من وحي الحدث

بقلم
فيصل العش
« رمضان » بين الرؤية والحساب... «إتفق المسلمون على أن لا يتفقوا!!!»

 لم يبق على بداية شهر الصيام غير أيام معدودات . وككل سنة يطفو على السطح الحديث عن اختلاف المسلمين في تحديد بداية الشهر وتشتت كلمتهم، فمشكلة رؤية هلالي رمضان وشوال مشكلة مزمنة لطالما أثارت أحزان المسلمين كشاهد على تفرق كلمتهم وتنازعهم وطرحت العديد من التساؤلات حول أسباب هذا الخلاف ومدى ارتباطه بمسائل سياسية وليست دينيّة.

وبالرغم من محاولات التقريب بين المواقف من خلال عقد المؤتمرات والندوات العلمية وكتابة البحوث والكتب والمقالات حول الموضوع وامضاء بعض الإتفاقيات كاتفاقية اسطنبول (نوفمبر 1978) لتوحيد التقويم الهجري، إلا أن أصحاب القرار في بلاد المسلمين أبوا إلا أن يختلفوا في شعيرة هامّة من شعائر دينهم حتّى بلغ بهم الأمر إلى توزيع بداية صيامهم وعيد فطرهم على ثلاثة أيام أو أربعة.
وسأحاول من خلال هذه المقال البحث في حقيقة هذا الإختلاف من زاوية علمية فلكية وتعرية المغالطات العديدة التي ذهب ضحيتها عدد كبير من المتحمسين لدينهم حتّى وصل بهم الأمر في مناسبات عدّة، تكاد تصبح عادة، إلى مخالفة البلد الذي ينتمون إليه فيصومون ويفطرون اعتمادا على قرار دول أخرى ضنّا منهم انها صحيحة وأنها أقرب إلى تطبيق شرع الله .
 
مدخل فلكي 
 
قبل الغوص في جوهر الموضوع أرى من الضروري التوقف عند بعض المصطلحات الفلكية المستعملة كـ”الاقتران“ و“ولادة الهلال“ و“الشهر القمري“ وتفسير معناها .
يدور القمر حول الأرض مرة واحدة كل 29يوماً ونصف اليوم تقريباً، ويمرّ أثناء دورانه هذا بأطوار مختلفة،انطلاقا من المحاق (الاقتران) ومروراً بالهلال المتزايد إلى أن يبلغ التربيع الأول ثم يصبح أحدبا متزايدا إلى أن يصير بدرا ثم أحدبا متناقصا، ثم التربيع الثاني، ثم هلالا متناقصا إلى أن يغيب تماما لحظة ”الاقتران“ ليبدأ شهر جديد.
ونتيجة دورانه حول الأرض يبدو لنا من على سطح كوكبنا أن القمر يشرق ويغرب كما  تشرق الشمس وتغرب، لكن القمر لا يشرق دائماً ليلاً ويغرب نهاراً كما يعتقد الكثيرون! فالقمر يشرق كل يوم في موعد يعتمد على طوره؛ فعندما يكون القمر محاقاً (عند الاقتران) فإنه يشرق مع الشمس ويغيب معها تقريباً. وعندما يكون تربيعاً أولاً فإنه يشرق عند منتصف النهار ويغيب عند منتصف الليـــل تقريباً. أما عندما يكون بــدراً فإنه يشـــــرق مع غروب الشمـــس ويغرب مع شروق الشمس. وعندما يكون هلالاً جديداً (متزايداً) فإنه يشرق بعد شروق الشمس بقليل ويغرب بعد غروبها.
ويبدأ الشهر القمـــري فلكيّا عند لحظـــــة الإقتـــران وهي اللحظة التي يتواجـــد فيها القمر في نفس المستوى مع الشمس والأرض فيكون  الجزء المضاء كلّه في إتجاه الشمس وبالتالي فإن القمر يغيب بالكامل عند الإقتران بالنسبة للمشاهد على وجه الأرض. وبمجرد خروج القمر من المستوي المذكور يبدأ الهلال في التشكل.
ولرؤية هلال الشهر الجديد لا بد من توفّر شرطين أساسيين تستحيل رؤية الهلال بغياب أحدهما:
أولاً: أن يكون القمر قد وصل مرحلة المحاق (الاقتران) قبل غروب الشمس؛ لأننا نبحث عن الهلال، و هو -أي الهلال- مرحلة تلي المحاق، فإن لم يكن القمر قد وصل مرحلة الاقتران فهذا يعني أننا مازلنا في الشهر القديم  فلا جدوى إذن من البحث عن الهلال.
ثانياً: أن يغرب القمر بعد غروب الشمس؛ لأن تحري الهلال يبدأ فور بداية اليوم الهجري الجديد عند غروب الشمس، فإذا كان القمر غائبا قبل غروب الشمس أو معها؛ فهذا يعني أنه لا يوجد هلال في السماء . فإذا لم يتوفر أحد الشرطين السابقين؛ فإن إمكانية رؤية الهلال تصبح "مستحيلة". ولكن توفر هذين الشرطين (حدوث الاقتران قبل غروب الشمس وغروب القمر بعد غروب الشمس) غير كافٍ لتصبح رؤية الهلال ممكنة، فلا يمكن رؤية الهلال إلاّ إذا كان القمر على ارتفاع مناسب عن الأفق (7 درجات على الأقل)، مبتعدا مسافة كافية عن قرص الشمس (5.5 درجات على الأقل) حتى تزداد نسبة إضاءته و يزداد سطوعه.
فإذا حدث الاقتران قبل غروب الشمس وغرب القمر بعد غروبها، لكن شروط رؤية الهلال لم تتوفر ، فإن رؤية الهلال تصبح "غير ممكنة".
 
