من وحي الحدث

بقلم
فيصل العش
الرئاسية المصرية : ”نار الأخوان ولا جنّة شفيق“*

 تعتبر الانتخابات الرئاسية المصرية الحدث الأهم هذه الأيام على المستوى العالمي عموما والعربي خصوصا ، لما لمصر من موقع استراتيجي. وهي محطّة لها دلالات مهمّة في الحياة السياسية ليس للمصريين فحسب بل لكل شعوب العالم العربي . فهي المرة الأولى التي تنافس فيها مرشحون من مختلف الاتجاهات السياسية و توجّه فيها المصريون إلى صناديق الاقتراع من دون أن يعرفوا اسم الرئيس المقبل مسبقاً وهي محطّة لها رمزية تاريخية هامّة بالنسبة لمستقبل الثورات العربية حيث تشكل نتائجها النهائية علامة فارقة في مجرى التحول الديمقراطي بمصر ومن ثمّ بالمنطقة العربية .

وهي الآن تزداد تشويقا بعد نتائج دورها الأول التي أسفرت سباقا جديدا بين مرشح الأخوان الدكتور محمد مرسي ( حزب الحرية والعدالة  ) من جهة ومرشح بقايا النظام السابق  أو ما يحلو للبعض تسميتهم بـ "الفلول" الفريق أحمد شفيق«مرشح الكتلة الصامتة من المصريين» وآخر رئيس وزراء في عهد الرئيس المخلوع .هذا التشويق الممزوج ببعض من الخوف مفاده أن جمهور الناخبين والمحللين والسياسيين وحتّى المؤسسة العسكرية  لا يقدرون على توقع النتيجة مسبقا و لا يستطيعون الجزم  باسم رئيس مصر القادم وهذا يعني أن التنافس سيكون حقيقيا وأن مصر ومن ورائها العالم العربي يعيش تجربة عظيمة ستقطع مع نظام الحكم الفردي الذي ميّز الحياة السياسية منذ عهد الفراعنة . كيف تُقًرأ نتائج الجولة الأولى من هذه الانتخابات ؟ وهل يمكن القول أن هذه النتيجة تحمل فشلا للثورة؟  وما هي فرص نجاح كل من المترشحين؟ وما هي العوامل المؤثرة في فوز هذا أو ذاك؟ وما مدى تأثير النتيجة النهائية على المسار الديمقراطي بتونس؟ رهانات هذه الإنتخابات في البلد الأكثر سكانا في العالم العربي و مدى تأثير نتائجها على بقية الثورات العربية وخاصّة تونس ؟  
 
الجولة الأولى وتعثر حصان الثورة
أضاعت القوى الثورية فرصة تاريخية خلال الجولة الأولى حيث دخلت غمار سباق الرئاسية متشتتة (11 مترشحا) فجاءت النتائج  مغايرة لما كان يريده أو يتمناه ثوار مصر،وأفرزت صناديق الإقتراع السيناريو الذي كان يخشاه الجميع حيث حصد مرشحا القوتين الأساسيتين اللتين اختطفتا الثورة بعيد انطلاقها المركز الأول والثاني ليضربا موعدا آخر في السباق على رئاسة الجمهورية  الأمر الذي وضع كل القوى السياسية وجميع المصريين أمام خيارات بالغة الصعوبة ستدفع بشريحة واسعة من المصريين إلى الابتعاد عن صناديق الاقتراع في الجولة الثانية، بسبب عدم وجود ممثل عنهم، الأمر الذي قد يصعب التكهن بما تؤول إليه الأوضاع بعد إعلان النتائج النهائية.
وبقدر أنها غير مرغوب فيها فإن هذه النتيجة لم تكن مفاجئة للعديد من المحللين فالطريق الذي سلكته الثورة بعد تنحي مبارك لم يكن ليحقق تغييرا حقيقيا .والمعركة بين التيار الثوري الذي أعلن عصيانه على مبارك ممثلا في القوى المدنية واللييرالية والثورية والشبابية من جهة والأخوان والقوى التي لا تريد أن تصل الثورة إلى مداها ممثلة في المجلس العسكري وما يطلق عليه بـ "الفلول" من جهة أخرى لم تكن متكافئة نتيجة تشرذم التيار الثوري وتشتته بين توجهات مختلفة وفي بعض الأحيان متناقضة . ويرى البعض أن النتائج هي حصاد بديهي لأداء المجلس العسكري طوال عام ونصف مدعّما بإعلام معاد لفكر الثورة ورموز النظام القديم الذين أعادوا تنظيم صفوفهم حيث قاموا بشيطنة وتشويه الثوريين من خلال استغلال بعض الممارسات العشوائية من قبل الثوار، وحالة الانفلات الأمني وتدهور المقدرة الإقتصادية للمواطن وعمدوا إلى ايهام «الغالبية الصامتة» بأنها تضررت من الثورة التي عطلت عجلة الانتاج و حرمتهم من الاستقرار. كما استغلوا "فزّاعة الدين" على أحسن وجه وحوّلوا وجهة ما يسمى بالكتلة الصماء من الأقباط إلى مرشحهم. 
ويضاف إلى ما سبق ذكره، فإن نسبة المشاركين في الدور الأول لم تتجاوز نصف عدد المسجلين في القوائم الإنتخابية وبالتالي فإن قوى الثورة قد خسرت عددا كبيرا من الأصوات ممن اعتبروا أن الانتخابات مجرد «مسرحية» لتكريس حكم العسكر. 
إذا الجولة الثانية والأخيرة  ستكون بين مرشح الاخوان المسلمين الدكتور محمد مرسي ومرشح النظام السابق الفريق أحمد شفيق .فلمن ستكون الغلبة؟
 
