وجهة نظر

بقلم
د.لطفي زكري
الإسلام: ديانة خاتمة أم مسار كوني؟

 يحسب البعض من المنشغلين بصياغة البدائل الفكرية والثقافية في الأوساط الفكرية الإسلامية أن الحل الإسلامي للقضايا والمشكلات الإنسانية يكمن في تحيين القراءات التاريخية للقرآن والسنة بإدخال التعديلات الضرورية عليها حتى تستجيب لمتطلبات اللحظة التاريخية الراهنة وتستفيد مما توصل إليه الفكر البشري من وجوه الإبداع العلمي والثقافي عامة. لذلك كثيرا ما يقترن الحديث عن الحل الإسلامي بما هو حل كوني بالكثير من الإحراجات الناجمة عن غياب الدقة والوضوح في رسم العلاقة التي تصل أو تفصل بين حدي الإسلام والكونية. إذ يعتقد الكثيرون من المفكرين الإسلاميين أن بيان البعد الكوني في الإسلام بما هو حل للقضايا والمشكلات الإنسانية يكمن في بيان ملامح الكونية الإسلامية وتمييزها عن غيرها من الكونيات ولا سيما منها الكونية الغربية الموسومة باسم العولمة، حتى لكأن كوننة الإسلام وأسلمة الكونية لهما نفس الدلالة أو نفس المعنى. 

     إن سداد القول في مقاربة هذه الإشكاليات يقتضي منا قدرا من الانضباط المفهومي والصرامة المنهجية حتى ندقق النظر في طبيعة الموقف الفكري الذي نريد بلورته في وعينا ووعي الآخرين بشأن الإسلام والكونية وذلك بالتفكير في وجوه الإشكال التي يثيرها السؤال عن علاقة الإسلام بالكونية. فهل من الأنسب تنزيل الكونية في الإسلام ببيان حضور أبعادها فيه أم الارتقاء بوعينا وفهمنا للإسلام إلى أفق كوني حتى نتبين دلالته الكونية؟ وهو ما قد يمكننا لاحقا من بيان ما إذا كان الإسلام كما ورد في القرآن الكريم عنوانا للرسالة المحمدية دون سواها أم ثابتة ملازمة لكل النبوءات والرسالات منذ آدم عليه السلام؟ وهل المسلم هو بالتحديد من آمن بالله ربا وبمحمد (ص) نبيا ورسولا أم هو من أسلم وجهه إلى الله في كدحه التاريخي إليه؟ ثم هل ينبغي على العقل الإسلامي أن ينخرط في صياغة حل عالمي لمشكلات الإنسان المعاصر باقتراح كونية إسلامية لمواجهة الكونية الغربية أم عليه أن يجعل من هذا الانخراط مناسبة لإيقاظ الإسلام الكوني الثاوي في كل الديانات ومنها الديانة المسيحية والديانة اليهودية على وجه التحديد؟ أي هل ينبغي علينا اليوم أن نخاطب الناس في مشارق الأرض ومغاربها بوصفنا المسلمين وهم أغيارنا غير المسلمين أم علينا أن نخاطبهم بوصفنا مسلمين مثلهم أو بوصفهم مسلمين سابقين لنا أنى يكن انتسابهم العقدي؟ ذلك أن ما ينتظره العالم هو الحد من درجة التوتر والتخفيف من حدة الصراع المعلن والخفي بين الناس في مختلف أرجاء المعمورة، لكن ما هي الإمكانات المتاحة لإماطة اللثام عن هذا الإسلام الكوني في واقع تاريخي يجعل من الإسلام خصوصية عقدية أو ديانة تصارع غيرها من الديانات من أجل إرساء عالمية إسلامية؟ وهل في اعتبار الإسلام خاتمة الرسالات السماوية ما يبرر نزع الصفة الإسلامية عن الجماعات الدينية المتمسكة بعقائدها والكافرة بالرسالة المحمدية؟ ثم هل من اليسير اليوم أن نميز بين الإسلام كعنوان للرسالة المحمدية وبين الإسلام الكوني الحاضر في كل الرسالات والنبوءات منذ آدم عليه السلام؟ 
     إن عالمنا الراهن بحاجة إلى وحدة الإنسانية في اختلافها وفي تنوعها لا في تماثلها وتنميطها، وهي حاجة بدأ التعبير عنها في مشاريع حقوقية وسياسية وأخلاقية واقتصادية لم تلق العناية الكافية في ظل الصراعات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب. وحتى يكون هذا العالم فضاء عيش مشترك يجد فيه الجميع مقاما له يجب على الجميع أن يرتقي بخصوصيته العقدية إلى أفق العقيدة الكونية أو أن يبحث لها عما يصلها بغيرها من العقائد بقدر حرصه على بيان ما يفصلها عنها. إن جميع الأديان تراوح بين النفي والإثبات في رسم صورتي الآلهة والبشر، وفي هذا ما يكفي لإنجاز لقاء بين الفرقاء الباحثين عن السلام في عالم الحرب وعن الأمن في عالم الرعب. 