هل المعطيات الفلكيّة صحيحة؟
 
لا يفرّق البعض بين علم الفلك وعلم التنجيم ويشكك البعض في صحّة المعطيات الفلكية ويرى أن الحسابات ليست دقيقة وهي من صنع البشر وقابلة للخطأ وبالتالي فلا يمكن الأخذ بها والاعتماد عليها في تحديد بداية رمضان أو تاريخ عيد الفطر. وهذا القول مردود على أصحابه لأسباب أهمّها :
*انفصل منذ زمن طويل علم الفلك بمعناه الصحيح عن التنجيم بمعناه العرفي من شعوذة وكهانة واستطلاع الحظوظ من حركات النجوم، وأصبح علم الفلك قائمًا على أسس علميّة ثابتة معتمدا على المراصد الحديثة، والأجهزة العملاقة التي تحدد حركات الكواكب من مسافات تقدّر بالسنين الضوئية، وتقدّم حسابات دقيقة يقينيّة تحدد تلك الحركات بجزء من آلاف الأجزاء من الثانية، كما يعتمد هذا العلم على محطّات فضائيّة ثابتة وأخرى متحركة توفّر من المعطيات ما يجعلنا نعرف كل صغيرة وكبيرة عن الكواكب البعيدة وعن الأقمار ، فهل يمكن أن يشك بعد ذلك بصحته ويقين حساباته، وأن يقاس على ما كان عليه من البساطة والظنية والتعديل في الماضي البعيد ؟
لقد أصبح من المقرر والمعروف عالميا أن احتمال الخطأ في التقديرات العلمية الفلكية يقدّر اليوم بنسبة 1من100000 في الثانية!! 
ولقد كان لرفض علماء الدين في العصور القديمة الإعتماد على الحسابات الفلكية في تحديد بداية نهاية شهر رمضان سبب وجيه وهو أن الحساب الذي كان في زمنهم، لم يكن حسابا مبنيّا على معطيات علميّة دقيقة كما هو الحال الآن ، بل كان  مبنيا على نظريات ومشاهدات وأقوال حيث تحدد الحسابات وفق قانون التعديل؛ حيث يأخذ الفلكي في حسابه لسير الكواكب عددًا من المواقيت السابقة، ويقوم بتعديلها بأخذ الوسطى منها، ويبني عليها حسابه. كما أن الفقهاء الأوائل واجهوا أيضًا مشكلة خطيرة في عصرهم، وهي الاختلاط والارتباط الوثيق الذي كان موجودا في اذهان الناس بين العرافة والتنجيم والكهانة والسحر من جهة، وبين حساب النجوم (بمعنى علم الفلك) من جهة أخرى. 
 * إن معرفة توقيت الكسوف والخسوف بأجزاء الثانية لدليل آخر على صحّة المعلومات والحسابات الفلكيّة .
* من غير المقبول ، أيضا، أن يذهب البعض إلى الشك في الحسابات الفلكية وفي نفس الوقت يعتمدها ويأخذ بها في تحديد إتجاه القبلة ومواقيت الصيام والإفطار وتحديد أوقات الصلاة وهو يعلم أن الصلاة تبطل إذا صلاّها العبد قبل دخول وقتها. ففي كل بلاد المسلمين يصلّي الناس في أوقات حددت بناء على الحساب الفلكى ويصومون ويفطرون كل يوم وفقا للحساب الفلكي فهل يمكن أن تكون صحيحة في كل هذا وخاطئة في تحديد منازل القمر وولادة الهلال ؟
 
