مصلحون

بقلم
فيصل العش
أبو القاسم الشّابّي : « ارادة الحياة »

 ضيف ركننا في هذا العدد شخصية خالدة ، شاب لم يغادر طيلة حياته القصيرة ارض الوطن لكنّ شِعره ساح في أصقاع الأرض، مشرقها وغربها ، وبالرّغم من وفاته فإنّه بقي حيّا من خلال أشعاره التي تتردد في كل حيّ ومدينة من عالمنا العربي. هو شاعر التمرد على الاستبداد و الظلم وهو مشارك الثورات العربية بشعره الخالد وبقصائده الثورية التي تغنّى بها الشباب العربي وهو يقاوم الاستبداد والطواغيت بسلاح الصبر وحب الحياة. إنه أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم بن ابراهيم الشابّي شاعر الخضراء وصاحب القصيدة الشهيرة : ”ارادة الحياة“. ولـــد في قريــة الشابية من ضواحي توزر عاصمة الواحات في الجنوب التونسي  يوم الأربعاء الرابع والعشرين من فيفري سنة 1909  .ترعرع الشابي في اسرة دينية محافظة وكان أبوه من تلاميذ الشيخ محمد عبده حيث درس في الأزهر ليعود إلى تونس بعد حصوله على الإجازة المصرية ويشتغل بالقضاء. تلقّى أبو القاسم تعليمه الأول في المدارس القرآنية منذ سن الخامسة وكان ذكياً قوي الحافظة فقد حفظ القرآن وهو في التاسعة من عمره؛ ثم تعلّم على أبيه أصول اللغة العربية ومبادئ العلوم الأخرى وتشبّع بروح الصوفية الصحيحة  حتى بلــــغ الحادية عشرة من عمـــره. وفي عام 1921 توجه إلى تونس العاصمة ليتحق بالكلية الزيتونية ويتخرج منها عام 1927 متحصلا على شهادة التّطويع وهي ارفع الشهادات الممنوحة في ذلك الحين ثم انتقل للدراسة بمدرسة الحقوق التونسية ليتخرج منها سنة 1930 .

 
لم يكن أبو القاسم في فترة إقامته في تونس، يحضر الدّروس التي كانت تلقى بجامع الزّيتونة (الفقه والعربيّة) فقط ، بل كان كثير الزيارة لمكتبة قدماء الصادقية والمكتبة الخلدونية قصد مطالعة الأدب العربيّ القديم، وخاصة الدواوين الشعرية مع ميل واضح إلى الآثار الصّوفيّة بالإضافة إلى الأدب العربيّ الحديث من خلال مدرستي المهجر والمنشورات المصريّة وكان متأثراً و ميالاً إلى الحركة الرومانسية في الأدب العربي، ومتأثرا خاصّة بشعر جبران خليل جبران. كما اهتــم بالأدب الأوروبيّ من خلال التّرجمات العربيّة والمؤلّفات المعرّبة لكتابات "غوته" (Goethe) و"لامرتين" (La martine) و"أوسيـان (Ossian). وكان ولوعا بالقواميس، مثل (لسان العرب) لابن منظور، و(القاموس المحيط) للفيروز آبادي.
 
وقد ساعده بقاؤه في مدينة تونس لدراسة الحقوق على الانضمام للنادي الأدبي وأخذت مواهبه الأدبيــــة تبرز وتعبّـــر عن نفسها في قصائد ومقالات ومحاضرات، أعلن فيها عن نفسه وهو دون العشرين. 
ومنذ دخول الشاعر (الشابّي) جامعة الزيتونة، برزت نزعته الإصلاحية. فقد انخرط في حركة الطلبة المطالبة بالإصلاح الإداري والتعليمي وخاض معارك الشباب في هذه المرحلة لإصلاح مناهج التعليم وساعد في تأسيس جمعية الشبان المسلمين والنادي الأدبي في تونس . 
والشابي رجل وطني ووجه من وجوه المدرسة الاصلاحية التونسية . وتبرز روحه الوطنية ودوره الاصلاحي من خلال قصائده الداعية إلى الوقوف في وجه أهداف المستعمر وفضح مخططاته  وبث روح الأمل والتفاؤل في أبناء شعبه  وتذكير العلماء والمفكرين بدورهم في نشر العلم وتوعية الشعب . فنراه في قصيدته الخالدة ( الطاغية ) يعبر عن مشاعره الثورية ويهزأ من المستعمر والطغاة ويسخط عليهم ويؤكد أن للشعب صيحة قوية قادرة على زلزلة عروشهم. ويتوجه بالكلام في قصيدته (حماة الدّين) إلى من سمّاهم "حماة الدّين"يدعوهم فيها إلى القيام بدورهم تجاه وطنهم وتجاه شعبهم  وينكر عليهم عدم نشرهم للعلم بين أفراد الشعب ، ويدعوهم إلى اليقظة بعيدا عن الأوهام والتقليد. ويثور الشابي في قصيدته ( الدنيا الميتة ) على مكونات مجتمعه التي تحكمها عقليــة التناحــر و الحقد عوضا عن التعاون والوقوف صفا واحدا ضد المستعمر والجهل. كما يثورفي قصيدته ( الصيحة) على أبناء شعبه لأنهم نبذوا العلم واستكانوا إلى الجهل فضيعوا بذلك مجد أجدادهم. ثم نراه يستعرض في قصيدة (ارادة الحياة) قوة وعظمة إرادة الشعب ويصفها بالسبيل الوحيد إلى الحرية والعيش الكريم.
 
