همسة

بقلم
علي العوني
الكنز المنسيّ
 تناقلت وسائل الإعلام التّونسية مؤخّرا وكذا وسائط التّواصل الاجتماعي المكانة الايجابيّة للجالية التّونسيّة بالخارج، ودورها في رفد الاقتصاد التّونسي بالعملة الصّعبة، في وقت عزّت فيه هذه العملة  وتراجع فيه آداء كلّ القطاعات الاقتصاديّة. فحظيت هذه الجالية بإشادة كلّ المتتبّعين للأوضاع الاقتصاديّة بتونس.
أشير هنا على سبيل المثال لا الحصر الى مقال بالفرنسيّة بتوقيع «FK» والذي ثمّن عاليا دور «الاخوان عند الشّدّة» التي فرضتها جائحة كورونا. وعلى حدّ تعبير الكاتب، واصلت مساهمة المهاجرين في رفد الاقتصاد الوطني بالعملة الصّعبة، مرتفعة الى مستوى قياسي 5،2 مليار دينار خلال الأشهر 11 الأولى من سنة 2020، مقابل 4،7 مليار خلال نفس الفترة من السّنة السّابقة (2019).ووفقا لما قاله، تفوق تلك المساهمة بكثير حصيلة السّياحة من العملة الصّعبة، وهذا شيء متوقّع أمام فداحة الكارثة التي تعرّضت لها  كلّ القطاعات الاقتصاديّة .
إنّ ما أعجبني في هذا المقال هو الشّطر الثّاني من الجملة التّالية والدّاعية الى «الاستثمار ليس في السّياحة فحسب، وإنّما أيضا في القطاعات الاقتصاديّة الأخرى كالفلاحة والصّناعات التقليديّة... وأيضا في المنسيّين  بتونس والذين لا يُذكَرُون إلاّ كجالبي العملة الصّعبة».  وتلك حقيقة لا يختلف حولها إثنان. وقبل التّعمّق في النّبش عن هذا الكنز المدفون، تجدر الإشارة والتّنبيه الى نقطتين ذات أبعاد منهجيّة.
النقطة الأولى: أنّ بعض الكتّاب والمنظّرين في تونس يميلون، وخلافا لما هو متعارف عليه دوليّا، الى تسمية الأشياء بغير مسمّياتها،  وتلك سمة من العهد البائد في إخفاء الحقائق عن المواطنين، أو تضخيم بعضها إن كانت في صالحه . فتجد من يقول أنّ حصيلة السّياحة من العملة الصّعبة ارتفعت بكذا دينار بدلا من ذكر العملة الصّعبة، لأنّ في ذلك تضخيما لهذه الحصيلة، آخذين في عين الاعتبار، ميل الدّينار التّونسي الى الانخفاض منذ الثّمانينات.
كما تجد من بين هؤلاء المنظّرين من يخرج عن قصد عن المفاهيم المتّفق عليها عالميّا. ويحضرني في هذا المقام الدّفاع المستميت للسيد «توفيق بكار» عندما كان مسؤولا كبيرا بوكالة التّشغيل ثمّ بوزارة التّخطيط، عن التّعريف الإحصائي الضّيق لمفهوم البطالة، خلافا للمفهوم الموسّع الذي توصي به منظّمة العمل الدّوليّة، كلّ ذلك من أجل إبراز ظاهرة البطالة في أدنى مستوياتها.
أما النّقطة الثّانية فهي تتعلّق بالمقارنة غير العادلة بين تحويلات التّونسيين المقيمين بالخارج وبين عائدات السّياحة من العملة الصّعبة. فالأولى ربح صاف وزيادة في الثّروة الوطنيّة خلافا للعائدات من السّياحة التي تدفع تونس مقابلها شيئا من خيراتها ومن قوت الشّعب. فالسّائح لا يعطي العملة الصّعبة مجانا وإنّما يتقاضى مقابلها الأكل والشّرب والإقامة في الفنادق والتّرفيه.
ولذلك فإنّ دولارا يحوّله التّونسي المهاجر الى البلاد يُعدّ أفضل بكثير من دولارات السّياحة. ومن هذه النّاحية يُعدّ المهاجر عنصرا  اقتصاديّا (agent économique) مهمّا، اذ يساهم فضلا عن تحويلاته النّقدية في زيادة الثّروة الوطنيّة من خلال ما يجلبه من سلع ومعدّات ذات منفعة اقتصاديّة، تسدّ حاجة عائليّة أو مجتمعيّة...فهو كنز ثمين يساهم في تصحيح اختلالات ميزان المدفوعات والميزان التجاري.