 اختلاف الدول الإسلامية.. وأسبابه 
 
إذا خلصنا أن الحسابات الفلكية لا يرتقي إليها شكّ بحكم دقّتها واعتماد الطرق العلميّة المتفق عليها والأجهزة الدقيقة في معرفتها ، فكيف نفسّر إذا إختلاف الدول الإسلامية في تحديد بداية ونهاية شهر رمضان؟ وما هي الشروط المعتمدة من طرف مختلف هذه الدول في تحديد دخول الاشهر القمرية ؟ وهل أن الإختلاف ناتج عن اعتماد البعض مبدأ الرؤية والبعض الآخر لمبدأ الحساب الفلكي؟  
تختلف الدول الإسلامية في تحديد بدايات الأشهر الهجرية بإختلاف منطلقاتها :
تعتمد بعض الدول  مبدا الرؤية مع وحدة المطالع ولا تعير الحسابات الفلكية أهمية تذكر فتدعو مواطنيها إلى تحري الهلال عند غروب اليوم التاسع والعشرين، فإذا جاء من يشهد برؤيته أو علمت ان الرؤية حصلت ببلاد إسلامية أخرى أعلنت دخول الشهر حتى لو دلت الحسابات الفلكية على أن رؤية الهلال مستحيلة أو غير ممكنة .
تأخذ بعض الدول الإسلامية الأخرى بمبدأ وحدة المطالع، بمعنى أنه إذا علمت  بثبوت رؤية الهلال في دولة أخرى قريبة منها، فإنها تتبعها فورًا دون التأكد من صحة رؤية الهلال ومثال ذلك الأردن .
 تقرّ بعض الدول الإسلامية باختلاف المطالع، وتعتمد الرؤية كمبدأ لتحديد بداية ونهاية الشهر  ولا تقبل رؤية الهلال إلا من داخل أراضيها كسلطنة عمان والمغرب التي تتحرى الهلال من حوالي 270 لجنة موزّعة على مختلف أنحاء المملكة المغربية، وتشارك فيها القوات المسلحة ولا تعلن بداية الشهر إلا عند ثبوت الرؤية لدى إحدى هذه اللجان.  
لا تعتمد بعض الدول الإسلامية رؤية الهلال لتحديد بداية الشهر ونهايته  بل تعتمد شروطاً فلكية معينة. وتتوزع هذه الدول على أربع جهات حسب الشروط الفلكية التي تعتمدها:
* الاولى : من تعلن دخول الشهر إذا حدث الإقتران قبل غروب الشمس ولو ببضع دقائق
*والثانية : من تزيد على ذلك شرط غروب القمر بعد غروب الشمس ولو بدقيقة واحدة مثل مصر 
* والثالثة مثل ليبيا (قبل الثورة) التي تعلن رسمياً أنها لا تعتمد رؤية الهلال بل تعتمد مبدأ يقوم على اعتبار حدوث الإقتران قبل الفجر علامة على دخول الشهر الجديد فيكون ذلك اليوم أول رمضان أو أول ايام العيد. 
* والرابعة كالأتراك وبعض الدول الأخرى مثل تونس في العهد البورقيبي،  تعتمد مبدأ حساب إمكانية رؤية الهلال بالعين المجردة أو بالاستعانة بآلات الرصد في أي موقع على سطح الأرض ، وذلك حسب شروط علمية وفلكية دقيقة جدا يستحيل معها الخطأ، وهو ما تمّ الإتفاق عليه في مؤتمر اسطنبول الذي انعقد في شهر نوفمبر 1978م، وتتمثل هذه الشروط في اتباع الأمور التالية:
1 ـ أن يولد الهلال بمعنى أن يبتعد الهلال عن الشمس ·
2 ـ أن يكون للقمر مكث بعد غروب الشمس·
3 ـ أن يظهر النور في جرم القمر وهذا لا يتأتى إلا إذا كان البعد الزاوي بين الشمس والقمر 7 درجات فأكثر·
4 ـ أن نضمن خروج القمر من حيز شعاع الشمس، بحيث يكون ارتفاعه وقت غروب الشمس (البعد الزاوي عن الأفق) لا يقل عن 5.5 درجات فأكثر·
 
