في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
الإسلام بين أمّة الدّين وأمّة الكسب
 الأمّة في اللّغة إذا أطلقت على جماعة من النّاس فبالنظر إلى وجود ما يجمعهم، ويحقّق لهم وحدة الانتماء، وإذا أطلقت على عظيم من النّاس فباعتبار أنّه سبب للاجتماع، إذ صار أصلا يُنتمى إليه،  فالجامع في الحالتين كأنّه أمّ يُرجع إليها، أو إمام يُتّبع، وبذلك تتبيّن الوجهة ويتّحد القصد، وقد كانت العرب تقول: «لَا أُمَّةَ لِبَنِي فُلَانٍ، أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ وَجْهٌ يَقْصِدُونَ إِلَيْهِ، لَكِنَّهُمْ يَخْبِطُونَ خَبْطَ عَشْوَاءَ»(1) . 
ولأنّ الإنسان اجتماعيّ بطبعه، فإنّ سلوكه يكون محكوما بسُنّة أمّته، ولذلك قال النَّابِغَة الذّبياني:
«حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ***وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ»
وقد روي البيت على وجهين، برفع أول (أمة) وبكسره، «فَمَنْ رَفَعَهُ أَرَادَ سُنَّةَ مَلِكِهِ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَكْسُورًا جَعَلَهُ دِينًا مِنَ الِائْتِمَامِ، كَقَوْلِكَ: ائْتَمَّ بِفُلَانٍ إِمَّةً»(2) ، والفرق في النّهاية شكلي، لأنّ النّاس كانوا في الغالب ولا زالوا على دين ملوكهم.
وقال ابن فارس: «وَكُلُّ جِيلٍ مِنَ النَّاسِ أُمَّةٌ عَلَى حِدَةٍ»(3) ، والظّاهر أنّ المعتبر في هذا الإطلاق الأثر الزّمني الذي يخصّص مرحلة ما بأحوال وتحدّيات يمتاز بها جيل عن جيل، فيلتف حول مشروع قومي جديد يزاحم به في معترك المشاريع المتنافسة، ومن لا مشروع له يكون جزءا من مشروع غيره.
والملاحظ أنّ مفهوم الأمّة يتقاطع مع مفهوم الدّين، لأنّه لا قيام لأمّة دون دين يؤلّف بينها؛ الدّين بمعناه الواسع الذي يشمل كلّ نظام يرسم طريقة في الحياة ولو كان علمانيّا، وهذا الذي قصده فرعون حين قال: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى، وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ»(4) 
وتأمّل قول «جورج بوش الابن» عقب أحداث 11 سبتمبر  في خطابه إلى الشّعب الأمريكي: «اليوم هوجمت طريقتنا في الحياة وحرّيتنا بسلسلة من الأعمال الإرهابيّة ... قصد ترهيب أمّتنا، وجعلها في حالة من الفوضى والرّجعيّة»، «إنّ الحرّيّة تعرّضت للهجوم، وإنّ الولايات المتّحدة ستردّ بكلّ قوّة على مرتكبي هذه الهجمات».
فـ(دينكم) في قول فرعون هي نفسها (طريقتنا في الحياة) في قول بوش، وهي (السُّنة) و(السّيرة) في لسان العرب. 
وقد يجمُد الخلف على تلك الطّريقة، فتصير طريقة السّلف (أي الأمّة المؤسّسة) دينا للخلف (أي الأمّة الوارثة) على وجه يغيّبها عن حاضرها، ويعطّل فاعليتها التّاريخيّة.
وهذا الإشكال بالتّحديد هو الذي سنحاول أن نقف على ما يتعلّق به من إشارات قرآنيّة، نستضيء بها لفهم أزمتنا نحن المسلمين في العلاقة بالدّين.
أمة الإسلام في القرآن على وجهين
قال اللّه عزّ وجلّ: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»(5) على أساس وحدة الدّين هذه يعتبر كلّ الأنبياء هم ومن اتبعهم أمةً واحدة، يقول تعالى بعد أن ذكر عددا من الأنبياء: «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ»(6).
