خواطر مشروع مواطن

بقلم
فيصل العش
أمّي خديجة

 بمناسبة العيد الوطني للمرأة ...قررت أن أذهب إليها .. هناك بالجبل بعيدا عن المدينة وزخرفها .... لم أحمل في يدي باقة ورد ولا قنّينة عطر كما يفعل الرجال بالمدينة..فالهدية التي تحبّها، كما كانت دائما تقول ، زيارتي لها وبقائي بجانبها سويعات من الزمن ..

بعد عناء طويل وصلت أمام مقر إقامة "أمّي خديجة" .. لم أقل أمام مسكن أو بيت أمّي خديجة لأن مقر إقامتها عبارة عن كوخ من الطين تغطّيه طبقة من "الزنك" والطوب وبعض الأخشاب.. استقبلتني " أمّي خديجة" بالزغاريد ثم بالأحضان كما كانت تفعل دائما ثم أدخلتني كوخها وأجلستني على جلد خروف ...وقدّمت لي كسرة خبز طابونة وقليلا من العسل وكثيرا من الحب والحنان . نظرت في وجهها الذي ملأته التجاعيد فلم أر فيه إلا الإصرار والتحدّي.
 
هي "امّي خديجة" كما عرفتها منذ الصغر رغم تقدم سنّها ، منتصبة القامة كشجرة "الكلتوس" ، شامخة ، حاضنة للأرض والتاريخ . رغم الفقر والمآسي ضلّت كما هي متمسكة بموطنها ... عاشقة للجبل والحقل والغنم... 
 
”أمّي خديجة“ ليست أمّي التي ولدتني ، فقد غادرتني أمّي صغيرا إذ توفيت أُثناء الولادة بعد أن جاءها المخاض تحت شجرة وهي بين أغنامها بعيدة عن مقر سكنانا . ”امي خديجة“ هي التي تكفّلت بتربيتي بعد ذلك ورعتني في طفولتي وفي ريعان شبابي حتّى غادرتها ذات يوم إلى العاصمة لأواصل تعليمي . هي التي علّمتني ابجديات الحياة وعشق الطبيعة وحب العمل .
 
هي امراة لم تكن تقضّي يومها فــــي "الشوبينـــق" من مغــــازة إلى أخرى بل كانت تقضّيه بين الزريبة والكوخ وبين الحقل و بئر الماء البعيدة . تحمل على ظهرها الحطب وطعام الأغنام وتقطع المسافات الطويلة حافية القدمين بحثا عن قطرة ماء.. لم تكن تعرف القراءة والكتابة ولم تسمع بأشعار المتنبــي وروايات فولتار ولكنها لا تنطق إلا حكمة فقد خبرت معنى الحياة مع البشر والحيوان والنبات. 
 
أمّي خديجة ومثلها كثير، لا تعرف بيـــوت الاستحمــــام العصريـــة ولا تستعمل أرقـى انــــواع ”الشونبوان“ والصابون المعطر....فهي لاتعرف غير السواك والكحل زينة .. لكنها دوما جميلة بابتسامتها العريضة وثيابها البدوية وطيبة قلبها. 
هي امرأة يسيل أنفها من شدة برد الشتاء ويتصبب جبينها عرقا من شدّة  حرّ الصيف  لكنها لا تبالي بل تحتضن الأرض تزرعها وتغرسها ..
 
هي امرأة كسبت قوتها وقوت ابنائها بعرق الجبين ووضعت يدها في يد زوجها الفقير"عم علي" رحمه الله،  لتجاوز المحن وغصرات الزمن. لا أتذكر أنني رأيتها يوما في شجار معه لأنها ترى فيه أخا وصديقا ورفيقا وحصنا حصينا تلجأ إليه عند الشدائد وفي المقابل فهي ترى نفسها ، بالإضافة إلى كونها الزوجة، أخت له ورفيقة درب تسانده وتدعمه في السرّاء والضرّاء. فعندما كنت اسألها عن سبب حرصها على العمل رغم ما يجلبه لها من تعب وشقاء كانت تردّ بثقة واعتزاز :" وهل تريدني أن أترك "عشيري" وحيدا يواجه صعوبة الحياة ؟" 
 
هي امرأة تهتم كثيرا للفعل لا للجدل ، شَغَلَها العملُ والنضالُ عن الاحتفال بيومها الوطني .... لها ولمثلها من التونسيات أقول :" كل عام وانتن بخير.... كل عام وتونس بخير"
 
 
قد أعشق ألف امرأة في ذات اللحظة 
لكني أعشق وجه امرأة واحدة 
في تلك اللحظة 
امرأة تحمل خبزاً ودموعاً من بلدي