أحمد شفيق وورقة العسكر
ترى بعض القوى الليبرالية والمدنية أن شفيق أقل خطرا على الوطن من مرسي، وان التعايش مع بقايا نظام مبارك أقل خطرا من هيمنة الإخوان على كل مفاصل الدولة. كما يرى البعض الآخر أن مصر تحتاج رجلا عسكريّا مثل شفيق يعرف البلاد جيّدا ويستطيع العمل مع القيادة العسكرية في تناغم كبير ليخرج مصر من محنتها.. وتعود إلى ريادتها.. ويرى هؤلاء أن «أحمد شفيق» قدّم الكثير لمصر خلال مسيرته منذ تخرج من الكلية الجوية أيام عبد الناصر فقد شارك في حرب الإستنزاف ضد إسرائيل و أنقذ شركة مصر للطيران من الإفلاس وحوّلها إلى شركة رابحة وأثبت كفاءته كوزير للطيران المدني وكان الرجل المناسب ليرأس مجلس الوزراء عندما بدأ نظام مبارك يترنح  فتحمّل الأمانة ودفع نحو التغيير .. وبهذا خدم الثورة.. بهذه الصفات يبدو أن شفيق قادر على جذب المزيد من الأصوات وهو يراهن على معظم الأصوات القبطية و بعض الأحزاب التقليدية كالوفد وأحزاب «الكتلة المصرية» ورموز الحزب الوطني وطبقة رجال الأعمال ووجهاء الريف وكبار الملاك والفلاحين وعائلات عناصر الشرطة والجيش وجزء غير قليل من موظفي الدولة وخاصة البسطاء منهم والمثقفين والإعلاميين المتحسرين على نظام مبارك. كما يبدو أن أصوات مناصري عمر موسى ستذهب لصالحه بسهولة . وهو بتقديم نفسه كمرشح مدني في مواجهة آخر ديني وأنه فك ارتباطه بالنظام السابق وتخلى عن انتمائه السابق إلى المؤسسة العسكرية، قادر على استمالة عدد من أنصار "صباحي".  كما سيحاول "شفيق" استغلال الأخطاء التي وقع فيها حزب الإخوان ليستميل عددا لابأس به من أصوات المصريين العاديين الخائفين من تصاعد النفوذ السياسي للأخوان والسلفيين وهو "الجنرال" القوي القادر على استعادة الأمن في زمن قياسي.وقد يلعب شفيق أيضًا بورقة المتصوفة مراهنًا على العداوة التاريخية بين المتصوفة والإسلاميين. لكن تبقى ورقة العسكر هي أفضل ما لشفيق في المرحلة الثانية . ففي ظل هذا المشهد المعقد، يرى كثيرا من المحللين أن وصول شفيق للرئاسة سيكون أفضل للمجلس العسكري لأنه سيتحدث بلغتهم ولن يختار الصدام معهم وبالتالي عدم المساس بمصالحهم ونفوذهم وسيكون ضامنا لإفلاتهم من العقاب. 
ومن النقاط التي قد تلعب لصالح شفيق الدور المخابراتي والسياسي الذي تقوم به اسرائيل منذ مدّة حيث باتت الغائب الحاضر في الشأن الرئاسي المصري .فالقيادة الاسرائلية ستحاول جاهدة عبر كل الوسائل المتاحة تدعيم "شفيق" كرئيسا لمصر لأنه حسب اعتقادها سيتمسك باتفاقية السلام مع إسرائيل بينما سيكون نجاح مرشح الأخوان نهاية معاهدة السلام، وصعود حكومة ملتزمة، لها أيديولوجية إسلامية، تضع نُصب عينيها تدمير «إسرائيل». 
ولأن نجاح شفيق قد يمرّ بعدم حصول تقارب بين مرشح الإخـوان و"حمدين صباحي" فإن الـتأخير في حسم المحكمة الدستورية العليا في مسألة دستورية قانون "العزل السياسي"  الذي ينطبق على شفيق سيكون لفائدة شفيق حيث سيؤثر سلبا في محاولات التقارب بين مرشح الأخوان والمرشح الناصري. ذلك أن حمدين لن يدخل في تحالف ضد شفيق وسينتظر قرار المحكمة الذي سيصدر قبل خمسة أيام فقط من الدور الثاني ( يوم 11 جوان 2012) والذي قد يجعله منافسا ثانيا عوضا عن شفيق الذي سيخرج من سباق الرئاسة في حالة إقرارها بدستورية القانون المذكور. 
 
