مصلحون

بقلم
فيصل العش
الإمام المصلح الشيخ العلامة سالم بوحاجب

 ينحدر الشيخ سالــم بن عمر بوحاجب من أســــرة عريقة تنتمي إلى عرش سيدي مهذب  بمنطقـة الصخيرة مـــن ولاية صفاقـــس . ولد ببنبلة من ولاية المنستير، إحدى قرى الساحل التونسي سنة 1827 ونشأ  نشأة قروية بسيطة حيث عاش طفولته بين حفظ القرآن ومبادئ اللغة العربية بكتّاب القرية ومشاركة أبيه الأعمال الفلاحيّة في ضيعة العائلة.

 
ونظرا لبروز علامات الفطنة والذكاء والاستعداد لقبــــول العلــــوم والمعرفــــة ، أسرع والــده بإرساله إلى العاصمة قصد طلب العلم وكان عمرة ثماني سنوات ، فحفظ القرآن الكريم في كتّاب باب منــــارة ثم التحق سنة 1842 بجامع الزيتونة المعمور في نفس السنة التي أقر فيها التعليم الزيتوني تعليما رسميّا للبلاد ، فانهمك في الاطلاع على أمهات الكتب وتناول بالدرس العميق أرقى المراجع والمصادر وتواصل مع المسائل الفقهية والأدبية والعلمية التي لا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة .وقد درس على شيوخ عصره من الأعلام الكبار فتعلّم الموطأ على الشيخ  إبراهيم الرياحي وأخذ علوم العربية عن الشيخ ”حمدة بن عاشور“ جد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور .كما درس على الشيخ العلامة ”محمد معاوية“ وأخذ العلوم الشرعية عن الشيخ المفتي ”محمد الخضار“ والشيخ العلامة  ”محمد بلخوجة“ و العلامة ”محمد النيفر“ قاضي الجماعة كما أخذ علم الفرائض والعلوم العقلية كالحساب والهندسة عن الشيخ ”محمد ابن ملوكة“.
وسرعان ما برز الشيخ سالم بوحاجب بذكائه ونباهته وسداد فكره وحرصه على أخذ العلوم ، مع الجرأة الكبيرة والشجاعة الفريدة في مراجعة الشيوخ ومناقشاتهم، وبفضل مثابرته فــي البحـــث ارتقـــى إلى درجة رفيعة في التمكن من العلوم الشرعية وبخاصة العلوم العربية واللغوية والحضارية وسرعان ما اشتهر في الأوساط العلمية ونال إعجاب شيوخه الذين اعترفوا له بعلو المكانة وصواب الرأي ومنهم الشيخ محمد بيرم الرابع والشيخ الجليل عالم الرياضيات محمود قابادو الذي أصبح قدوته وسندا له وهو يخطو خطواته الأولى نحو العلا والمجد فتأثر بآرائه الإصلاحية أيّما تأثر.
 
وهكذا ولج الشيخ سالم بوحاجب مجال علماء عصره من الباب الكبير وأصبح مؤهلا للتدريس . . 
فانضم إلى سلك المدرّسين بالجامعــــة الزيتونيـــة سنة 1848 وهو في العشرين من عمره واستمر في عمله إلى سنة 1912 وهي مدة قلّ أن قضاها أستاذ قبله أو بعده في مهامه بالجامع الأعظم .
 
وقام الشيخ بتدريس أمّهات الكتب لطلابه واعتنى بإحياء تدريس علم الأصول بعد أن كاد ينقرض من جامع الزيتونة وكان له تأثير على طلبة الزيتونة وعلى طلائع المدرسة الصادقية ودار المعلمين من أمثال البشير صفر وعلي بوشوشة .
و قد تخرّج على يديه  ثلّة من العلمـاء والمفكريــن والأدباء الكبــار من بينهم الشيخ محمد الخضر حسين الذي أصبح في ما بعد شيخا للأزهر الشريف والشيخ عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الحر الدستوري التونســي والشيــخ حميدة بيــرم والشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي كــــان عندمــــا يذكر شيخــــه سالم بوحاجب يقـــول « قدس الله سره». 
 
