين وجعل خطوات الانتقال الديمقراطي تتعثّر وترتفع نسبة المخاطر التي تهدد مشروع الثورة . 

الصراع ... ولا الحوار

ومن مفارقات الواقع التونسي أن الجميع يقرّ بوجود مخاطر لكن التحالف الحكومي لا يرى أنها تهدد الثورة وأن الوضع تحت السيطرة ودعا باستمرار إلى النظر إلى نصف الكــــأس المـــلآن على عكس معارضيه الذين لا يرون في الكأس مــــاء وينفخـــون في كل مشكلة وإن صغُرَتْ ويضخّمونها، مستفيدين من مختلف وسائل الإعلام التي لم تنجح ”النهضة“ في ترويضها أو على الأقل في إبرام معاهدة صلح معها، مما جعلها تدخل في صراع معها خفي تارة ومعلن تارة أخرى. كما أن الجميع يقرّ بضرورة الحوار والتوافق الوطني ويدعو إليه. لكن الجميع أيضا يمارس الإقصاء المتبادل ويحاول كل طرف أن يُظهر منافسه في وضع عدو للثورة واستمرار للنظام الاستبدادي البائد.  والسبب في رأينا سعي كل طرف إلى إرباك الطرف الآخر استعدادا للاستحقاقات الانتخابية القادمة من أجل كسب ودّ الناخبين. هذا الصراع جعل مستوى الحوار بين الأطراف المختلفة بعيدا عن تطلعات الشعب التونسي الذي كان يمنّي النفس بحوارات عميقة حول مشاغله الحقيقية ومشاكله المتراكمة، قصد إيجاد حلول ووضع استراتيجيات وطنية لتجاوزها. لكن الطبقة السياسية،على ما يبدو، قرّرت تأجيل الحديث العميق في الملفات الرئيسيّة العالقة والاهتمام بتصفية الحسابات الحزبية الضيقة في ما بينها. إن التفكير في الانتخابــــات القادمة قبل إنجاح المرحلة الانتقالية بجميــــع جوانبهــــا سواء من طرف من هم في السلطة المؤقتة أو في المعارضة خطأ كبير سيجرّ البلاد إلى ما لا يحمد عقباه وهو انحراف آخر عن المسار الثوري وتهديد حقيقي للانتقال الديمقراطي للبلاد فهل يعقل أن نبحث عن إمام لمسجد لم يتم بناؤه بعد؟ 

وداوني بالتي كانت هي الدّاء

بعد تسليمه مفاتيح السلطة لحكومة ”الترويكا“، وبعد محاورات عديدة وجولة بين عدّة عواصم عالمية وعربية آخرها الدوحة، قرر السيد الباجي قائد السبســــــي أن يتقدم بمبـــادرة سياسية تمثلت في الإعلان عن تأسيس حزب ”نداء تونس“ كبديل مفترض للنهضة في الحكم وسعى إلى جمع أكبر عدد ممكن من الشخصيات والقوى التي  لا تؤمن بمشروع ”الترويكا“ وترى في ”السبسي“ الرجل المناسب للمرحلة القادمة والمنقذ للبلاد والعباد من واقع الفوضى والفقر والبطالة . و يرى البعض أن مشروع ”السبسي“ سيكسّر حالة الانفراد بالسلطة ويعطّل تغوّل النهضة في الساحة السياسية وهيمنتها عليها بحكم عدم وجود قوى معارضة قادرة على خلق التوازن المطلوب وقد أثبتت من قبل نتائج انتخابات المجلس التأسيسي ذلك . في حين يرى آخرون أن هذا المشـــروع ما هو إلاّ إعادة تقديم التجمع الدستوري المنحل في ثوب جديد ويستدلون في ذلك بدخول أغلب ”الدساترة“ تحت عباءته  أفواجا وهو بذلك يمثّل انتكاسة كبيرة للمشروع الثوري التونسي مما حدا ببعض القوى إلى الإسراع بتقديم مشروع قانون يمنع على كــــل من عمل مع ”بن علي“ النشاط السياسي لمدّة خمس أو عشر سنوات كإجراء وقائي واستباقي لتعطيل مشــــروع ”السبســــي“ . كما عمد آخرون إلى عدم السماح لهذا الحزب بالقيام بتظاهراته الدعائيّة وطرد ممثليه وإفشال اجتماعاته في الجهات . 