مرسي وشروط الفوز
ينطلق مرشح الأخوان الدكتور محمد مرسي بحظوظ وافرة للنجاح في المرحلة الثانية للإنتخابات الرئاسية فبالإضافة إلى التقدم المعنوي الذي كسبه في الجولة الأولى على غريمه "شفيق" فقد ضمن سريعا أصوات السلفيين حيث أعلن حزب النور السلفي انه سيدعمه في الجولة الثانية. كما أنه من غير المستبعد أن يضمن أصوات جزء كبير من مناصري "ابو الفتوح ". لكن أهم فرص وصول مرسي لكرسي الرئاسة تكمن في نجاحه في تشكيل تحالف مع أبو الفتوح وصباحي، بما يجعل المعركة محسومة لصالحه. وهناك توجها عاما داخل جماعة الاخوان للتوافق مع جميع القوى الوطنية لتشكيل جبهة موحدة لحماية الثورة وإسقاط الفريق احمد شفيق في الجولة الثانية. وهذا يتطلب من الأخوان الاتجاه مباشرة إلى من يريدون التحالف معه بخطاب واضح وصريح يتضمن تقديم حزمة ضمانات سياسية متكاملة لعلّ أبرزها طمأنته بالتعجيل بتشكيل الهيئة الدستورية بتوافق وطني عام دون هيمنة برلمانية ،وتشكيل حكومة ائتلاف وطني تشارك فيها قوى الثورة ويترأسها أحد الطرفين المشاركين في التحالف مع الإخوان.فيما يكون الطرف الآخر مشاركا في مؤسسة الرئاسة بصفة نائب رئيس . وبذلك يضمن الدكتور مرسي كرسي الرئاسة ويكسب الأخوان معركتهم المصيرية مع "شفيق" ويكسبون معها الشارع المصري.
أمّا إذا رفض الأخوان هذا التمشي وواصلوا الحديث عن مبادرات فضفاضة أو راهنوا على قوّتهم فإنهم سيجبرون جزءا كبيرا من الناخبين ممن صوتوا لقوى الثورة أن يقاطعوا المرحلة الثانية ويكتفوا بالمتابعة لأنهم في كل الحالات لن يصوتوا لممثل النظام الذي عاشوا قهره وثاروا ضدّه .
وعلى الإخوان أن يفكروا جيّدا  قبل أن يراهنوا على أنفسهم فحسب لأنهم عاجزون ، في تقديري، على  كسب تأييد غير الإسلاميين نتيجة عدّة أسباب أهمّها:
*اهتزاز صورتهم لدى الرأي العام نتيجة عدّة أخطاء في الممارسة السياسية أهمّها عدم وفائهم بالوعد حيث  قدّموا مرشحا للرئاسة، في حين أنهم التزموا قبل عام بألا يفعلوا.
*عدم مشاركتهم في الثورة الا بعد ان ثبت نجاحها حيث لم يلتحقوا بشباب الثورة إلا يوم «جمعة الغضب» .
*افتقار الدكتور محمد مرسي إلى سيرة ذاتية وطنية وإلى الخبرة السياسية الكافية لتسيير دواليب الدولة حيث يواجه انتقادات تتهمه بالفظاظة وأحيانا بالافتقار إلى الرؤية الواضحة في خطاباته العامة حيث تعتمد أحاديثه بكثافة على مرجعيات دينية محافظة .
 
