في العمق

بقلم
الهادي بريك
هذا الكتاب تلوناه وحفظناه وذاك الميزان جهلناه وأهملناه

 مقدمة.

 جئت يوما أتلو الكتاب العزيز وأنا أحمل نفسي على التدبّر حتى وصلت إلى سورة الحديد التي قرأت في آخرها : „ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز". (1). ما إن خرقت الحجب التي تحول بين المرء وبين التدبّر حتى أينع في نفسي شوق حار وشديد إلى إستنطاق هذا السياق القرآني. سألت نفسي : هذا الكتاب المنزل من الله تعالى إلينا وجدناه ( وهو القرآن الكريم المحفوظ اليوم في مصاحف معلومة ) ولكن أين الميزان الذي أنزل مع الكتاب العزيز جنبا إلى جنب بحسب المنطوق القرآني نفسه؟ ألا ترى معي أن الله أخبرنا أنه أنزل إلينا الكتاب ( أي القرآن الكريم ) بمثل ما أنزل إلينا ( الميزان )؟ تدبر معي ( واو العطف التي تفيد المغايرة هنا). ألا ترى معي أن الكتاب شيء وأن الميزان شيء آخر؟ ألا ترى معي أن كلاهما منزل منه سبحانه؟ ألا تنخرط معي في هذا السؤال : هذا الكتاب ألفيناه وتلوناه وحفظناه ولكن أين الميزان؟ صبرا. لا تعجل عليّ. سأطرح على نفسي وعليك أسئلة. هل أخفي هذا الميزان المنزل جنبا إلى جنب مع الكتاب؟ هل وصل إلينا ولكن أضعناه؟ لا شك في أنك تؤمن معي بأن الميزان موجود  وما علينا سوى البحث عنه. ألا تسل نفسك معي : وأي حاجة لنا بهذا الميزان؟ أليس القرآن بكاف المؤمن وزيادة؟ ألا يكفي أننا ظفرنا بالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ ألا تؤمن معي بأنه لو كان القرآن الكريم بكاف الإنسان لما أنزل الميزان معه؟ ألا تؤمن معي بأن الكتاب الكريم وحده لا يكفي ولا بد له من الميزان ـ أو بالأحرى لا بد لنا نحن من الميزان ـ وأن الميزان وحده لا يكفي ولا بد له من الكتاب ـ أو بالأحرى لا بد لنا نحن من الكتاب ـ؟ ألا تخلص معي إلى هذه الحصيلة : لا يتم تديّننا الذي به نؤدي رسالتنا التي من أجلها خلقنا إلا بتكافل الكتاب والميزان معا؟ ألا تخلص معي إلى هذه الحصيلة : لا مكان للأمة اليوم إلا في ذيل القافلة البشرية سوى بسبب تفريطها في الميزان إذ لم يشفع لها الكتاب حتى لو تشبثت به. ألا تتواضع معي على أن مفارقة الأمة لمنزلة الخيرية المطلقة ليس سوى لإهمالها لشقيق الكتاب أي الميزان؟ ألا تشاطرني هذه القالة : القرآن والميزان صنوان لا يفترقان فلا يغني أحدهما عن الآخر ولا يكون له بديلا؟ ألا تستصرخ معي : إنما الميزان شقيق القرآن وإنما القرآن شقيق الميزان فلا تؤدى الرسالة التي من أجلها خلقنا إلا بهما معا.
 
إذا تواضعت معي على ذاك فلنرتحل إلى نفير إسمه : نفير البحث عن الميزان. لن يضنينا البحث لأن الميزان ما ضاع وما ينبغي له أن يضيع ولكن تاه منا بين الآيات والسياقات والسور بسبب حبس أنفسنا على التلاوة فحسب. أما التدبر المنشود بقوة فلا يقبل عليه إلا قليل من قليل من قليل. ألا ترى معي أن المنزلات من السماء ثلاث : القرآن والميزان والحديد. ألا ترى معي أننا ظفرنا بثلث المنزل فحسب أي بالقرآن فحسب. أما الميزان ـ أو قل جزء كبير منه ـ وكذلك الحديد فقد ظفر به البطشة الذين ما آمنوا بكتاب جاء بالميزان والحديد ولا تلوه ولا تدبروه. ماذا بقي لأمة حبست نفسها على القرآن فحسب؟ هل يشفع لها القرآن يوم القيامة وهي ما سألت يوما لا عن الميزان ولا عن الحديد؟ ألا تقول معي : أين الميزان يا أمة الميزان؟ ألا تقول معي : أين الحديد يا أمة الحديد؟ 
 