وقد ساهمت الظروف الاجتماعية والسياسية والخاصة التي عاشها الشابي في تشكيل رؤيته وتجربته الشعرية، فقد كان الاحساس بالألم بارزا في شعره نتيجة ما عاناه من آلام الوحدة بعد فقدانه لحبيبته  وأبيه ، وآلام المرض الذي أصيب به في مرحلة شبابه، وكان سببا في وفاته. كما كانت ثورته على الجمـــود والتخلـــف بارزة أيضـــا في قصائده نتيجة  ما عاناه من ظلم مجتمعه، وتأثره بما كان سائدا فيه من تخلف .
 
يعرف الشابي كشاعر وجداني يتميز بقوة الاحساس، طبعت الرومانسية شعره من خلال اللفظ والعبارة والأسلوب وبرزت نزعته الانسانية في أغلب ما كتب. ويعد شعر أبي القاسم الشابي مثالا صادقا للشعر الرومانسي ، فهو ينشد الجمال المطلق والسعادة، ويعتبره ميزانا لنفسيات الأمم فيقول : ”إن الجمال هو القسطاس العادل الذي ينبغي أن توزن فيه نفسيات الأمم وشاعريات الشعوب وإن على حسب ما في الإقليم من جمال وروعة، تكون شاعرية الأمم“ . 
 
وتدور أغراضه الشعرية في الوجدانيات ( رثاء أبيه ، المجد ) والموضوعات النفسانيات ( الكآبة ، الشعر ، الأمومة والطفولة والغزل والحب ) وما يتبعها من التأمل في الحياة الطبيعية ( الغابة، العصفور ، الزنبقة ، الخريف ، المساء ) وفي الحياة الاجتماعية ( السياسية والوطنية والحياة الأدبية ) وفي الحيــــــاة الماورائية ( الله، الموت ).
 
وهو خيالي التفكير، خيالي التعبير. امتلك ناصية الخيال الشعري وهو لم يتجاوز خمسة عشر عاما. فالشابي يرى أن الخيال حاجة أساسية للإنسان فقد جاء في كتابه ”الخيال الشعري عن العرب“: ”الإنسان بحاجة إلى الخيال لأنه وإن أصبح يحتكم إلى العقل ويستطيع التعبير عن خوالج نفسه ، فهو لم يزل يحتكم إلى الشعور ، وسيظل كذلك لأن الشعور هو العنصر الأول من عناصر النفس واحتكامه إلى الشعور يدفعه ولا بد إلى استعمال الخيال لأن الشعور هو ذلك العنصر الجميل المتدفق في صدر الإنسانية منذ القديم مترنما بأفراحها متغنيا بميولها ورغباتها جائشا بكل ما لها من فكر وعاطفة ومن ضجة وسكون ومن هذا النهر الجميل تتولد خرائد الفكر وبنات الخيال“ ( ص34 ).
 و تميزت قصائده بالتنوع في الاسلوب حيث كتب بعض قصائده بأسلوب فخم متين النسج وبألفاظ جزلة حينا وغريبة احيانا أخرى تدل على إحاطة عميقة بالقاموس العربي. وكتب الجزء الآخر باسلوب ليّن سلِس برز جليّا في قصائده الوجدانية والخيالية. لكن جميع قصائده كانت تشترك كلّها في الطابـــع الجـــدّي والحزين الذي يعبّر عن شخصية الشابي ومعاناته.
وأفضل ما قيل في الشابّي ما ذكره الشاعر العراقي المعروف فالح الحجية في كتابه (شعراء النهضة العربية) حيث يقول : (فهو شاعر وجداني وهو برغم صغر سنه شاعر مجيد مكثر يمتاز شعره بالرومانسية فهو صاحب لفظة سهلة قريبة من القلوب وعبارة بلاغية رائعة يصوغها بأسلوب أو قالب شعري جميل فهو بطبيعته يرنو إلى النفس الإنسانية وخوالجها الفياضة من خلال توسيعه لدائرة الشعر وتوليد ومسايرة نفسيته الشبابية في شعر جميل وابتكار أفضل للمواضيع المختلفة بحيث جاءت قصيدته ناضجة مؤثرة في النفس خارجة من قلب معني بها ملهما إياها كل معاني التأثر النفسي بما حوله من حالة طبيعية مستنتجا النزعة الإنسانية العالية لذا جاء شعره متأثرا بالعالمين النفسي والخارجي).
ويجيب الكاتب محمد العروسي المطوي في كتابه ”الشعب في شعر أبي القاسم الشابي“ عن ما شعور الشابي نحو شعبــــه فيقــــول : ” يتمثل هذا الشعور في الإشفاق والحسرة والعطف ثم في إثارة الشعب على الظلم والطغيان والأحوال الفاسدة والتقاليـــد الباليـــة ثم في تهديد الظالمين والطغاة بثورة الشعب. ثم يتمثل هذا الشعور في تشاؤم الشابي ويأســه وفــــي صب غضبــــه على الشعــــب، ثم في الاعتزال والهرب إلى عالم خيالي اختاره الشابي ليعيش فيه مع عالمه العاطفي الذي شاده من آماله وآلامه.“
 
