في الشؤون الوطنيّة

بقلم
اسماعيل بوسروال
الوطن فوق الأحزاب وقبل النّقابات : المهمّة

 

الوطن فوق الأحزاب وقبل النّقابات   :

 المهمّة "الثّورية " للمجلس الوطني  التأسيسي

 

 

 

 مقدّمة :

 

 

تسلّم المجلس الوطني التأسيسي المنتخب بنزاهة وشفافية  مهامه من "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثّورة والانتقال الديمقراطي" المعّينة بطريقة توافقية ...وأُوكلت للمجلس التأسيسي مهام إدارة المرحلة الانتقالية الثّانية بكل متطلباتها من تكوين حكومة ومراقبة عملها وانتخاب رئيس للجمهورية وانجاز تشريعات تقتضيها أوضاع البلاد الى جانب المهمة المركزيّة المتمثّلة في إنجاز دستور جديد للجمهورية التّونسية يعوّض الدّستور الذي أنجزه المجلس القومي التّأسيسي سنة 1959 والذي طرأت عليه تحويرات عديدة في العهدين البورقيبي والنّوفمبري وخاصة تحويري  1974 و 2002 اللذين مسّا روح النظام الجمهوري و أفقدا "الدستور" وظيفته التعاقدية بين الشعب والحاكم وحوّلاه إلى أداة يستخدمها الحاكم حجّة له لإرساء نظام وراثي ...ولم يعد الدّستور حجة على الحاكم يحدّ من سلطاته ويجعله وفق ما انتخبه الشعب له .

 الأحزاب والمجلس التأسيسي : 