ما هو الميزان وأين نجده.
الميزان صيغة مبالغة وهو من فعل : وزن يزن وزنا. هو إسم الآلة من الفعل ذاته. وزن في اللغة العربية معناه : أضاف إلى الشيء الموزون قدرا محددا معينا وبذا يكون قدره كذا إن كان مكيلا وقدره كذا إن كان موزونا وقدره كذا إن كان مؤقتا إلخ .. ويكون الوزن ماديا للماديات ومعنويا للمعنويات. ورد الميزان بمعناه المادي في القرآن الكريم : „ فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم „.(2). كما ورد بمعناه الروحي :“ الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان" ـ (3).
لا ريب في أن الميزان المنزل جنبا إلى جنب مع القرآن الكريم ( الكتاب ) هو الميزان الروحي وليس الميزان المادي لأن الميزان المادي يصنعه الإنسان بتجربته. الميزان ـ كما مرّ معنا ـ هو آلة الوزن أي آلة التقدير التي تنسب إلى الشيء الذي يوضع فوقها قدره الحقيقي دون إخسار ولا طغيان. ذلك هو المعنى اللغوي للميزان. 
أما المعنى الإصطلاحي الدلالي للميزان فهو : الآلة المعنوية الأخلاقية الروحية التي نستخدمها لحسن تقدير المواقف من معتقدات ومقولات وأعمال وأفعال وصنائع في حقول الحياة كلها نشدانا للعدل والقسط والوسطية قدر الإمكان.
 