عندما يمشي المسلمون على رؤوسهم
 
ليس غريبا أن يختلف المسلمون في بداية شهر رمضان ونهايته نظرا لإختلاف منطلقاتهم وشروطهم فكلما اختلفت الشروط والمنطلقات اختلفت معها النتيجة والقرار. والإختلاف في الأمور الدينية ليس غريبا على أمتنا ولمن يريد أن يتأكد عليه بمراجعة كتاب الشهرستاني ”الملل والنحــــل“. لكن الغريب فــي هذا الاختـــلاف هو غياب المنطق وبناؤه على اللامعقول وكأن المسلمين يمشون على رؤوسهم ويفكرون بأرجلهم : 
*من المعلوم لدى الصغير والكبير أن غروب الشمس يحدث عند دول المشرق قبل دول المغرب وبالتالي فإن عمر الهلال عند غروب الشمس بدول المغرب أكبر منه في دول المشرق وهو ما يجعل إمكانية رؤية الهلال تكون  أكبر بدول المغرب منها بدول المشرق. فإذا ثبت رؤية الهلال بدول المشرق فالأكيد أن تكون اسهل بالمغرب  وهو ما يجعل من المنطقي أن تعلن دول المغرب دخول الشهر، في بعض الحالات، قبل دول المشرق فقد تستحيل الرؤية بالمشرق وتكون ممكنة بالمغرب لكن واقع المسلمين عكس ذلك تماما إذ تعلن بعض دول المشرق (كالسعودية) بداية رمضان فيما تعلن بعض دول المغرب أن الرؤية مستحيلة فتبدأ الشهر بعد يوم أو يومين أو ثلاثة(المملكة المغربية).ويكفي أن نعطي مثالا على ذلك ما حصل في إعلان بداية شهر رمضان لسنة 1429 هجريا (2008م) حيث  أعلنت السعودية دخول الشهر يوم الاثنين 01 سبتمبر 2008 في حين كان أول أيام الصيام بالمغرب الأقصى يوم الثلاثاء 02 سبتمبر 2008 
* العجيبة الثانية  هي توزع بداية شهر رمضان وبداية عيد الفطر إلى أكثر من يومين وقد وصل في بعض الحالات إلى أربع أيام ممتالية و الحال أن الشهر القمري يكون إمّا 29 أو 30 يوما وأن بداية الصوم أو إعلان عيد الفطر يكون برؤية الهلال عند غروب اليوم التاسع والعشرين وإن استحال بسب أو بآخر يكون اليوم الموالي تتمة الثلاثين ويكون اليوم الذي بعده بداية الشهر الجديد (...إن غمّ عليكم فأتموا العدّة ثلاثين ). ومن خلال الجدول الموالي نلاحظ أن الدول الإسلامية تستقبل الشهر في أغلب الحلات في ثلاثة أيام وفي بعض الحالات في أربعة أيام وهو أمر لا يستقيم بحال من الأحوال فهل يعني ذلك اننا أمّة تمشي على رأسها ولا تقدّر العلم ولاتعرف للمنطق سبيلا أم أن رؤية هلال رمضان وشوال أزمة سياسية متعمّدة لتفريق كلمة الأمّة؟ .
 