     ليست الكونية في رأينا شيئا آخر غير الخير المطلق والحق المطلق والجمال المطلق الكامن أو الحاضر في كل الخصوصيات الثقافية. إن الفكر الذي يقيم التقابل بين الخصوصية والكونية لا يمكنه أن يتمثل أوجه التشارط بين الحدين ولا درجة التوتر في المقابلة بينهما. فقد يختلف البشر في معايير الخير والحق والجمال، لكنهم يلتقون حول طلب هذه القيم المطلقة وتمثلها ماثلة في إله أو آلهة مطلقة الوجود. إن الكونية أفق مفتوح ومسار لا متناه يتسع لكل المشاريع الحضارية التي تفرزها الإنسانية تاريخيا في كدحها الدائم إلى الله. وهو الكدح الذي خص به الخطاب القرآني الإنسان حين وصفه بأنه كادح إلى ربه كدحا، دون أن  يخصه بجنسية أو هوية مهما كانت مرجعيتها، بل جعل من ذلك النداء الإلهي بلاغا وجوديا يصل الكدح باللقاء ولا يستثني فيه أحدا من النسل الآدمي. فالإنسان الكادح إلى الله هو ذلك المسلم الكوني الذي بدأ مسار كدحه في شخص آدم عليه السلام واستأنفه بعد ذلك في أشخاص الأنبياء والرسل عليهم السلام ومن تبعهم أو خالفهم من أقوامهم. وهو في رأينا مسار تراجيدي ينقاد فيه الإنسان الكادح إلى لقاء الله طوعا أو كرها في لحظة قصوى هي لحظة الموت التي يواجه فيها حي يموت حيا لا يموت.     
       إن كونية القيم هي في الأصل كونية إسلام الإنسان وجهه إلى الله الذي يرى فيه مطلق الخير والحق والجمال. ذلك أن الإيمان بالله على أي وجه من الوجوه لا يكون إلا على جهة الخطوة الثانية التي تعقب الإسلام إلى الله. لذلك اعترض القرآن الكريم على قول الأعراب آمنا داعيا إياهم إلى الإسلام بوصفه الخطوة الأولى في كل الديانات التي عرفها التاريخ البشري منذ آدم عليه السلام. ومن ثم نستطيع القول إن المؤمن المسيحي أو اليهودي أو الكنفشيوسي أو البوذي أو... لا يعي حقيقة إيمانه إلا بعد أن يكون قد أسلم وجهه إلى الله الذي يتمثله في وعيه ويستحضره في مختلف ممارساته الطقوسية التي يتوجه بها إليه. إن الإسلام هو المرتبة الأولى من مراتب الكدح الإنساني إلى الله قبل الإيمان والإحسان والتقوى والشكر. 
      إن الإسلام الكوني كما نفهمه في هذه المقاربة ليس قراءة موجهة لرسالة الإسلام كما جاء بها النبي محمد (ص) أو بعدا من أبعادها بوصفها عقيدة وخصوصية ثقافية متحررة من سجن القومية في مخاطبة الإنسان الكادح إلى الله. إن المراد بالإسلام الكوني هو عقيدة التوحيد المعلنة أو الخفية في كل الديانات بلا استثناء، أو هو المسار الذي افتتحه آدم عليه السلام واستأنفه سائر الأنبياء والرسل ومن ورائهم الجماعات البشرية التي اقتدت بهم واهتدت بهديهم في حياتهم وبعد مماتهم أو الجماعات التي كفرت بهم وبرسائلهم وتمسكت بما لديها من عقائد وشرائع. إن الإسلام الكوني هو الأفق العقائدي الذي لا يستثني أحدا من البشر وهو محور الجدل التاريخي بين الإنساني والإلهي أو بين المتناهي واللامتناهي في مسار التطور التاريخي للوعي البشري ولنمط العلاقة بين الإنسان والطبيعة من جهة وبين الإنسان والإنسان من جهة ثانية.   