لكنّه في سياق قصّة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبني إسرائيل من سورة البقرة نجده تعالى يقول: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ، وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (7) 
فأطلق لفظ (الأمّة) في المحلّين باعتبارين إثنين: فباعتبار الدّين كلّ الأنبياء ومن آمن بهم أمّة واحدة، وباعتبار الكسب ليسوا أمّة واحدة.
والفرق بين الأمرين كالفرق الذي بين الإيمان والعمل، الإيمان عابر للزّمان والمكان، لا قيد فيه على حرّية الإنسان، لك أن تؤمن بما شئت، وأن تكفر بما شئت.
أمّا العمل فشأنه شأن آخر، إذ هو تبع للإمكان، مرهون بالاستطاعة، والإمكان يتّسع ويضيق، والاستطاعة تتفاوت وقد تنعدم، واختلاف الإمكان هو أثر لاختلاف العصور. والمقصود بالعصر مضمونه الثّقافي والحضاري لا المعنى الزّمني المجرّد. 
العمل مشروط إذن من النّاحية التّاريخيّة، ولهذا يستحيل استنساخ الكسب، وسيكون من التّحجير على النّاس إلزامهم بسُنّة عمليّة واحدة لا تحول ولا تزول، وأدلّة القرآن متواترة على أنّه ليس كلّ واجب ممكنا، وليس كلّ ممكن مقدورا عليه.
ومن لا ينتبه للفرق بين وحدة الدّين واختلاف الكسب سيفهم من قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» تزكية مطلقة لكل أجيال المسلمين إلى قيام الساعة، فيكون حينئذ مثل العُنصريين من أهل الكتاب الذين حكى الله عنهم فقال: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤهُ! قُلْ: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ»(8) 
الخيرية في الآية معلّلة بأمور كسبيّة: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»(9)، ومُكسِبات الخيريّة هذه قد تكون غالبة في جيل مغلوبة في جيل آخر بأضداد لها إلى درجة الانسحاق، فكيف يستوي الجيلان: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (10)
والرّسول ﷺ حين يُدعى للشّهادة على أمّته يوم القيامة، سيشهد على من عاصرهم واتصل بهم اتصالا تقوم به الحجّة: «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا» (11)، ولهذا قال عيسى عليه السّلام: «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (12)
فخير أمّة في آل عمران هي على التّعيين الجيل الذي قاده الرّسول، أمّا الأجيال اللاّحقة التي تدّعي النّسبة إليه فلن تستحقّ هذه الشّهادة، إلاّ إذا أدّت ما عليها من واجب الدّعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر.
وهذا يؤكّد أنّ الحيثيّة الزّمنيّة لها اعتبار عظيم في مفهوم أمّة الكسب، لذا كان من تمام العدالة الإلهيّة أن يُقسم النّاس يوم الحساب تبعا للشّرط التّاريخي: «وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (13) فهناك كتاب مرجعيّ للحساب هو كتاب الأمّة، إليه تحتكم الكتب الفرديّة التي تؤخذ باليمين أو بالشّمال، ولهذا سماه في سياق مماثل (الإمام) وذلك في قوله سبحانه: «يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا»(14)
حاصل هذا الجمع والطّرح أنّ أمّة الدّين ليست هي أمّة الكسب، فالدّين يقبل الشّراكة بين الأجيال على اختلاف الأعصر، أمّا الكسب فمعتبر بالإمكان الذي يختلف باختلاف الشّروط التّاريخيّة، وجعل كسب أمّة ما دينا مفروضا إلى قيام السّاعة هو شرع لما لم يأذن به اللّه، وتضييق لما وسعه، وعدوان على حقّ الأجيال في الانتماء إلى تاريخها الخاصّ.
الهوامش
(1) مقاييس اللغة: 1/ 28، أحمد بن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399هـ - 1979م.
(2)  نفسه
(3)  نفسه: 1/ 27
(4) سورة غافر - الآية 26  
(5) سورة الشورى - الآية 13  
(6) سورة الأنبياء - الآية 92  
(7) سورة البقرة - الآية 134 
(8) سورة المائدة - الآية 18
(9) سورة آل عمران - الآية 110
(10) سورة القلم - الآية 35-36
(11) سورة النساء - الآية 41
(12) سورة المائدة - الآية 117
(13) سورة الجاثية - الآية 28
(14) سورة الإسراء - الآية 71