....فهل أنتم منتهون؟
 
ومما يزيد في الحيرة أن بعض الدول العربية تعتمد مبدأ الحساب الفلكي لتحديد بداية الشهر وتعلن أنها تعتمد الرؤية الشرعية بل ويتزعم علماؤها الحملة على الفلكيين حيث تدعو فتاواهم إلى عدم الأخذ بما يقوله المراكز الفلكية ولا تستأنس بالحساب حتّى في التثبت من صحّة الرؤية أو عدمها . وسنتوقف عند الحالة السعودية نظرا لرمزية هذه الدولة من الناحية الدينية لدى عامة المسلمين حيث يعمد العديد من الناس إلى إتباع هذا البلد في اعلان بداية رمضان أو حلول موعد عيد الفطر ومخالفة الدولة التي ينتمون إليها اعتقادا منهم أنها أقرب إلى شرع الله وقد حدث ذلك كثيرا في تونس خاصة في العهد البورقيبي . 
تعلن المملكة السعودية عن إعتمادها رؤية الهلال كمبدإ لتحديد بدايات الاشهر القمرية لكننا وبمقارنة التواريخ الرسمية التي حددتها السلطات السعودية لبداية شهر رمضان مع تواريخ الولادة الفلكية للهلال من من سنة 1400 إلى 1431 هجري أي طيلة 32 سنة  إستنتجنا ما يلي :
* تبين أن إمكانية رؤية الهلال في مكة متوفرة في 12 مناسبة فقط من أصل 32. و بالتالي فإن الـ20 المتبقية من أصل 32 التي تم فيها اعلان بداية رمضان لم تكن الرؤية ممكنة ولم تحدد بالتالي بداية رمضان على أساس الرؤية.
* نتوقف عند السنة الهجرية 1403 وفيها أعلنت السلطات السعودية بأن يوم 11 جوان 1983 هو بداية شهر رمضان في حين أن ميلاد الهلال الجديد تمّ في نفس اليوم على الساعة السابعة و 37 دق صباحا فأي هلال شُوهِد عند غروب اليوم العاشر؟؟؟ وقد حدثت ولادته بعد الغروب !
* و في السنة الموالية أي سنة 1404 ، تم الإعلان عن بداية شهر رمضان في يوم 30 ماي 1984. في حين أن الإقتران حصل في نفس اليوم على الساعة السابعة و48دق أي أنه قد انقضى يوم كامل من شهر الصيام قبل حدوث الاقتران . و سيكون من الممل التطرق لكل الأمثلة التي تُظهر ذلك التحديد الخاطئ لبداية رمضان وندعوكم لتفحص الحالات ذاتها المتكررة للسنوات التالية: 1405، 1406، 1407، 1409، 1415، 1419. و عليه فقد تم الإعلان عن بداية شهر رمضان من قبل السلطات السعودية قبل ميلاد الهلال الجديد في 8 سنوات من أصل 32 سنة المبينة في الجدول أي في 25 % من الحالات –فهل  ! تعني الرؤية الشرعية اعلان رمضان قبل الاقتران؟
والحالة بالنسبة لعيد الفطر مماثلة لما ذُكر في بداية رمضان. فطيلة 32 سنة - من 1400 إلى 1430 سجلنا  20 موعدا خاطئا لعيد الفطر من أصل 32 (إعلان العيد من دون أن تتوفر إمكانية الرؤية فما بالك بالرؤية المجردة). كما تمّ الإعلان عن موعد العيد والهلال لم يُولد بعد في 5 سنوات من أصل 32 أي بنسبة قدرها 16% من الحالات.(سنوات 1404 و 1405 و 1406 و 1408 و1416 كمثال ).
أليس هذا دليلا قاطعا على عدم صحّة ما تعلنه السلطات السعودية في كلّ مرّة من أنها تعتمد الرؤية الشرعيّة للهلال ؟ أم أن الهلال الذي يشاهده ”الثقاة“ من أهل البلاد غير هلال بقية الدول والشعوب؟ لماذا إذا هذه المغالطة؟ أليس من الأفضل أن تعلن السلطات السعودية أنها تعتمد الحسابات الفلكية وليس الرؤية أم أنها تخشى ردّة فعل رجال الدين التقليديين ؟ أو أن في الأمر ”سياسة“ ومنافسة مع دول اسلامية أخرى (تركيا ومصر على سبيل المثال) على الزعامة الدينية للمسلمين خاصة  وأن مكّة تمتاز بمكانة عالية في أفئدة المسلمين الأتقياء؟ إن توظيف مثل هذه المناسبات لفائدة غير دينية ليس بالأمر الهيّن... فهل أنتم منتهون ؟.
 