تواجدت الاحزاب التونسية في المجلس التأسيسي ومنذ البداية انقسمت الى "ترويكا حاكمة " و"معارضة " وانفصل الائتلاف الذي تجسّد في وثيقة 18 اكتوبر 2007 بين القوى الديمقراطية ( الحزب الاشتراكي التقدمي ) واليسارية ( حزب العمّال ) والاسلامية  ( حركة النهضة )
 لاحظ المتابعون  باندهاش تصريحات عنيفة لقادة التقدمي تجاه النهضة ( قبل الانتخابات ) في مشهد غير مبرّر بين"رفاق الأمس "...ولكن هذا الخطاب العنيف تواصل بحدّة داخل المجلس الوطني التأسيسي وشكّل بالنسبة للمتابعين  لغزا غير مفهوم إذ أنّه و‘ن كان من حق أي حزب أن يتّخذ مواقفه وفق قناعاته وله كامل الحرّية في تغيير تحالفاته لكن التحول الكبير في الموقف أربك القواعد الشعبية للديمقراطي التقدمي ، لقد كانت الحرب الكلامية  بين التقدمي والنهضة امرا مساهما في رفع التوتر بدل خفضه ...وهو ما شكّل عامل سوء تفاهم مزعج للطرفين ...وربما كانت نتائج سبر الآراء التي سبقت الانتخابات والتي كانت تمنح الحزب الاشتراكي التقدمي نسبة هامّة من المقاعد بنى عليها قادة الحزب تصريحاتهم ...ولكن ربما كان لطموح أبرز مؤسسيه إلى كرسي الرئاسة دور في المواقف المتّخذة ... 
بعد انتخابات 23 اكتوبر لاحظ المتابعون  إعادة ترتيب أوضاع الأحزاب اليسارية وتجميع قواها في جبهة واحدة ( الجبهة الشعبية ) وبناء استراتيجيتها على عاملي "الشارع " (المظاهرات – الاعتصامات) ... و"المنظمة النقابية "(الاضرابات ) بما خلق مناخ احتقان في عديد القطاعات وفي عديد الجهات بلغت أوجها في تعطيل إنتاج الفوسفاط بقفصة والمجمع الكيميائي بقابس و في أحداث سليانة التي تابع الناس خلالها  إصرار أحزاب اليسار واتحاد الشغل ورابطة حقوق الإنسان على ضرورة عزل الوالي ربّما  لخصومة حدثت بين موظفين في الولاية أو لمجرّد تمسّك رئيس الحكومة به وهو سلوك أرادت أن  تمارسه النخبة السياسية والنقابية في تونس ربّما كأداة لإحراج الحكومة المؤقتة ودفعها إلى ارتكاب تجاوزات تكون نقاطا لفائدة المعارضة في الانتخابات القادمة  . 
الحركة  النقابية بعد الثورة 
اما المنظمة العتيدة الاتحاد العام التونسي للشغل فإنه بعد مؤتمر طبرقة مارس "الدور السياسي والنقابي في آن واحد " وإن كان الأمر ليس جديدا فقد تكرّر ذلك عبر التاريخ في المحطات الهامة التي يرى  فيها الاتحاد أهمية الموقف السياسي وأثره في حاضر البلاد ومستقبلها ولكن من وجهة نظري إن إنجاح  الانتقال الديمقراطي كان يقتضي – ما زال -  " تفاهما ضروريا و صريحا " بين  الطرف الحكومي والمنظمة النقابية على توفير المناخ الملائم للعمل والإنتاج وإقرار حالة من الأمن الاجتماعي والسياسي تضمن إجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة في آجال معقولة ووفق معايير دولية يطمئن إليها الجميع .
وقد تابعتُ محطة "الحوار الوطني " التي دعا اليها الاتحاد العام التونسي للشغل وهي بادرة ايجابية ولكن ...أقول جيدا "ولكن " لم يقع الانفتاح المطلوب ليكون "الحوار وطنيا حقّا وذلك من خلال ثلاثة عناصر رئيسية وهي أوّلا إعداد مضمون الحوار من طرف واحد ...وقد قرأت بإمعان البنود الواردة  في برنامج الحوار الوطني الذي دعا إليه الإتحاد العام   وكان من المتأكّد أن تناقش من قبل هيئة إعداد تمثّل مختلف الفرقاء لضمان حد أدنى من الفهم المشترك للموضوعات المطروحة وذلك  قبل البدء في جلسات الحوار وثانيا التحكم في تحديد الاطراف المشاركة من خلال استبعاد الاحزاب اليمينية كجبهة الاصلاح وحزب التحرير حتّى من باب إقامة الحجة على من يرفض الحوار وكان الموقف يقتضي انفتاح "المنظمة النقابية " على الآخر مهما كان توجهه الايديولوجي  " رغم الاختلاف معه"      ما دامت المسألة تتعلق بـــ"حوار وطني " حيث بدا "الحوار الوطني " حصارا لجهات معينة تهدد المجتمع حسب بعض المقولات ....أمّا العنصر الثالث في إفشال مبادرة الحوار الوطني التي دعا إليها الاتحاد هو "إغفال مجلس وطني تأسيسي منتخب " تقتضي الحكمة التنسيق معه والخروج بتصوّر يدعم ثقة المجلس في جهد المنظمة النقابية ويقبل التعامل مع مبادرة الاتحاد دون أن تكون بديلا عنه ودون أن تمنعه من ان يقوم بدوره ...وفي النهاية لم تقبل "النهضة " والمؤتمر " المشاركة في مبادرة الاتحاد ، وإن أعلنا أن السبب يعود إلى مشاركة " نداء تونس " فإني كمتابع لا أعتقد أنه العامل الأساسي وراء امتناعها عن تلبة دعوة "الاإتحاد " لــ"الحوار الوطني "- حسب رأيي - إذ هما الآن معدخلا مع "نداء تونس " في حوار وطني بإشراف مؤسسة الرئاسة  ...وفي اعتقادي أن سبب مقاطعة النهضة والمؤتمر مرتبط لدعوة "الإتحاد "  لانهما سيجدان نفسيهما "أقلية " في أكثر من أربعين حزبا وجمعية  تحت "خيمة الحوار الوطني " التي تمت الدعوة إليها بصفة "انتقائية" في حين أنّ النهضة والمؤتمر هما كتلتان رئيسيتان في المجلس التّأسيسي . 
أمّا الأداء الحكومي فقد كان مرتبكا حقّّا ولم يحقق ما ينتظره منه النّاس وقد يعود ذلك إلى ما يطرأ داخل الائتلاف الحاكم رنفسه والى ما تشهده البلاد من اضرابات واعتصامات ..
 فقد عاش حزبان من الترويكا ( التكتل والمؤتمر ) حالة انقسام داخلي و تشظّي وتفتّت ، وأمّا حركة النهضة فقد تحملت جزءا من الحكم دون إن تكون قد أوردت في برنامجها الانتخابي ذي الـــ365 نقطة مسألة ملحة وهي " كيفية إدارة المرحلة الانتقالية سياسيا " وكان البرنامج يتحدث عن أهداف مجتمعية متوسطة وبعيدة المدى في شكل خطة خماسية أو عشرية 