طريقان للكشف عن الميزان.
الطريق الأول هو تتبع القرآن الكريم نفسه. أما الطريق الثاني فهو ما يوحي به إليك عقلك في أثناء تدبرك للقرآن الكريم ومن خلال معافستك للحياة. هناك طريق ثالث وهو النظر في خير من بيّن القرآن الكريم بيانا عمليا أي سيرة محمد عليه الصلاة والسلام. وكذا النظر في  السيرة السياسية العامة للخلافة الراشدة المهدية الأولى بصفة خاصة. لو جمعنا تلك الطرق كلها لما وسعنا إلا أن نقول : طريقة الكشف عن الميزان هي طريقة عقلية تدبرية. إذ لا ينبئك القرآن الكريم نفسه أن الميزان المقصود هو كذا وكذا على وجه التعيين ولكنك كلما تقدمت في فقهه عرفت الميزان المقصود. أي أن الكشف عن الميزان المقصود لا بد له من نظر وفهم وتدبر وفقه وتقليب وحوار بينك وبين الكتاب وبينك وبين الحياة وبينك وبين الناس. 
قد تسأل سؤالا مهما : أي حكمة في إخفاء الميزان الذي لا بد منه لإستقامة الحياة وأداء الإنسان للرسالة التي لأجلها خلق؟ الحكمة هي في إبتلاء الإنسان المعلم هل يستثمر مداركه العقلية في البحث والإجتهاد والتجديد والتحديث أم يجمّد رساميله الفكرية والعقلية في البيوت المثلجة. ألا ترى أن الجيل القرآني الفريد الأول ـ جيل الصحابة ومن بعدهم بقليل ـ عرفوا الميزان المقصود معرفة صحيحة دون جدال ثم تكافلوا على العمل به بمثل ما يعملون بالقرآن الكريم وبذلك ظفروا بالعزّ والسؤدد والغلبة والشهادة على الناس التي مكنتهم من هدايتهم إليه سبحانه بإذنه. 
خذ إليك هذا المثال الذي يحيّرني ولا بد له أن يحيّرك ويحيّر كل باحث عاقل. هو مثال إمرأة إسمها ( سمية أم عمار من آل ياسر ). هذه إمرأة لها زوج وبيت وبنون. هذه إمرأة لا يطوح شقيّ بنا بعيدا لينزع عنها الغرائز والجبلاّت التي أودعها الباري سبحانه في كل أنثى. تحب ما يحب النساء وتكره ما يكره النساء. إمرأة لم تسمع من القرآن الكريم بالتأكيد أكثر من آيات معدودات وسور معدودات ربما لا يتجاوز عددهن عدد أصابع اليد الواحدة أو اليدين في أقصى تقدير. إمرأة لا أظن أنها سمعت حديثا نبويا واحدا سوى الحديث الذي تسمعه كل يوم :“ صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة". لم يكن ذلك متاحا لها لأنها تعرضت للتعذيب والتغييب عن لقيا محمد عليه الصلاة والسلام من أول يوم أسلمت فيه. حتى الرجال الأحرار ـ غير العبيد ـ لم يكن متاحا لهم أن يستمعوا إلى كل ما ينزل من القرآن الكريم في تلك الأيام المضنيات فما بالك بالنساء والعبيد. سيما الذين يتعرضون منهم إلى التنكيل بسبب " وضاعتهم " القبلية أو بسبب ضعفهم البدني أو بسبب وضعهم الإجتماعي والمالي. لا أظن أن تلك المرأة إستمعت إلى أكثر من صفحتين من صفحات الكتاب العزيز بمثل ما إستقر عليه المصحف من بعد ذلك. أما القراءة فلا سبيل إليها إذ لم يكن هناك شيء مكتوب أبدا حتى القرآن نفسه ولا الحديث. إمرأة ذاك وضعها الذي لم يكن أمامها عائقا البتة لتحسن فقه الرسالة الإسلامية ثم لتقرر أن تظل صامدة مقاومة مجاهدة بثباتها وعصيانها وتأبّيها وبأمعائها الخاوية ثم لتقرر أن تضع روحها فوق راحتها لتكون أول شهيد ( وليس أول شهيدة ) في الإسلام. ألا تسل نفسك معي : ألا نحتاج نحن اليوم إلى مكتبات ممتلئة بالكتب والمجلدات وإلى المصحف مخطوطا بأربعة عشر قراءة ومثلها تقريبا من الروايات وتفاسير بالمأثور وأخرى بالرأي وكتب في الحديث وفي تفسيره وأخرى في الفقه وأصوله وفي السيرة والتاريخ الإسلامي .. ألا نحتاج نحن اليوم إلى ذلك وأضعاف أضعافه وقد يلتحق الواحد منا بحسن فقه الرسالة لتكون واضحة جلية في صدره بكتابها وميزانها وقد لا يلتحق بعشر معشار ذلك؟ كيف أدركت ( سمية ) ذلك وهي لا تملك شيئا أبدا مما نملك نحن اليوم من " علوم " و" معارف " وتفاصيل التفاصيل التي نظل نتجادل فيها حتى يقتل بعضنا بعضا بالنيران الصديقة.. كيف أدركت هي ذلك ولم ندرك نحن من ذلك إلا قليلا وقد توفر لنا كل شيء. 
أظن أن ذلك المثال ( مثال سمية ) كفيل بأن يجعل طرح السؤال عن الميزان طرحا جادا لا لهو فيه. مثال ( سمية ) ينبئنا أن قليلا جدا من القرآن كفيل بالهداية التامة على الصراط المستقيم إلى حد الجود بالروح طوعا. أي كفيل بالهداية إلى الميزان. مثال ( سمية ) ينبئنا أن الظفر بالميزان لا يحتاج علوما كثيرة ولا معارف وفيرة ولا حتى إحاطة كمية ظاهرة بالقرآن الكريم. أثر عن حبر الأمة وترجمان القرآن إبن عباس قوله : „ ثوّروا القرآن " بل أسنده بعضهم إلى طبقة الحديث النبوي. تثوير القرآن معناه تدبره. التثوير والتدبر كلاهما ينفذ إلى الأعماق والبطون والمقاصد والمفهومات. ألا ترى أن التدبر معناه لغة الإتيان من الدبر. دبر الشيء خلفه وظهره. دبر الشيء هو الجهة التي لا تنكشف حتى تعمل على كشفها. ألا ترى أننا نحفل اليوم بالقراءات والروايات إلى حد المغالاة في تفاصيل فروعها الجزئية الصغيرة جدا محل الإختلاف بين أهلها في حين يكون حفلنا بالتدبر والتأمل والتفكر والتثوير والفهم والفقه حفلا صغيرا. ألا ترى أن من يتحدث اليوم عن السنن الإجتماعية لنشوء الحضارات والدول والثقافات ولتقهقرها إنطلاقا من الآي القرآني لا يعدّ في زمرة العلماء ولا الفقهاء بل ربما عدّ في زمرة المتفيهقين. ومثله من يتحدث عن مقاصد الوحدة والإعتصام ونبذ التفرق والمقاومة والظفر بالعلم. ومثله من يتحدث عن العلوم الكونية التي بها تحتل أرضنا ويهتك عرضنا. 
 