ماذا عن تونس؟
 
اعتمدت تونس في عهد الاستعمار ، الرؤية كمبدإ لتحديد دخول رمضان ثم غيرته في العهد البورقيبي بمبدإ إمكانية الرؤية حسب التقويم المتفق عليه في مؤتمر اسطنبول سنة 1978 وأصبحت تعتمد الحساب الفلكي لتحديد بداية ونهاية الاشهر القمرية  فتفرّق الناس بين مؤيد لبورقيبة ومعارض له مما جعل جزءا من التونسيين يصومون ويفطرون   حسب ما تعلنه المملكة السعودية مما تسبب في مشاكل اجتماعية وتشتت في ممارسة هذا الركن الأساسي من الدين . ثم جاء بن علي فادّعى المصالحة مع الدين الإسلامي وأعلن إعتماد تونس مبدأ الرؤية مع الإستئناس بالحساب وتكونت بذلك لجان جهوية لرؤية الهلال . لكن مصالحته كانت كاذبة  حيث لم يعتمد طيلة فترة حكمه على مبدإ الرؤية ولا مبدأ ”امكانية الرؤية“ وإنما كان القرار سياسيا حيث كان يعلن بداية شهر رمضان ونهايته حسب إعلان أغلب الدول العربية أمّا بالنسبة لشهر ذي الحجة المتعلّق بفريضة الحج وعيد الإضحى المبارك فقد كان القرار واضحا لا لبس فيه وهو إتباع ما تعلنه المملكة السعودية. ولا ندري هل ستواصل الحكومة الحالية على هذا المنوال أم ستختار بين مبدإ ”امكانية الرؤية“ كما فعل بورقيبة وكما تفعل الآن تركيا ومبدإ الرؤية مع توحيد المطالع  كما هو مشهور لدى أغلب الدول العربية.
  