المشهد العام بعد عامين من الثورة  

 لقد طغى الطابع الحزبي الفئوي على عمل الأحزاب السياسية التونسية وطغى أسلوب المناورة والمغامرة على التحركات النقابية من إضرابات واعتصامات والهدف هو هدف حزبي تحكمه رؤية عدائية – ايديولوجيا - للطرف المقابل وعبّر عن هذا الموقف أكثر من صوت من مختلف الفرقاء 

لقد استبدّ الحنق والتوتر بقادة الأحزاب والنقابات والمنظمات المهنية  وانعكس ذلك في المنابر الإعلامية ويمكن القول أن البيئة السياسية التونسية الحالية يمكن وصفها بأنّها بيئة غير سليمة لتنتج بالتالي  وضعا سياسيا واجتماعيا منقسما على نفسه أدّى إلى العنف المادي وتجسّد في الاغتيال السياسي لزعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين بما يحوّل الوضع من" تونسيين تفرّقهم الآراء " إلى " تونسيين يفرقهم الدّم " وهو مشهد مؤلم وله تداعياته المحلية والدولية  التي قد تعصف بالوطن - لا قدّر الله –    .
المجلس الوطني التّأسيسي والمهمة الثورية : إنشاء مؤسسات تمنع عودة الاستبداد 
يبقى المجلي الوطني التأسيسي المؤسسة المركزية التي انتخبها الشعب في انتخابات حرة ونزيهة وشفافة تتحمل مسؤولية تاريخية في تأسيس الجمهورية التونسية الثانية وهذه المهمة التاريخية  تتطلب أساسا ان يكون النواب فوق الأحزاب  وأن يجسّد كل فرد منهم قولا وفعلا  أنه يمثل الشعب التونسي كافة ...
إنّ المهمة الثورية للمجلس الوطني التّأسيسي – حسب رأيي – ليست كتابة دستور فحسب ، بل أن يكتب دستورا ينشئ به مؤسسات تمنع عودة الاستبداد والفساد منعا نهائيا لأن الدستور ليس حبرا على ورق بل قيم إنسانية خالدة يلمسها الناس في "نظام الحكم " وفي "أنموذج المجتمع" وفي "الحياة العامة".

المحكمة العليا حارسة الحريات الفردية والجماعية  

 إن نظرة شاملة وبعيدة المدى تقودنا إلى الاستفادة من الماضي القريب حيث كانت دائما السلطة محتكرة بيد شخص واحد أو عائلة واحدة أو حزب واحد  يرفض مبدأ أساسيا من مبادئ الديمقراطية وهو "التداول السلمي على السلطة " من خلال الانتخابات وكذلك الاعتبار من التجارب الإنسانية التي عاشتها شعوب أخرى كالثورة الفرنسية او كيفية ولادة نص "وثيقة استقلال أمريكا عن التاج البريطاني  " والمبادئ والقيم التي تضمنتها والاستلهام من القيم الإسلامية في التّآخي والتضامن والعدل واعتبارها جزءا رئيسيا في تربيتنا وثقافنا فتتعزّز الشخصية التونسية بقيم ثنائية المصدر إنسانية و إسلامية   .

