حديث في السياسة

بقلم
محمد أمين هبيري
الأحزاب السّياسيّة والدّيمقراطيّة أو التّحوّل الحرج من أعطاب الفوضى إلى قيم الشّورى
 دأب العمل السّياسي داخل المجتمع الإنساني على اعتبار الحزب السّياسي التّنظيم الوحيد القادر على الفعل السّياسي، خطابا وممارسة، وذلك منذ القرون الماضية. إذ أنّه يعتبر التّنظيم السّياسي الدّائم قائما على مبادئ وأفكار تمثّل سرديّات فكريّة كبرى، يهدف للوصول إلى السّلطة بهدف تنفيذ سياسات تتوافق مع الإيديولوجيّا الخاصّة به، وهو الذي يمارس عديد النّشاطات السّياسيّة وفقا لبرنامج عام محدّد، وذلك لتحقيق أهداف وبرامج تطبيقيّة على أرض الواقع. فالحزب السّياسي هو ذاك التّنظيم الذي يحوّل الأفكار النّظريّة إلى أهداف تطبيقيّة وفق برامج محدّدة، ولا يكون ذلك إلاّ من خلال انتخابه عبر انتخابات حرّة ونزيهة تضمن إرادة النّاخب وحرّيته في الاختيار.
لا تكون الانتخابات بتلك المواصفات إلاّ في إطار الدّيمقراطيّة. التي يمكن تعريفها لغة،  (بالإنجليزيّة: Democracy) كونها كلمة يونانيّة تتكوَّن من مقطعين؛ المقطع الأول (Demos) ويعني النّاس أو الشّعب، والمقطع الثّاني (kratein) ويعني الحُكم، وبذلك يشير مفهوم الدّيمقراطية لغةً إلى حُكم الشّعب أو حُكم الأغلبيّة(1) . وأمّا اصطلاحا، فهي نظام الحُكم، حيث تكون السّلطة العليا بيد الشّعب(2)،الذي يمارس سلطاته بشكلٍ مباشرٍ، أو عن طريق مجموعة من الأشخاص يتمّ انتخابها لتمثيل الشّعب عبر عمليةٍ انتخابيّةٍ حرّةٍ، حيث ترفض الدّيمقراطيّة جعل السّلطة كاملةً ومُركَّزة في شخصٍ واحد، أو في مجموعة من الأشخاص كالحكم الدّكتاتوري، أو الأوليغارشيّة (حكم الأقليّات)(3) .
تكمن أهمّية الموضوع في معرفة واقع الأحزاب السّياسيّة (خطابا وممارسة) في ظلّ انتقال ديمقراطي ناشئ، وذلك من خلال محاولة التّركيز على ما هو مأمول لنجاح تجربة ديمقراطيّة في وسط جيوسياسي يغلب عليه الطّابع الاستبدادي (الجزء الثّاني) دون السّهو عن النّظر فيما هو معمول لدرء عيوب قد تهلك ما تمّ بناؤه عقب الثّورة ولو كان نزرا يسيرا (الجزء الأول).
الجزء الأول: أعطاب الفوضى؛ المعمول من الأحزاب في سياق ديمقراطي
يعاني المشهد السّياسي عامّة والحزبي خاصّة أعطابا جوهريّة أثّرت على المردود السّياسي داخل أجهزة الدّولة، وأحدثت العديد من الانعكاسات السّلبيّة على المنظومة السّياسيّة بأكملها. وتنقسم إلى أعطاب الفوضى الجاهلة (العنصر الأول) وأعطاب الفوضى المرضيّة (العنصر الثّاني). 
العنصر الأول: أعطاب الفوضى الجاهلة
يمكن اجمالها في ثلاثة أعطاب كبرى وهي؛ 
العطب الأخلاقي: يعدّ من أخطر الأعطاب التي أحدثت شرخا بين النّخبة وعموم الشّعب تجسّد في انعدام الثّقة بين جميع الأطراف. يتمثّل العطب الأخلاقي في عديد المظاهر أهمّها التّفصّي من التّعاقدات الحزبيّة (في إطار نفس الحزب، أي بين القيادة وعموم المنخرطين والمتعاقدين) أو التعاقدات الوطنيّة (في إطار العلاقة مع مختلف الأحزاب، أي بين السّاسة ومختلف الناخبين)، فتكون الدّولة حينها ساحة للترضيات السّياسيّة عبر تقاسم المناصب الوزاريّة دون النّظر فيما هو خير للمصلحة العامّة للدّولة. تمثل الثّقة أهمّ عامل من العوامل المساعدة على استثمار جهود عامّة الشّعب، غير أنّ تآكل الثّقة لا تولد إلاّ الإعراض والنّفور من متابعة الشّأن العام طريقا لمراقبة ومحاسبة المسؤول السّياسي.