لنكشف عن الميزان من طريق القرآن.
قبل ذلك لا بد لنا من التواضع على حقيقتين. الحقيقة الأولى هي أن القرآن يفسر بعضه بعضا. الحقيقة الثانية هي أن النظم القرآني منسجم إنسجاما لا مزيد عنه فهو منسجم عندما يستخدم هذا هنا وليس هناك وهو منسجم عندما يستخدم هذا هنا وهناك. ذلك الطريق من النظم المنسجم إنسجاما محيّرا يراد منه ـ مما يراد ـ إيقاظ العقول إلى حقائق كبيرة لا يستهدفها بالعبارة ولا حتى بالإشارة أحيانا ولكن بالإقتضاء. الذين يستقرؤون الكتاب العزيز يدركون ذلك جيدا. إذ ليس هناك طريق أوفى من طريق الإستقراء الجامع ـ وليس الإستقراء العشوائي الذي يقوم به الناس اليوم في الأسواق مثلا ثم يطبقونه على القرآن ـ لحسن فقه أي قضية تعرض لها الكتاب العزيز. الإستقراء لا بد منه لأن النظم القرآني مبثوث بثا عجيبا فهو يتعرض لهذا هنا بكلمة واحدة عابرة ثم يفصل تلك الكلمة منبسطا هناك. ليس هناك قضية واحدة ـ تقريبا ـ تعرض لها الكتاب العزيز في موضع واحد فوفاها هناك ما يلزمها. وبذا جمع بين خلّتين هما في الأصل متعارضتان : الحكمة والتشابه. 
 
الميزان في القرآن دلالات ثلاث.
الميزان هو الشورى: وذلك بسبب ذكره في سورة الشورى لأول مرة بحسب الترتيب النهائي للسور في الكتاب العزيز. ذكر الميزان في القرآن المكي مرة ( الشورى ) وذكر في القرآن المدني مرتين ( الرحمان و الحديد). ذلك يعني أن الميزان لا بد له لإعداد الجماعة أولا. أي جماعة واحدة متشاورة رغم ضعفها ورغم تعددها. لا بد من ذلك في القرآن المكي الذي يستهدف التأهيل والإعداد والتكوين في مرحلة إنتقالية لا بد من حقنها بالأمصال الواقية بمثل ما يحقن الطفل أو الرضيع بذلك ليقاوم الأمراض التي قد تداهمه في قابل حياته. فلما تحرر الناس في المدينة بالهجرة كان لا بد من إتمام ثلثي الميزان أي : العلم المفضي إلى الإيمان الصحيح والحديد المفضي إلى القوة ولكنها قوة العدل والخير والرحمة وليست قوة الصلف والجبروت. لم يكن ذلك ممكنا في القرآن المكي. لم يكن مطروحا عليهم عمارة مكة حتى يكتسبوا العلم ولم يكن مطروحا عليهم قتال أهل مكة حتى يصنعوا الحديد. كانوا ضحايا الحديد في مكة فلما قويت شوكتهم أمروا بإكمال الميزان ليكون الحديد حاميا للميزان. 
 