لقد خلق بروز ”نداء تونس“ توتـّرا جديدا في الساحة السياسية والاجتماعية بالبلاد وفتح على القــــوى السياسيــــة بابا جديـــدا من الصراع يراه البعض ضروريا ويدخل في مواصلة المهام الثورية ومحاصرة ”فلول“ النظام البائد ويراه البعض الآخر تلهية للناس عن مشاغلهم الحقيقية ومحاولة لإقصاء المنافس الجدّي الوحيد للنهضة وما سار في نهجها. ومما زاد في حدّة التوتّر إعلان ”السبسي“ نهاية ”الترويكا“ وأن لا مكان لها في الحكــــــم بعد 23 أكتوبر القادم وأن محاولات تعطيل الصعود الصاروخي لحزبه ستبوء بالفشل لأن جزءا كبيرا من الشعب قد اختاره وسيكون الصندوق الفيصل في الاستحقاقات القادمة. فما كان من النهضة وأصدقائها إلا إعلان ”الحرب“ على هذا الحزب من خلال الحملات الشرسة على شبكات التواصل الاجتماعـــي ورفضها المشاركــة في أي حوار يكون نداء تونس ممثلا فيه والدفع بعرض مشروع إقصاء التجمعيين من النشاط السياسي لفترة من الزمن.   

إن حدة التجاذب السياسي بين التحالف الحاكم و ”نداء تونس“ مدعوم بطيف من قوى المعارضة سيزيد حتما في توتـّر الوضع بالبلاد وسيُضْعِفُ فرص الحوار ويجعل من التوافق والشراكة الوطنية حلما صعب المنال ما دام الإقصاء المتبادل هو شعار المرحلة للأطراف المتنازعـــــــة. وبالتالي سينغمـــــس الجميـــــع في الصراعات السياسية الضيقة وتضيع بذلك فرص معالجة القضايا الرئيسية للوطن وتتحول الأولويات إلى مواضيـــع ثانويـــة تؤجــــل إلى ما بعد الانتخابات . 

قبل فوات الأوان...

إن هذا المشهد القاتم للوضع السياسي لبلد مازال في سنته الأولى من التحول الديمقراطي ينذر بالخطر ويجعلنا ندعو من كانت فيه ذرّة من تعقّل وجميع  القوى الوطنية بالبلاد إلى الإســــراع بكل جهـــد إلى القيام بمبادرة لكسر هذا الاستقطاب الثنائي والدفع نحو تصحيح المسار الثوري وتنقيته من الانحرافات التي أصابته والعمل على تعديل سلّم الأولويات المطروحة بالساحة السياسية ليتم الإسراع في الحدّ من تمطط المرحلة الانتقالية حتّى يتفرغ الجميع بعد ذلك لمعالجة القضايا المصيرية التي قامت من أجلها الثورة كقضايا التشغيل ومحاربة الفقر و الإسراع بالإصلاح العميق للمنظومة التربويّة والصحيّة والفلاحيّة...إلخ 

ومن أهم الأولويات السياسية التي يجب تفعيلها :

دعوة المجلس الوطني لاستعادة دوره الحقيقي في إعداد الدستور والمراقبة الصارمة لأداء الحكومة بعيدا عن الصراعات الإيديولوجية والحزبية الضيقة .

إصدار ”أجندة سياسية“ عبر مرســوم يضبط  تواريخ محطات  ما تبقى من المرحلة الانتقالية وصولا للانتخابات.

الإسراع في تكوين الهيئات العليا المستقلّة للانتخابات والإعلام والقضاء والعدالة الانتقالية بعيدا عن المحاصصة الحزبية وتمكينها من صلاحياتها كاملة لضمان الفصل الحقيقي بين السلطات وضمان أكبر قدر من السلاسة للانتقال الديمقراطي المنشود. 

سن قانون لتنظيم الأحزاب يوفّر لها الأرضية الملائمة لتأطير المواطنين من حيث التمويل والحماية والمراقبة وآخر انتخابي يضمن تمثيليّة واسعة لمكونات الساحة السياسية.  

 

الخاتمة...

إن المبادرة التي ندعو إليها يجب أن ترى النور في القريب العاجل لأنه لم يبق لتاريخ 23 أكتوبر 2012 إلاّ القليل وهو تاريخ دالّ في الحياة السياسية التونسية. ولن يكتب لهذه المبـــادرة النجـــاح إلاّ إذا التفت حولها القوى الحيّة والشخصيات الوطنية المشهود لها بالنزاهة والوطنية والفئات الشعبية الصامتة التي لا ترى نفسهـــا في أحد الأطراف المتصارعة على الحكم. فهل سيكون 23 أكتوبر يوم عيد لكل التونسيين وتاريخا للدخول الفعلي لجميع الأطراف في حوار وطني لا يقصي أحدا من أجل مصلحة تونس وشعبها الذي ضحّى بالغالي والنفيس وقدّم فلذات أكباده شهداء و قربانا  لثورتــــه المجيـــدة التي فتحت الباب أمام الشعوب العربية الأخرى لتعيش ربيعها وتزيل عنها سنوات الاستبداد والقهر والفساد؟ وهل ستنجح الطبقة السياسية التونسية في تجاوز مأزقها الحالي ويعود بعض أطرافها إلى رشدهم بعد أن أدخلوا البلاد في نفق مظلم وطريق مسدود ؟ وهل سيزول غول الاستقطاب والتناحر الثنائي ليأخذ مكانه حوار رصين ومسؤول فيحصل الدوران الحقيقي لعجلة الانتقال الديمقراطي؟ 

وإنّ غدا لناظره قريب ...........