      يكشف لنا السفر بين آيات القرآن أن الله عز وجل لم يخاطب الناس إلا بوصفهم مؤمنين أو كافرين وخص بالذكر منهم اليهود والمسيحيين والمجوس وغيرهم لكنه لم يعرض إلى المسلمين إلا في سياق كوني. فقد نجد يا أيها الذين آمنوا أو يا أيها الكافرون لكننا لا نجد نداء من قيبل يا أيها المسلمون أو يا أيها الذين أسلموا. إن الحديث عن الإسلام والمسلمين يأتي ضمن خطاب مفتوح كما في قوله تعالى:» وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُم فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُم إِبْرَاهِيم  هُوَ الذِي سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْل وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ «( الآية 78 من سورة الحج) وهو عين السياق الذي بين فيه ماهية الدين » إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ « ( الآية 19 من سورة آل عمران ). فليس المسلمون أتباعا لنبي أو رسول بعينه وإنما هم كل البشر الذين أسلموا وجوههم إلى الله منذ آدم عليه السلام. ومن ثم لا يمكننا فهم التماهي أو التهوي بين الدين والإسلام إلا على جهة الدلالة الكونية للدين وللإسلام معا. وحتى نفك الارتباط المعطل لفهم هذا الإسلام الكوني يتعين علينا النظر إلى الرسالة التي جاء بها القرآن الكريم على لسان النبي محمد (ص) بوصفها حلقة خاتمة في المسار التاريخي للإسلام الكوني إلى الله عز وجل وليس بوصفها التعين الوحيد للإسلام عبر التاريخ. ذلك أن تاريخ الأديان هو في النهاية تاريخ الإسلام إلى الله عز وجل، طالما أن كل الأنبياء والرسل دعوا أقوامهم إلى الإسلام وشهدوا على أنفسهم بأنهم مسلمون. وهو ما تحيل إليه آيات القرآن الكريم في أكثر من موضع، نذكر منها قوله تعالى: »رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَينِ لَكَ وَمِنْ ذُرِيَتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ « (سورة البقرة الآية 128) أو قوله تعالى:» وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ « (سورة الأعراف الآية 7). فهذه الدعوات لا تحمل على معنى طلب الانتماء إلى ديانة معينة هي الإسلام المحمدي كما يعتقد ذلك عادة بعض الشراح والمفكرين، بل ينبغي أن تحمل على معنى الرجاء الذي يتوجه به الإنسان إلى الله حتى يوفقه في وضع الإسلام موضع الفعل في مسار الكدح إلى الحق والعدل والحرية. أما قوله عزّ وجلّ: »وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ « (سورة يونس الآية 84) أو قوله عز وجلّ:» قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُم يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ « (سورة النمل الآية 38) أو قوله تعالى:» وَإِذَا يُتْلَى عَلَيهِم قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ « (سورة القصص- الآية 53). ليس الإسلام في هذه الآيات حالة ذهنية مفصولة عن الفعل في الواقع ولا هو فعل مفصول عن الحالات الإيمانية التي تعيشها الذات في علاقتها بالعالم وبالآخرين. إن الإسلام في هذه الآيات وغيرها يتجاوز حدود الرسالة المحمدية ويعود بنا إلى عمق تاريخي تبدو فيه الصفة الإسلامية رجاء أو انتظارا أو شرطا في العلاقة مع الله. إن المسلم الكوني الذي يتراءى لنا في مسار الكدح إلى الله ليس هو بالضرورة الإنسان أو المؤمن الأخير المهتدي بتعاليم الديانة الخاتمة وإنما هو ذاك الموجود بين قوسي الولادة والموت في مسار الكدح إلى الله.
     إن الإسلام الذي تفصح عنه هذه الآيات القرآنية ليس قيمة كونية وحسب، بل هو أساس كل القيم الكونية، إنه قيمة القيم المطلقة. ذلك أنه في الإسلام إلى الله يتعرف الإنسان إلى الحق والخير والجمال طالما أن الله هو مطلق الحق ومطلق الخير ومطلق الجمال. ومن ثم تفقد المقابلة بين القيم الكونية من جهة والإسلام من جهة ثانية قيمتها ودلالتها ولا يبقى لها من وجوه المشروعية المنطقية إلا ما قد تثيره من إشكاليات عقدية بالنظر إلى خصوصية بعض العقائد ومنها خصوصية الرسالة المحمدية بوصفها رسالة تنزلت في لحظة تاريخية اتسمت بالتوتر بين النزعة التوحيدية والنزعة الشركية في التدين. 