وبفضل هذه الكفاءة وهذا العلم الغزير ، وبسبب هذه الروح الفياضة المتطلعة على الإصلاح والتطوير قربه خير الدين وكان أبرز مساعديه ،وكان الشيخ سالم بوحاجب من المساهمين المباشرين لكل الأعمال الإصلاحية التي أنجزت مثل تأسيس المدرسة الصادقية وإصلاح التعليم الزيتوني سنة 1875 وادارة المدرسة المنتصرية  بالإضافة إلى تأسيس جمعية الأوقاف وتأسيس جريدة ومطبعة الرائد. وتذكر عديد المصادر أن الشيخ الجليل كان من أبرز المحررين لكتاب " أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" للوزير خير الدين التونسي. وقد أكّد خير الدين باشا إضافة الشيخ بوحاجب الحاسمة في كتابه الذي اعتمدته أجيال من المصلحين العرب والمسلمين بمثابة أهم المراجع بقوله : ”أنا الفكر المدبّر وهو القلم المعبّر“
 
وقد ساهم الشيخ في مختلف لجان التفكير الخاصّة بإصلاح التعليم الزيتوني بأفكاره الإصلاحيّة ومقترحاته النهضويّة
وكان للشيخ سالم بوحاجب نشاطا إداريا وسياسيا، حيث سمّي بإشارة من محمد بيرم الرابع كاتبا أوّل للمجلس البلدي عند تأسيسه سنة 1858  وعين عضــوا بالمجلــس الأكبر مع المدرسيـــــن محمد الطيب النيفر وعمـــر ابن الشيخ سنـــة 1861 .
كما سمّي رئيسا لأقلام التحرير في اللجنة الدّولية التي عهد لها الوصاية على المالية التونسية سنة 1868 . وكانت له مشاركات هامّة  في البعثات الرسمية، فقد سافــر إلــى الآستانـــة ضمن البعثــة التي قادها خير الدين سنة 1864  قصد التفاوض مع الباب العالي في شأن العلاقات بين الايالــة التونسية والسلطنة العثمانية  ثم سافر إلى أوروبا مصاحبا لصديقه الجنرال حسين في قضيّة القائد نسيم شمامة القابض العام للدولة سابقا ، وأقام بإيطاليا ست سنوات اغتنمها للاطّلاع على حضارتها وتعلم لغتها، وأثناء إقامته فيها ارتحل إلى فرنسا وزار معرض باريس سنة 1878 م مطلّعا على أحدث المخترعات ، " فكانت إقامته الطويلـــة بأوروبــا فاتحت لنظرة اليقـــظ لحقائـــق الأمــــور وباعثة له للعمل لإنهاض الفكــر الإسلامي " ( قول الشيخ الفاضل ابن عاشور) 
 
أمّا الوظائف الشرعية فلم يرتق إليها إلا في آخر حياته حيث سمّي مفتيا مالكيّا سنة 1905 م , ثم تولّى خطّة كبير أهل الشورى المالكيين سنة 1919 م .ويرجع سبب هذا التأخير إلى عدة أمور منها إقامته الطويلة في أوروبا و مواقفه غير المألوفة .
 
يعتبر الشيخ سالم بوحاجب من ايمّة الاجتهاد البارزين وأحد روّاد حركة الاصلاحيّة وأحد أركان النهضة الفكرية والدينية بتونس والعالم الاسلامي في التاريخ المعاصر، وكان الشيخ سباقا للتنبيه بمخاطر الانحطاط والتخلف والوعي بضرورة بلورة مشروع اصلاح تحديثي محوره اصلاح التعليم وتجديد الثقافة الاسلامية مع العمل على تحديث البنية الاجتماعية والثقافية لمختلف مؤسسات المجتمع في نطاق معادلة بين الأصالة والتحديث والتوفيق بين الخصوصية ومقتضيات المعاصرة
 
ويتكون مشروعه الاصلاحي الذي يهدف إلى الدعوة إلى عالم متطور ومتقدم وحر ، يجد فيه الناس أسباب المناعة والكرامة والمجد  من ثلاث مستويات :
 
* أوّلها تطوير التعليم الزيتوني بادماج العلوم الصحيحة كالرياضيات والعلوم الطبيعيّة في برنامج هذا التعليم مع مقاومة الجمود المسيطر عليه والتخلّي عن اسلوب التدريس التقليدي النقلي المتمسك بظاهر النص وتوخّي منهج تعليمي ذو اتجاه مقاصدي يرتكز على اعتماد العقل والنقد ومناقشة الآراء واستنباط الافكار وفـــــي ذلك يقــول الشيــخ سالــم بوحاجب:  «أنّ عمران الأرض منوط بتدبير الإنسان حيث جعله الله الخليفة فيها وركّب فيع العقل الذي هو الآلة الوحيدة لذلك التدبير» (محمد الطاهر بن عاشور أليس الصبح بقريب، ص103). فالدين جاء «ليعطي الإنسان ما به كمال الإنسان (...) بما أودع في الشريعة من اعتبار المصالح التي تتجدد بتجدد الأزمان والمواقع...» (سالم بوحاجب، ديوان الخطب ص344).
 