ورد في سورة الشورى : „ الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان  وما يدريك لعل الساعة قريب"(4). أصل الجملة هو : الله الذي أنزل الكتاب والميزان كلاهما بالحق. المتفق عليه هو أن الله أنزل الكتاب والميزان وهو التعبير نفسه الوارد في سورة الحديد. والمختلف فيه هو أن الإنزال بالحق مقتصر على الكتاب أم يشمل الميزان كذلك. مفعولات الإختلاف هنا ليس لها مدى بعيدا.
ورود ذلك في سورة الشورى يعني ـ من جملة ما يعني ـ أن الميزان نظفر به ـ أو نظفر بجزء منه ـ عندما نتخذ الشورى آلة نحسم بها الآراء والخلافات ونكرم بها الإنسان ونجعله شريكا في الأسرة وفي المؤسسة وفي الحزب وفي المنظمة وفي المصنع وفي الحكم ومؤسساته. ولا شك في أن الشورى رمز إلى وحدة الجماعة. الشورى آلة من أكبر آلات رص الصف الداخلي ولمقاومة العداوات الخارجية. 
الميزان هو التوحيد الصافي ثمرة للعلم: وذلك بسبب ورود الميزان ـ في ثاني سورة من بعد الشورى بحسب الترتيب النهائي للسور ـ في سورة الرحمان. سورة الرحمان رمز إلى الله الذي يطلب منا القيام بحقه كاملا أي التوحيد الصافي من كل شائبة شرك وتلك هي الرسالة التي نرددها بالألسنة بمعدل أربع ساعات ونيف على مدار الحياة ( إياك نعبد وإياك نستعين ). الميزان هنا في الحقيقة مزدوج. هو مزدوج لأن التوحيد الصافي لا سبيل إليه إلا ذلك السبيل الذي إفتتحت به سورة الرحمان. „ الرحمان. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان" (5). ألا ترى أن النظم القرآني خالف الترتيب الزمني لوقوع الأحداث. كيف ذاك؟ ذكر أنه علم القرآن ثم ذكر أنه خلق الإنسان. والترتيب الزمني لوقوع الأحداث ينبئنا دون ريب أنه خلق الإنسان أولا ثم علمه القرآن وعلمه البيان. ما هي الرسالة من ذلك؟ الرسالة هي : قيمة الإنسان في أسواق القيم الإنسانية هي بقدر علمه القرآن وبقدر علمه البيان. ذلك هو حظه وذلك هو قدره وتلك هي قيمته. إذ لا قيمة لخلقه ( بفتح الخاء ) إلا بقيمة خلقه ( بضم الخاء). الميزان إذن هنا مزدوج فهو التوحيد الصافي ولكن المفضى إليه بطريق العلم وليس بطريق الجهل أو التقليد أو أي طريق آخر غير طريق العلم. الميزان هو إذن ـ هنا ـ العلم في الحقيقة. وليس التوحيد إلا أثرا من آثار العلم. العلم يسبق التوحيد وهو ينجبه. ولذلك قال سبحانه : „ إنما يخشى الله من عباده العلماء".(6).العلاقة هنا طردية. 
لنتوقف قليلا لأن الميزان هنا يعلمنا أشياء أخرى. الميزان هنا هو : „ والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان. والأرض وضعها للأنام.“ (7). ذكر الميزان في هذا السياق الصغير جدا ثلاث مرات بالإسم ورابعها بفعل الوزن. ولم ينفك هذا السياق الصغير جدا عن ذكر المقصد الأسنى من الميزان وهو : القسط. ألا ترى معي أن هذا السياق الصغير جدا نفسه قد حمل إلينا قصة الميزان " الفقيد " كلها. وبذلك يكون ذكر الميزان في الكتاب كله : 5 مرات. ( مرة في الشورى ومرة في الحديد وثلاث مرات هنا في الرحمان ). وبذلك يكون الميزان مرتبطا بالحق مرة ( في الشورى ) وبالقسط مرتين ( مرة هنا في الرحمان ومرة هناك في الحديد ). ألا ترى معي من موافقات الكتاب العجيبة أن عدد ورود الميزان هو عدد إقامة الصلوات نفسه؟ كأنه يقول لنا : أقيموا الميزان بقدر إقامة الصلاة. كأنه يقول : العلاقة معي في معراج الصلاة لا تقبل إلا بالعلاقة مع الميزان لإقامة القسط. ليس ذلك بعجيب ولا بغريب بسبب أن الوحي الكريم كثف رسالته وركز مقصده في آيتين أخريين ولكن حقهما الجمع من لدنّا نشدانا للفهم الموضوعي وهجرانا للفهم الموضعي إذ قال في الأولى : „ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ".(8). وقال في الثانية : „ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ".(9). ألا ترى أنهما مقصدان أسنيان مكثفان مركزان لا يسبقان ولا يتقدمان : قوّامية جماعية لله وقوامية جماعية بالقسط وشهادة جماعية لله وشهادة جماعية بالقسط. أي لله القوامية والشهادة. وللناس القوامية بالقسط والشهادة بالقسط. أي التكافل لإخلاص الشهادة لله والتكافل لإخلاص القسط للناس. هما إتجاهان متعاكسان في الجغرافيا ومتحدان في الغرض. 
رسالة أخرى لا بد من الكشف عنها : الميزان خمسة أخماس. ثلاثة أخماس منها في الرحمان أي في العلم الصحيح المفضي إلى التوحيد الصافي. خمسان آخران أحدهما في الشورى والآخر في الحديد. ذلك يعني أن العلم هو ثلاثة أخماس الميزان. إذ بالعلم تتوفر الشورى بما هي علوم إدارية وسياسية وإجتماعية وبالعلم كذلك يتوفر الحديد. تقسيم عجيب. العلم هو أسّ الميزان. العلم هو الذي ينشئ التوحيد الصافي والإيمان الذي يكسب منه صاحبه خيرا. العلم هو أبو الحديد وهو أبو الشورى. تلك هي أعمدة الأمة المفلحة : علم + شورى + حديد. تلك هي حصيلة الميزان.
دعنا نخلص إلى الخلاصة متعجلين : الميزان " الفقيد " هو الحق وهو القسط وهو شقيق الكتاب أي شقيق القرآن. ومقصده الأسنى : إقامة القسط بين الناس وللناس. وسنتبيّن من بعد قليل أن ذلك المقصد الأسنى للميزان لا بد من ( الحديد ) لتحققه. أي لا بد من القوة المدنية والقوة العسكرية.
الميزان رمز للعدل والقسط. الدلالة الإصطلاحية للميزان هي العدل. الميزان رمز العدل وكفى. 
الميزان هو الحديد : وذلك بسبب وروده ـ كما رأينا في مقدمة هذا المقال ـ في سورة الحديد. الحديد هو رمز القوة وهي قوتان. قوة مدنية توفر رغد العيش وذلك في قوله سبحانه في هذا السياق : „ ومنافع للناس ". أي أن الحديد يوفر المنافع المادية الدنيوية للناس. وقوة عسكرية توفر الحماية لنا وللمستضعفين من حولنا. وذلك في السياق ذاته الذي يقول فيه : „ فيه بأس شديد ". المقصود بالحديد إذن هو القوة بمعنييها. ولكن يعلمنا الميزان هنا في سياق ( الحديد ) أمرا آخر. يعلمنا أن الميزان إنما مقصده الأسنى هو : „ ليقوم الناس بالقسط ". أي أن الميزان يبحث عنه ويظفر به لإقامة القسط بين الناس والقسط هو مطلق العدل وهو دقة العدل. 
 