  إن أي نظام سياسي  يجب أن يقوم على "مبدإ التفريق بين السلطات الثلاث " وأن يضمن التوازن بين جميع مكونات المجتمع السياسي والمدني بواسطة  " محكمة عليا "... وعلى المجلس الوطني التّأسيسي أن ينشئ  هذه المحكمة العليا قبل إعداد القوانين الانتخابية وقبل إجراء الانتخابات - حسب رأيي -  لأنّها اللبنة الأولى في بناء صرخ شامخ يقوم على العدل ثم العدل ثم العدل ...إن إنشاء المحكمة العليا هو "ضمانة مؤسّسية لعدم عودة الاستبداد سواء بحزب قديم عرفناه قبل الثورة  أو بحزب جديد ظهر بعد الثورة فالمحكمة العليا هي حارسة الحريات الفردية والجماعية .
وإني كمواطن عادي ليست لي أي أهداف تحرّكني الآن سوى أن أبدي رأيا أعتقد أنّه صواب  أن المجلس الوطني التّأسيسي تعامل مع "الهيئات الدستورية "بطريقة غير مفهومة ...إني أحتار لعدم إدراج مجلس أعلى للتربية والتعليم والبحث العلمي كهيئات دستورية لها استقلاليتها الكاملة عن السلطة التنفيذية لتقوم بدور رئيسي في بناء حضارة تونسية جديدة من حيث التخطيط الاستراتيجي للبرامج وعلاقتها بمنوال التنمية  ...أليس من المصلحة الوطنية العليا أن يكون التخطيط التربوي ووضع الخطوط العامة  لمبادئ النظام التربوي وكذلك كبرى المسائل من اختصاص هيئة "فوق الأحزاب " و"فوق النقابات "  غرضها خدمة الوطن ؟ و أحتار لعدم إدراج المجلس الإسلامي الأعلى...أليس من الحكمة أن تكون المسائل الفقهية والتعبدية والخطاب الديني والحياة المسجدية  من اختصاص مؤسسة مستقلة تعمل وفق إطار تونسي عام بعيدا عن أحزاب اليمين وبعيدا عن أحزاب اليسار .
إن المحكمة العليا في أمريكا يتم انتخاب أعضائها مدى الحياة وهي التي فصلت في الخلاف حول نتائج الانتخابات الرئاسية بين جورش بوش الابن وآل غور سنة  2001 عندما انتهت الانتخابات دون إعلان  حاسم عن فائز بالرئاسة إذ قررت محكمة فلوريدا  إعادة الفرز اليدوي لعدد من مراكز التصويت إثر طعن قدّمه الحزب الديمقراطي ...واستمرّ الجدل والانتظار  أيّاما إلا أن "المحكمة العليا " حسمت الموضوع وأعلنت إسم الفائز بدلا من الهيئة الانتخابية ...وهي المرة الأولى في التاريخ الأمريكي يتم فيها عدم إعلان فائز في انتخابات رئاسية من قبل هيئة الانتخابات وتم الالتجاء إلى الهيئة القضائية "المحكمة العليا " وهو حسم قبل به الجميع  ونحن نحتاج إلى هيئة ترتضي الأحزاب والشخصيات الاحتكام إليها والقبول بقرارتها .
لكي يتحقق انتقال ديمقراطي حقيقي يكون بمثابة "ثورة "في العقول وفي الممارسات إننا بحاجة أكيدة إلى أن تكون "تونس " فوق الأحزاب و فوق النقابات ...لبناء مؤسّسات تضمن التعايش والتآخي واحترام القانون .