العطب الثقافي، يتمثل في غياب سردية كبرى وطنية تحفز النخبة على اتخاذ القرارات الموجعة لعملية الإصلاح وتحفز عموم المواطنين على التضحية بمالات القرارات المتخذة وذلك في سبيل إصلاح الدولة. وله انعكاسات سلبية أهمها قتل الطموح لدى الشباب وتشويه الخصوم ما يؤدي إلى سد التداول على السلطة. وأما العطب المضموني فيتمثل في غياب رؤية واضحة من خلال تخطيط استراتيجي يجمع بين الخيال الإبداعي والتصويب العقلاني. 
العنصر الثاني: أعطاب الفوضى المرضية
يمكن إجمالها في ثلاثة أعطاب كبرى هي؛
-1 العطب القيادي: الذي يعدّ من أهمّ الأعطاب التي تنخر المشهد الحزبي. فقد اتّضح من خلال العديد من القرارات والخيارات، أن القيادة في علاقتها بالمنخرطين لا تسعى لتحقيق مطالبهم في مسألة الدّيمقراطيّة الدّاخليّة عبر رفض إعادة هيكلة التّنظيم الحزبي على قاعدة الانتخابات. وهو ما يجعل المرء يتساءل حول كيفية تكريس الدّيمقراطية وطنيّا من خلال قيادة لا تؤمن حتّى بالدّيمقراطية الدّاخليّة الحزبيّة. ومن مظاهر العطب القيادي كذلك تدنّي الأخلاق الحركيّة من أفول لقيم الإخلاص والتّجرّد والتّطوّع مقابل تضخّم المصالح الشّخصيّة (على مستوى القيادة) على حساب المصالح العامّة (على المستوى الناخبين)، ممّا أدى إلى تفشّي ظاهرة الانتهازيّة والتّمعش من لوبيات الفساد.
-2 العطب التّواصلي: يمكن القول إنّ المنظومة الإعلاميّة لدى المشهد الحزبي التّونسي هي منظومة تقليديّة كلاسيكيّة، لا تستعمل مواقع التّواصل الاجتماعي إلاّ من خلال نشر البيانات في الأيام العاديّة والتّرويج لبرامج حالمة هائمة لا يمكن تطبيقها، ممّا يؤدي الي اتساع الهوّة بينها وبين عموم الشّعب. يمكن كذلك النّظر إلى العطب التّواصلي من خلال عدم إحداث تقنيّات تواصل عصريّة ودوريّة مع الشّباب، كما أنّ المنظومة الحزبيّة وخاصّة الإسلاميّة واليساريّة تنزل بثقلها في السّاحة الجامعيّة، من خلال انتخابات المجالس العلميّة، لتجديد الصّراع التّاريخي بينها وكأنها تريد أن يبقى الصراع قائما لا يزول، ممّا يؤدّي بالضّرورة إلى غرس قيم الكره والحقد في صفوف الشّباب. ويعدّ ذلك سببا رئيسيّا في الفشل السّياسي للتّجربة الدّيمقراطيّة.