    إن نعت الرسالة المحمدية بالإسلام لا ينبغي له أن ينسينا أن الإسلام المحمدي ليس سوى حلقة في مسار الإسلام الكوني الذي افتتحه آدم عليه السلام وأن هذا المسار سيبقى مفتوحا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولعل ما يعمق لدينا هذا الاقتناع هو فكرة الانتظار التي توجد في أكثر من ملة ونحلة بما يفيد أن المنتظر سيأتي ليستأنف ما انتهى إليه السابقون من وجوه الإسلام إلى الله وهو ما يفسر اقتران فكرة الانتظار بالاعتقاد في قابلية كل المشاكل والأزمات للحل والتجاوز. إن المنتظر يبدو في صورة بطل شبيه بالإنسان الشمولي الذي قدمته الماركسية حلا لإزالة الصراع الطبقي وعودة الحياة البشرية إلى طبيعتها الأصلية القائمة على التسيير الذاتي والتعايش بين المتكافئين ماديا وفكريا. وهو من حيث القدرة أو الاقتدار تحقق لولادة الإنسان الأرقى الذي بشر به نيتشه كل محبي الحياة والملذات وأنذر به دعاة الموت والاحتضار. 
      ليس الإسلام الكوني إذن دينا بعينه وإنما هو المعنى الأعمق للعلاقة مع الله أو الرّبّ في كلّ الدّيانات. وحتى إن لم ترد مفردة الإسلام صريحة في النصوص الدينية غير القرآن، فإنّ ما تحيل إليه من دلالات العبادة والتوحيد والإخلاص والمحبة نجده حاضرا بكثافة من خلال مفردات مجاورة على نحو ما نقرأه في الإنجيل في قول الرب: »إِنَّ أَوَّلَ الوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيل. الرَّبُ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هَذِهِ هِيَ الوَصِيَةُ الأُولَى« (الإصحاح 12 ص26). وهو قول يستحضر تبعات الإسلام إلى الله وتداعياتها على حياة المؤمن في علاقته بذاته وبالآخرين. كما في قوله تعالى في القرآن الكريم: »فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ « (الآية 103 من سورة الصافات ). فالإقرار بوحدانية الرّب ليس مجرد إثبات لإيمان الذات وإنما هو أيضا اعتراف بإيمان الآخر أو المختلف ملة أو نحلة. 
       وقد يرد الحديث عن الإسلام الكوني في وجهه الآخر ونعني به إسلام الله البشر للبشر أو إسلام البشر للبشر سواء بمعنى استسلام البشر للبشر وإذعانهم إليهم أو بمعنى انهزامهم واعترافهم بالانتصار للمنتصر عليهم وهما معنيان حاضران بأقدار متفاوتة في التوراة والإنجيل والقرآن كلما تعلق الأمر بالقتال أو المواجهة.     