 حصيلة الإستقراء هي :
الميزان هو الشورى. وهو العلم ( المفضي بالضرورة إلى التوحيد ). وهو الحديد. 
الميزان هو إذن بالضرورة : الجماعة الواحدة المتكافلة على مبادئها والتي تدير الشورى بينها. وهو بالضرورة كذلك : العلم الذي يحمل معه دليله إذ لا حجر على البحث العلمي ولا يفضي مثل ذلك البحث إلا إلى الإسلام. وهو بالضرورة كذلك : القوة المدنية والعسكرية التي توفر للجماعة رغد العيش وتنبذ نكده بمثل ما توفر الحماية الأمنية للجماعة ولمن حولها من المستضعفين. 
الميزان هو إذن بالضرورة : إقامة القسط بين الناس. ولأن إقامة القسط بين الناس لا بد لها من جماعة موحدة بالشورى .. ولا بد لها من العلم في حقول الإدارة السياسية والمالية .. ولا بد لها من القوة بمعنييها الواردين.. لأن إقامة القسط بين الناس لا بد لها من كل ذلك كان توفير ذلك مقدما. إقامة القسط بين الناس هو الميزان وهو المقصد الأسنى لرسالة الإسلام لمن يستقرئ الإسلام في مصدريه. وذلك المقصد الأسنى يحتاج إلى وسائل مقاصدية كبرى وهي ثلاث : الجماعة الشورية و العلم المؤسس للإيمان وللحضارة والقوة التي تبث الخير والرحمة. 
حصيلة الإستقراء في الكتاب العزيز إذن نتيجتها هي أن الميزان هو : إقامة القسط بين الناس وللناس وذلك يتوسل إليه بالجماعة والعلم والقوة.
 