وبالعودة الى مبالغ تحويلات المهاجرين بالخارج فهي لا تخلو من سوء تقدير، إذ لا تعبّر الاّ عن التحويلات التي تمّت عبر القنوات الرّسميّة من بنوك وغيرها. أمّا اذا أدخل المهاجرالعملة الصّعبة نقدا فهي بالرّغم من أهميتها، فإنّ معظمها لا تسجّل ضمن تلك العائدات. وهناك نوع آخر من التّحويلات غير المرئيّة من البلدان التي لا يسمح نظامها النّقدي بحريّة التّحويل مثل المغرب وموريتانيا، حيث تُوجد في كليهما جالية تونسيّة نشطة، تحوّل مبالغ كبيرة الى ذويها في شكل مقايضة أو مبادلة عملة بعملة، أي مبادلة الدينار التّونسيّ بإحـدى عملتـي البلديـن المشـار اليهما. فهو تحويل شرعي ولكـن لا طائـل من معرفـة حجمـه. وتشكـل مجمـوع هـذه التحويـلات إسهامـا كبيرا من المهاجريـن في انعاش الاقتصاد الوطني.
الاّ أنّه ومقابل هذا الدّعم –بدون مزيّة- الذي يقدّمه المواطن التّونسيّ المقيم بالخارج للوطن والمواطنين، ماذا  يمكن أن يقدم له هذا الوطن ...لحد علمي، لاشيء. وفوق ذلك فهو يتعرّض أكثر من غيره للعديد من أنواع الغشّ والتّحايل. فهو بالنّسبة لأصحاب النوايا السيّئة، مشروع جيّد للغش والتحايل عليه.
السّلطات العموميّة وخاصّة المحاكم لا تهتمّ بهذا الموضوع ولا تراعي ظروف المهاجر الخاصّة، وتتعامل معه كأنّه مقيم في تونس. فتضيف الى الغبن الذي يتعرّض إليه في بلده، ظلما أشدّ مرارة من ذاك الذي يتعرّض إليه في المهجر.
أمّا على المستوى المؤسّساتي، فقد استبشر المواطنون المقيمون بالخارج خيرا، لخبر استحداث مؤسّسة ترعى مصالحهم وتعزّز انتماءهم لهذا الوطن، إنّه «المجلس الوطني للتونسيين المقيمين بالخارج» والذي صادق مجلس نواب الشّعب التونسيّ على القانون 68 المتعلّق بإحداثه قبل 5 سنوات، وبالتحديد في 20/07/2016  وقّع عليه رئيس الجمهوريّة في 03/08/2016 . وباستثناء بعض الاجتماعات الشّكليّة للنّظر في نظمه الداخليّة، فإنّ هذا المجلس لم يباشر عمله بعد بشكل رسميّ ولم يستكمل تشكيل أعضائه باستثناء أعضاء مجلس النّواب، خلافا لنظيره المغربي«مجلس الجالية المغربيّة بالخارج» الذي باشر عمله مباشرة بعد استحداثه بموجب ظهير ملكيّ بتاريخ 21/01/2007. وهو ينشط حاليّا في كلّ أوجه الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، ينظّم المعارض والملتقيات الشّبابيّة والترفيهيّة والنّدوات الفكريّة وغيرها من الأنشطة التي تعود بالنّفع العميم على المهاجرين وبلدهم. وفي إطار جهود التّواصل بين المغاربة المقيمين بالخارج وبين الوطن، تبرع الأمين العام لمجلس الجالية المغربيّة المقيمة بالخارج براتبه في إطار الجهود الرامية لمكافحة جائحة كورونا، ودعا كلّ المواطنين المقيمين بالخارج للتّبرع درءا لهذا الخطر ودعما لوطنهم.
لم يقف اهتمام المملكة المغربيّة بجاليتها في المهجر عند هذا الحدّ، بل تجاوزته باستحداث «الوزارة المكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج وشؤون الهجرة» بتاريخ 10/10/2013 . فهي تُعدّ وتنفّذ السياسات الحكوميّة المتعلّقة بكلّ المغاربة المقيمين بالخارج. وتتولى مهمّة تقوية التّضامن والنّهوض بالعمل الاجتماعي لفائدة مغاربة العالم والحفاظ على الهويّة وتوطيدها...الاّ أنّه مع كلّ هذا الاهتمام الحكومي بالجالية المغربيّة بالخارج، فإنّ السّلطات الرّسميّة أهملت أو تجاهلت تمثيلهم في البرلمان المغربي، وفي ذلك انتقاص من حقوقهم ومخالفة صريحة لحقّ الترشّح والانتخاب الذي ضمنه لهم الدّستور المغربيّ.
وبمقارنة المكاسب التي حصلت عليها الجاليتان المغربيّة والتونسيّة ، فإنّ الأولى مادّية ، ترفع من معنويّات المهاجرين وتعزّز أواصر الانتماء بوطنهم، والثانية معنويّة، أخذت حقّها في التّمثيل في كلّ الأجهزة الدستوريّة ولكنّه لا يعود بالفائدة الاّ على ممثليّ الجالية في هذه الأجهزة والمجالس الدستوريّة. أمّا باقي مكوّنات الجالية، وبالرّغم من دورهم في إنعاش الاقتصاد الوطني «فلا يذكرون إلاّ كجالبي العملة الصّعبة»... إنّهم الطيّبون المنسيّون.