لقد ذاع صيت الشابي شاعرا في الشرق والغرب بفضل قصائده لكنه اشتهر ايضا بآرائه النقدية الجريئة . فقد اهتم ابو القاسم بنقد الشعر وقضاياه وكانت له رؤيته النقدية التي جعلته رائد حركة التجديد الشعري والمؤسس لمشروع شعري عربي جديـــد . ولقد ترك لنا الشابي العديد من الكتابات أهمّها على الإطلاق ”الخيال الشعري عند العرب“ الذي كان موضوع محاضرته الشهيرة التي ألقاها في غرة  فيفري 1929 في قاعة الخلدونيّة بتونس، والتي استعرض فيها ناقدا ما أنتجه العرب من شعر من القرن الخامس إلى القرن العشرين، وثار على نظرة العرب المقدسة للشعر والأدب واعتبره تراثا يجب احترامه وليس منهجا يجب اتخاذه ونادى بتجاوز المفاهيم السائدة والموروثة وذلك بتحرير الشعر العربي من كل رواسم القديم وبلورة رؤية شعرية جديدة تقــــوم على فكر مستنير وخيال جديد وأشكال مختلفة من التعبير .
 تناول الشابي في " الخيال الشعري عند العرب" قضايا نقدية عديدة منها الخيال والطبيعة والمرأة. وقد حاول في هذا المصنف دراسة الروح العربية وإبراز مميزاتها  وصرح بهدفه منه : "حسبه تلبية رغائب الكثيرين من الشباب الناهض المستنير". وكان ما دعا إليه الشابي يتجاوب مع ما دعا إليه ميخائيل نعيمة في كتابه النقدي " الغربال " وما دعا إليه عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني وطه حسين في المشرق، لكن دعوة الشابي كان فيها من الحماس والانفعال إلى الحد الذي صدمت به الأوســــاط الثقافية في تونس آنذاك وقد عبر زين العابديــــن السنوســـي فــــي مقدمتـــــه لكتاب ”الخيال الشعري عند العرب“ عن هذه الصدمة بقوله :
”قام  في مصر وسوريا والعراق وتونس أفذاذ من النقاد يضعون أصابعهم على مواضع الألم ويبرهنون على مواقع النقص والضعف ولكن هذه العملية تختلف عن السابقة لأنها لا تكتفي من مس القديم بالبناء حوله والإضافة عنه بل هي تقدم رأسا على تشذيب العصا المباركة وهدم أنحاء بعينها من الهيكل المقدس مما يثير صرخات الشيوخ وضجيج المحافظين“.
فنتيجة لقسوته في النقد و جرأته في طرح رأيه، صدمت محاضرته عقول المحافظين من رجال الثقافة والسياسة وكانت سببا في نفور الناس منه لعــــدم فهمهم لمــــا طرحـــه وأثـــارت في تونـس أولاً ثم بالمشرق العربي بعد ذلك سلسلـــة من ردود الفعــــل العنيفـــة ضد مؤلفها.
واللاّفت أن الشابي اسرع بتحويل محاضرته إلى كتاب ودفع بـــــه إلى ‏المطبعة "دون أيّ تنقيح أو زيادة أو حذف" إمعانا في المحافظة على أفكاره وابرازها رغم عداوة البعض لها، وتأكيد صفة التّمرّد والجرأة في شخصه وعدم التّراجع عن أفكاره، وإيمانه برؤيته التّنظيريّة. ‏ 
 
 لكن حماس هذا الشاب وجرأته لم يكن ليدوم طويلا لأن المرض وقف له بالمرصاد و يبدو أن الشابي كان مصاباً بالقلب منذ نشأته وأنه كان يشكو انتفاخاً وتفتحاً في قلبه وقد ازدادت حالته سوءاً  بحلول سنة 1929 نتيجة عوامل متعددة منها ضعف بنيته الجسدية والصدمات التي تلقّاها على إثر موت محبوبته وأبيه بالإضافـــــة إلى ظروف إقامته في تونس وإهماله لنصائح الأطباء . ولمّا أعياه المرض دخل المستشفى الإيطالي في العاصمة في اليـــــوم الثالث من شهر أكتوبر 1934 ليتوفي بعد ستة أيام . ونقل جثمانه أصيل إلى توزر ودفن فيها.
لم يكن الشابي ومضة في حياة الشعر العربي وإنما كان بحياته القصيرة الطويلة نقطة تحول في الشعر العربي فقد كان من كبار المجددين استطاع في فترة وجيزة لم تتجاوز عشرة سنـــــــــوات من تأسيس مدرسة شعرية عربية جديدة تجمع بين الرومانسية والثورة وبين الألم وحب الحياة.