الميزان شقيق القرآن.
تلك هي الخلاصة الراسخة. لا نهضة تؤشر لها السنن الماضية لغشيان أرضنا إلا بإعادة نسج حبال الودّ بين الشقيقين : الكتاب والميزان. الكتاب هو الدستور النظري والميزان هو التنفيذ العملي لذلك الدستور النظري.
 
الكتب المنزلة ثلاثة وليس إثنين فحسب.
نقرأ في الكتب منذ عهود أن الله أنزل إلينا كتابين : أحدهما مسطور وهو القرآن والآخر منظور وهو الكون. هذا صحيح. ولكن لفرط غشمتنا أنسينا الكتاب الثالث أي الكتاب المعمور وهو الميزان. الكتاب المسطور هو النظرية الدستورية العامة والكتاب المنظور هو المعرض الواسع الكبير الذي يصدق الكتاب المسطور في عقائده وتاريخه بما يفتح على الكون والتضاريس والتاريخ وما يعتمل في النفس البشرية. أما الكتاب المعمور فهو الميزان الذي لا يستغني عنه لا الكتاب المسطور ولا الكتاب المنظور. إذا آمنا بالكتاب المسطور وصدقنا ثم عمقنا ذلك الإيمان وذلك التصديق بالنظر في الكتاب المنظور نظل مؤمنين دون ريب. ولكن دون عمل صالح. العمل الصالح الذي هو ثمرة الإيمان بالضرورة لا يمكن له أن يتسلل إلينا إلا بعد تنفيذ الكتاب المعمور أي الميزان. الميزان هو الكتاب المعمور الذي يفتح لنا حقول الإستثمار لرساميل الكتابين السابقين أي : الكتاب المسطور والكتاب المنظور. 
 
والله أعلم.
 
هوامش.
 
(1) ـ الآية 25 من سورة الحديد.
(2) - الآية 85 من سورة الأعراف.
(3) - الآية 17 من سورة الشورى.
(4) - الآية 17 من سورة الشورى.
(5) - الآيات من 1 حتى 4 من سورة الرحمان.
(6) - الآية 28 من سورة فاطر.
(7) - الآيات من 7 حتى 10 من سورة الرحمان.
(8) - الآية 135 من سورة النساء.
(9) - الآية 8 من سورة المائدة.