نار الأخوان ولا جنّة شفيق(*)
أظهرت نتائج المرحلة الأولى أهميّة القوى التي تمثّل الثورة بالرغم من عدم وصول أحد مرشحيها إلى الجولة النهائيّة حيث أصبحت رقما بالغ الأهمية في معادلة الانتخابات الرئاسية فهي التي ستحدد الفائز بكرسي الرئاسة. هذه القوى تبدو أمام خيارين أحلاهما مر، فإما الانحياز لمحمد مرسي وبالتالي إلى المشروع الإخواني الذي قاومته طويلا أو لصالح شفيق وبالتالي إعادة إنتاج نظام مبارك بشكل كامل ولأن هذه القوى الوطنية والثورية هي الضامن الوحيد لإبقاء الثورة على قيد الحياة، فهي مطالبة بأن تحافظ على بوصلتها في الاتجاه الصحيح وألا تدفعها مخاوفها من الإخوان ، إلى الانتحار السياسي بمنح الفرصة لمبارك ليعود مجددا عبر شفيق. 
إن أغلب قوى الثورة ترى ضرورة مساندة مرشح الإخوان لأن "نار الإخوان أرحم من جنّة شفيق" كما يقولون ذلك أن الخلاف مع الإخوان خلاف سياسي تكتيكي يتمحور حول رؤية كل طرف لكيفية تحقيق أهداف الثورة، بينما الخلاف مع شفيق خلاف إستراتيجي ومصيري و هو خلاف جنائي يتعلق بجرائم ودم وأرواح أزهقت ووطن استبيح.
كما أنهم على يقين بأن نجاح مصر لابدّ أن يمرّ عبر إضعاف الإمبراطورية المالية التي بيد الجيش وبالتالي فإنهم واثقون أن فوز شفيق لن يوفّر هذه الفرصة بل سيعمل على تدعيم المؤسسة العسكرية التي جثمت على صدور المصريين منذ ثورة الضباط الأحرار.
وسيكون لقوى الثورة  فرصة جديدة لتصحيح الخلل في المعادلة السياسية الحالية المبنية على الإستقطاب الثنائي ”إخوان/ فلول النظام البائد“ حيث ستحاور ”الأخوان“ من موقع قوّة يسمح لها بفرض بعض الشروط الأساسية للدفع في اتجاه في نظام ديمقراطي مدني. أمّا إذا اختارت هذه القوى مقاطعة الانتخابات  والوقوف على الربوة فستضيع الفرصة كما ضاعت مثيلتها في الجولة الأولى. 
 
الوضع التونسي في كمّاشة الرئاسية المصرية
إن مسار الثورتين التونسية والمصرية متشابه سياسيا وميدانيا والتفاعل بينهما كان ولا يزال كبيرا ولذلك فإن نتائج الإنتخابات الرئاسية  المصرية سيكون لها تأثير بالغ الأهمية على الساحة التونسية . فنجاح ”شفيق“ سيحفّز ”التجمعيين“ على الظهور بصفة أفضل في الساحة السياسية ومن ثمّ المراهنة على إفتكاك السلطة عبر صناديق الاقتراع وسوف يكون من الصعب تمرير قانون يمنع هؤلاء من العمل السياسي لفترة ما من الزمن. أمّا إذا نجح الأخوان في بناء تكتل مع قوى الثورة والفوز في الجولة الثانية فسيكون ذلك حافزا لحركة النهضة لتبادر إلى مدّ يدها للقوى الوطنية  وتوسيع مجال التشاور وتبنى العقلية ”التشاركية“ عوضا عن ”عقلية الشرعية الانتخابية“ لحكم البلاد والعمل على خفض نسبة التوتر وطمأنة المواطنين ومن ثمّ قطع الطريق أمام ”التجمعيين“ من العودة إلى الساحة السياسية من الباب الكبير. 
فهل تفتح الانتخابات الرئاسية المصرية بالرغم كل الشوائب والنواقص والتخوفات والانتقادات مرحلة سياسية جديدة تنقل مصر وتونس معها إلى غد أفضل قوامه إطلاق الحريات وتحقيق إرادة الشعوب بترسيخ مبدأ التنافس السلمي على السلطة  على أسس برامج واضحة الهدف منها خدمة الشعب يتحول بمقتضاها إلى صاحب القرار يختار من يتولى زمام القيادة من خلال آليات ديمقراطية حقيقية؟ أم تحصل انتكاسة تجب ما كسبته الشعوب العربية من حرية وانعتاق وتعيد الحياة للاستبداد والديكتاتورية والقمع و حكم العسكر؟