* أما المستوى الثاني فهو العمل على تحديث التعـليم و التنبـيه الي أهمية استيعاب العلوم الدنيوية الحديثة خاصة الطب والهنـدسة والفلاحة والصناعات الحربية والتقــــــنية باعتبار أن اهمال الأمة الإسلامية وزهدها في العلوم التطبيقية كان سببا رئيسّيا في تأخر علومها الدينيّة ووهنها وتأخرها " فإن الدين إنما تقهقر عند تأخر المسلمين في تلك العلوم..." ويقول الشيخ بوحاجب في تنبيهه الي ضرورة الأخذ بأسباب التقدم ووعي قوانين الرقي والنهوض التي تدير صيرورة المجتمعات والأمم وتفرض غلبة بعضها وتفوقه على البعض الآخر:" لولا القلم (التدوين) ما وصلت الينا علوم سوالف الأمم حتي عرفنا أطوار العمران وأسباب تقلبات الأزمان، ولولا كتب التاريخ ما علمنا أن نمو الاستعمار انما كان بتعارض الأنظار وتلاحق الأفكار بحيث أن كل أمة تستخدم نبلها من الغاية التي انتهت اليها الأمة من قبلها ".
 
* وأمّا المستوى الثالث فيتمثل في تجديد الخطاب الديني فكان أول من جدد مضامين الخطب المنبرية وطوّر نصوصها نحو معالجة المشاكل الإجتماعية وقضايا الناس وكان من خلال مهامه كخطيب في صلاة الجمعة بجامع سبحان الله يقاوم الخرافات والسذاجة الدينية التي تنتشر بين العامة، وحتى بين الخاصة من مشايخ الزيتونة من جهة ويعمل على تطوير دورالمنبر والمسجد وابراز رسالته الاجتماعية والاصلاحيّة فقد كانت خطبه فريدة في جرأتها ودقّتها وعمقها يعالج من خلالها المشاكل الحياتية للمصلين فكان دائما يدعو إلى نبذ التواكل ومحاربة البطالة وترك البدع والتشجيع على التعلم والتزود بالمعرفة وكان أول من طرح مشاكــــل الصنائع والمهن وأصدع من فــــوق المنبر بأهمية القطــاع الفلاحي وضرورة مساعدة الفلاحيـــن وحل مشاكل القطاع وهو ما لم يكن معهود في خطب الجمعة.
 
ولقد تـأثر الشيخ بمصلحي مصر في عصره  كالخديوي محمد علي في أوائل القرن الثامن عشر و رفاعة الطهطاوي، وخاصة بأسلوبه في كتابه « الإبريز في تلخيص باريس»  لذلك نجد في كتاباته القليلة ومحاضراته ، ما يفيد هذا التأثر حيث يقول : «ماذا ينقصنا لكي نتأسس بالحركة الإصلاحية، أو بحركة إخواننا المصريين؟» ومن الطريف أنه لما سأل : لماذا أنت مقل في الكتابة، قال : لأنني أفنيت عمري في إصلاح أخطاء غيري، وخاصة إخواننا المصريين.
 
وكان إلى جانب مكانته العلمية ودوره الإصلاحي والديني أديبا لامعا وشاعرا مجيدا ، له عدة قصائد في كتاب «عنوان الأريب عما نشأ بالبلاد التونسية من عالم أديب». وله قصائد نشرتها مجلة «الرائد التونسي»، ومجلة «الحاضرة»، وله ديوان شعر مفقود وكان برغم أعماله ومهماته يزور مسقط رأسه  بنبلة ويهتم بأرضه و زياتينه ، ولامه البعض على ذلك فرد عليهم قائلا:
 
علينا عباد الله خدمة أرضنا ***  فما هي في الحقيقــة إلا أمنـــا
فنشأنا منها ومنها معاشنــا *** وإن عافنا الزمان فهي تضمنـا
 
    ومن شعره موصيا أبناءه:
 
أبني لا تبكوا لفقد أبيكـــــــــم ***  فرضاه يكفل بالمنى المستقبـــل
ما مات من أبقى رجلا مثلكم  ***  فحياتكم لحياته كالتكملـــــــــــة
أوصيكم بالاتحاد وإن تــروا  ***  إخوانكم في البـــر مني مبدلـــة .
 
وبعد عمر طويل قضاه في خدمة العلم والدين ، وفي مقاومة البدع وإصلاح الأحوال السياسية والاجتماعية وفي توعية الشعب والنهوض به ودفعه إلى نبذ التواكل ودعوته إلى الانصراف إلى الكد والجد ، توفي الشيخ سالم بوحاجب في 16 جويلية 1924 بالمرسى عن سن تناهز الثماني وتسعين عاما.