ماذا عن رمضان هذه السنة (1433 / 2012)؟
 
يعتبر غروب يوم الخميس 19 جويلية 2012 موعد تحرّي هلال رمضان بإعتباره اليوم 29  شعبان . فهل يمكن رؤية الهلال وكيف ستتصرف الدول الإسلامية في تحديد بداية هذا الشهر؟ 
من الناحية الفلكية ، يحدث الإقتران في صبيحة نفس اليوم على الساعة 5 و 24 دق بتوقيت تونس ويغيب القمر في هذا اليوم قبل غروب الشمس في كامل المدن العربية والإسلامية بالشرق العربي، ويتزامن أو يكاد وقت غروبه مع وقت غروب الشمس في كامل أنحاء البلاد التونسية  أمّا بالنسبة لشمال القارة الإفريقيّة فإن القمر يمكث بعد غروب الشمس مدّة أقصاها 15 دقيقة بداكار (السنغال) ويمكث في جل مدن أمريكا اللاتينية مددا متفاوتة أقصاها 45 دقيقة بسانتياقو . وتوضح لنا الخريطة الموالية المناطق التي تتوفر فيها شروط إمكانية رؤية الهلال سواء بواسطة المعدّات الفلكية أو بالعين المجردة ومنها إفريقيا الجنوبية وانغولا بالقارة الإفريقية و كامل أمريكا اللاتينية حيث يمكن رؤية الهلال بالعين المجردة بالشيلي والأرجنتين.
وكما يلاحظ القارئ أن الرؤية مستحيلة إستحالة ولوج الجمل في سمّ الخياط بكامل دول الخليج والمغرب العربيين فهل ستعلن هذه الدول بداية رمضان يوم السبت 21 جويلية كما ستفعل ، قطعا، المغرب وعمان باعتبارهما يعتمدان الرؤية فقط ، أم أنها ستعتمد مبدأ ”وحدة المطالع“ وترتكز على امكانية رؤية الهلال بدول جنوب افريقيا وامريكا اللاتينية لتعلن بداية الشهر يوم الجمعة 20 جويلية؟
من خلال دراستنا لهذا الموضوع فإننا نتوقع أن تعلن جميع الدول الخليجية ( ماعدى عمان) ودول شمال إفريقيا (ما عدى المغرب) دخول شهر رمضان يوم الجمعة 20 جويلية 2012 فيما ستعلن المغرب وعمان والعراق ولبنان (الشيعة) بداية شهر رمضان يوم السبت 21 جويلية 2012..
  
الخاتمة
 
لم يكن الهدف من هذا المقال التأصيل الشرعي لإعتماد الحساب الفلكي لتحديد بدايات الاشهر القمرية فهذا الموضوع قد نعود إليه في مقال قادم . لكن الهدف هو تبيان أسباب إختلاف الدول الاسلامية وتناقض بعضها بين ما تعلنه وما تعتمده في هذا المجال عسانا نساهم ،مادام هناك حيّز من الحرية ، في إنارة المسلمين وتفكيك ألغاز اللخبطة التي تحدث كل سنة وإني أرجو أن يكون هذا المقال حافزا لنقاش هذه المسألة بعمق والعمل على حسم هذا الخلاف. فلم يعد مناسبا الاستمرار في طرح هذه القضية على الساحة الاسلامية  كل عام، كما لم يعد مقبولا استمرار الاختلاف في الصوم والإفطار بين الاقطار الاسلامية ، أو داخل نفس القطر الواحد. فليس هناك مانع واحد يمنع التوحد والاتفاق في الصوم والفطر. كما أن الأضرار التي تلحق المسلمين بعدم الاتفاق على الصوم والفطر كثيرة متعددة، وآثاراها السلبية في كل اتجاه حقيقة واقعة، فكيف نقدم للآخر معنى الوحدة والاعتصام في الإسلام ؟ وكيف نعلّم أبناءنا هذه القيم ونحن ندوسها في ركن من أركان التعبد ألا وهو الصوم؟ وكيف نَفهم عالمية رسالة الإسلام ومرونته، وتقديره للعلم، وعلماؤنا الأفاضل  يصرون على رفض الإعتماد على العلم ؟ وهل يستقيم هذا الحال مع كونه الرسالة الخاتمة رسالة الرحمة للعالمين؟! وإذا كان أغلب الدول العربية والاسلامية تعتمد عمليّا الحساب الفلكي ما عدى دولتين (المغرب وعمان) فلماذا إذا الإختلاف ؟ نرجو أن يتوحد المسلمون في يوم من الأيام على الأقل من خلال توحيد مواعيد الصيام والعيد. والله نسأل أن يبارك لنا ولجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في صومنا وعيدنا.