-3 العطب العلائقي: ويشمل العلاقة مع الشّباب والعلاقة مع الأحزاب الأخرى. أمّا الأولى، فيعد الشّباب هو الوقود الأساسي للثّورة، إلاّ أنّ منسوب الحلم العالي عند الشّباب اصطدم بواقع حزبي ضحل ابتلي بسياسيّين لا يريدون إصلاح الوطن بقدر ما يريدون تقلّد المناصب، وهو ما خلق نوعا من الهوّة بين الشّباب والسّياسيّين، فتوجّهت الطّاقة الشّبابيّة إلى المجتمع المدني عبر الجمعيّات والمنظّمات، وهو ما خوّل لهم مساحة للنّشاط الإصلاحي. وأمّا الثّانية فتتّسم العلاقة بين جميع الأحزاب بانخفاض منسوب الثّقة، والعجز عن تجاوز مناخات الخوف الموروثة عن المعارك الإيديولوجيّة والصّدام السّياسي الذي حدث في القرن الماضي، فماذا يُنتظر من منظومة حزبيّة مازالت تعيش في الماضي؟
الجزء الثاني: قيم الشورى؛ المأمول من الأحزاب في سياق ديمقراطي
إنّ المتدبّر في سيكولوجيا الشّباب بعد الثّورة، وحماسته الشّديدة للإصلاح، يدرك أنّه كان ينتظر أن تتمتّع المنظومة الحزبيّة بقيم شورى تنظيميّة (العنصر الأول) وقيم شورى تسييريّة (العنصر الثّاني) سبيلا للرّشد والصّلاح البشري واستقرارا للمجتمع الإنساني.  
العنصر الأول: قيم الشّورى التّنظيميّة
يمكن إجمالها في ثلاث قيم كبرى هي؛
-1 قيمة الحرّية: التي تمثّل إحدى أهمّ القيم التي لا يحدث الإصلاح إلاّ من خلال ارتفاع منسوبها، سواء على المستوى السّياسي أو التّنظيمي، ولذلك فإنّ الحرّية شرط أساسي من شروط الإصلاح، وهي كذلك شرط أساسي لقيام منظومة حزبيّة متعدّدة، تجمع بين خبرة السّلف القيادي وطموح التّابع الشّبابي، وهو ما يحدث توليفة في البرامج الواقعيّة من جهة والبرامج العصريّة من جهة أخرى.
-2 قيمة الأمانة: التي تتجسّد عندما يكون القادة على مستوى من الأمانة والمسؤولية بحيث أنّهم يشخّصون المشاكل بأمانة ولا يكتفون بالحلول التّرقيعيّة ويحاولون أخذ قرارات تفرز حلولا جذريّة وذلك من خلال قيم العلم والمعرفة.
-3 قيم العلم والمعرفة وتبرز في اعتماد مبدأ الكفاءة في تقليد المناصب، إذ أنّه ليس من المعقول أن يتقلّد المنصب غير السّياسي الذي لا يحسن اتخاذ القرارات المصيريّة بناء على العلم والمعرفة.
العنصر الثاني: قيم الشورى التسييرية 
يمكن إجمالها في ثلاث قيم كبرى هي: قيم الاجتماع على بلوغ الغايات، ويكون ذلك من خلال لمّ الشّمل والاجتماع على ميثاق اقتصادي واجتماعي جديد يستجيب لمقتضيات العصر، ومشترك بين مختلف الفرقاء السّياسيّين، ولا يكون ذلك إلاّ من خلال قيم التّواصل الفعلي، عبر تغليب الحوار الوطني وتشريك جميع الفواعل الفكريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة للإجابة عن تحدّيات المرحلة؛ ولتحقيق الاجتماع على بلوغ الغايات الكبرى لابدّ من إعلاء منسوب الثّقة بين الأطراف وتناسي صراعات الماضي وتوثيق قيم الحب. ولا أقصد بالحبّ أن يكون الجو السّياسي رومنسي، بل قيم الحبّ تعني حبّ الوطن والتّضحيّة لإعلاء رايته، وهو ما يحقّق الاستقرار السّياسي والأمن الاقتصادي والسّلم الاجتماعي. والتّخفيض من منسوب حبّ المصالح الحزبيّة والتّنظيميّة، إذ أنّ الحزب يموت ويضمحل ويتفكّك، لكنّ الوطن باق لا يموت ولا يضمحل إلاّ إذا تخاذل شعبه عن حمايته.
الهوامش
(1)    Paula Becker, Jean Raveloson (9-2008), WHAT IS DEMOCRACY ?, Page 4. Edited.
(2) «What Is Democracy?», web-archive-2017.ait.org.tw, Retrieved 23-12-2019. Edited.
(3) Victor Kiprop (3-4-2018), «The Different Forms Of Government By Democratic Attributes»، www.worldatlas.com, Retrieved 23-12-2019. Edited. 
(4) «Defining democracy», www.moadoph.gov.au, Retrieved 23-12-2019. Edited.