   » (10) وَإِذَا اقْتَرَبتُم مِنْ مَدِینَةٍ لِتُحَارِبُوهَا فاعْرُضوا علَيْهَا السِّلْمَ أوَّلاً، (11) فَإِذَا اسْتَسْلَمَت وَفَتَحَت لكُم أبوابَها، فَجَمِيعُ سُكَّانِهَا یكونونَ لكُم تَحتَ الجِزیةِ ویخدِمونكُم.(12) وإنْ لم تُسالِمْكُم، بل حارَبَتكُم فحاصَرتُموها (13) فأسلَمَها الرّبُّ إلهُكُم إلى أیدیكُم، فاضْرِبوا كُلَّ ذكَرٍ فيها بِحَدِّ السَّيفِ. (14) وأمَّا النِّساءُ والأطفالُ والبَهائِمُ وجميعُ ما في المدینةِ مِنْ غَنيمةٍ، فاغْنَموها لأنْفُسِكُم وتمَتَّعوا بِغَنيمةِ أعدائِكُمُ الّتي أعطاكُمُ الرّبُّ إلهُكُم  «(العهد القديم ص 133)
وإذا كان الإسلام إلى الله يمر بإسلام البشر إلى البشر فذلك بغاية التأكيد على أن محك العلاقة مع الله هو العلاقة مع البشر، وهذا يعني أن معيار صدق إسلام المرء إلى الله هو سلامة الناس من ظلمه المادي والمعنوي أو الفعلي والقولي، فالمسلم هو من سلم الناس من يده ولسانه أنى تكن عقيدته ودرجة إيمانه وليس هو بالضرورة من اتبع نبيا أو رسولا بعينه، وهو المعنى الذي يفيده الإنجيل حيث يقول » ِليَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ، سَالِمُوا بَعْضَكُمْ بَعْضًا « (الإصحاح 9 ص 19)
وهي عين المعاني التي يستأنفها القرآن إما بالنهي عن قتال أو مواجهة كل من بادر أو أظهر نية الإسلام، فلا ينبغي للرغبة في الحصول على الغنائم أن تكون غشاوة تعمي القلوب والأبصار عن رؤية الحق الإنساني في الانخراط في مسار الإسلام الكوني كما في قوله تعالى:» يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِم كَثِيرَة كَذَلِكَ كُنْتُم مِنْ قَبْل فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُم فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا « (الآية 94 من سورة النساء). إن إسلام المرء كاف ليعصم دمه وماله وعرضه ممن يقاتل في سبيل الله، بل لعله يمكننا القول إن إسلام البشر إلى البشر بفضل الله أولا ثم إسلام البشر إلى الله بهدايته ثانيا لا يسحب الحق في الاستقلالية من أصحابه ولا يعطي للغزاة الحق في التسلط أو التحكم في الرقاب، وهو ما عناه القرآن في قوله تعالى:» فَإِن اعْتَزَلُوكُم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُم السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُم عَلَيْهِم سَبِيلاً « (النّساء الآية 91 ). 
 
    إن الإسلام الكوني يحول دون الإمعان في الاستعلاء والاستكبار ويحمل الإنسان على أن يكون إنسانا مكتمل الإنسانية ومحصنا ضد كل أشكال الغرور والاحتقار في علاقته بذاته وبالآخرين. إن المسلم الكوني هو الإنسان المفلح في حياكة الروابط الضرورية والكافية بين وجوده المتناهي والوجود اللامتناهي لله في حياته ومماته. فقد تختلف التعبيرات التاريخية التي يتبدى عليها إسلام البشر إلى الله وقد يناقض بعضها بعضا حتى داخل الديانة الواحدة لكنها لا تخرج عن المسار الكوني الذي تلتقي فيه كل الملل والنحل وتتخطى عتبة الفوارق الفاصلة بينها.      
     إن ما يقوي لدينا الاقتناع بأن الإسلام الكوني ليس دينا بعينه هو ما اقتضاه من تعديلات في الخطاب الديني جعلت النص اللاحق مفصلا للنص السابق أو مصححا لبعض ما اعتراه من وجوه التحريف بالزيادة أو النقصان. فقد كان النسخ علاقة بينة في جل النصوص الدينية التي تعاقبت خلال التاريخ على مخاطبة العقل والوجدان البشريين. إن الوحي لا ينزل ولا يتنزل في قطيعة مع تحولات الواقع التاريخي بل في علاقة وثيقة معه، لذلك نقرأ في النص الديني الخطاب والخطاب المضاد كما نقرأ فيه الخطاب الناسخ والخطاب المنسوخ. وليست هذه المزاوجة شأنا خاصا بالأوامر والنواهي لأتباع ديانة معينة بل قد نجدها في الديانة الواحدة بنفس القدر الذي نجده بين ديانات مختلفة. هكذا استحضر القرآن الخطاب المضاد الإبليسي والفرعوني والقاروني، كما ألغى في سياق النسخ ما حرم على اليهود من صنوف اللحوم والشحوم أو ما حرمه النصارى على أنفسهم من وجوه الزينة والشهوات طلبا للرهبنة.
     لا يمكن الحديث عن الناسخ والمنسوخ في نطاق القرآن وحسب، ذلك أن النسخ ليس أمرا مقصورا على آيات القرآن بل يشمل كلام الله عز وجل في الصحف والزّبور والتوراة والإنجيل أيضا. فمثلما يكون النّسخ بين آيات أو إصحاحات النّص الواحد يمكن أن يكون أيضا بين نصوص مختلفة. إن النسخ هو صورة الاستقبال الإلهي للكدح الإنساني وهو الحاضن الرباني للإسلام الكوني.