أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
تفكيك لغز الأبعاد من الهندسة صحيحة البعد إلى الهندسة كسرية البعد(3/5)
 
 
 

    لمحة من التاريخ

الكل يعرف أن إقليدس هو مؤسس الهندسة التي سميت باسمه بعد ذلك "الهندسة الإقليدية"، من خلال كتاب العناصر لإقليدس والذي يحتوي علي المسلمات المعروفة أيضا باسمه الآن، مع أن الكل يعرف أن كثير من هذه المسلمات كانت معروفة قبله وكذلك كثير من نظريات الهندسة كان قد تم البرهنة عليها من قبله، لكن يرجع له الفضل في بلورة علم الهندسة في ذلك الكتاب ليتأسس عليه بناء متين شاهق بعد ذلك. كذلك شأن الهندسة الكسورية، يشار دائما إلي أن مؤسسها هو ماندلبروت (أنظر كامب في كتابه[1] ومع أعمال ماندلبروت العظيمة في الهندسة الكسورية بالإضافة إلي نشره لكتابه عن الهندسة الكسورية للطبيعة عام 1983 جعل مؤروخوا الرياضيات يرجعون إليه تأسيس ذلك العلم، وهذه النظرة ممتدة في كل فروع العلم، فإذا سأل سائل من مؤسس علم التفاضل والتكامل ستجد الإجابة سريعة جدا بأنه نيوتن و ليبنتز، إلا أن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير وتمتد جذور ذلك العلم ربما لأكثر من ألف سنة قبل نيوتن، غاية ما في الموضوع أن نيوتن أضاف عليه إضافات نوعية عظيمة جدا ثم هو الذي بلور أعمال وأفكار السابقين عليه بشكل أكثر سلاسة ويسر ليسهل بعد ذلك للبناء عليه وكذلك ليبنتز. كانت معظم أفكار الهندسة الكسورية موجودة قبل ماندلبروت بعشرات السنين، وبعض نظرياتها كانت قد أُثبتت فى عام1920 م .يؤكد كرانتز أن الكائنات الرياضية الكسورية اكتشفت ودُرست قبل زمن بعيد من إطلاق هذه التسمية عليها، فإشارة  ماندلبروت إلى فكرة التشابه الذاتي لأشكال الهندسة الكسورية ما هى إلا تطوير لما قام به الفيلسوف الرياضى "ليبنز" الذي تعمق في دراسة تفاصيل هذه الأغراض، بل فى عام 1883 م قدم جورج كانتور أمثلة لمجموعات جزئية من خط الأعداد الحقيقية تتصف بصفات غير طبيعية, حيث تبدأ بقطعة مستقيمة طولها معلوم وتكاد تتلاشى مع العديد من تكرارات حذف الثلث الأوسط، والتي أطلق عليها مجموعة كانتور الثلثية، كذلك طبق كانتور  فكرته على سطح مربع مساحته معلومة فى البداية كادت هى الأخرى أن تتلاشى فى النهاية مع العديد من التكرارات وأطلق عليها غبار  كانتور، والتي استخدمه ماندلبروت في تفسير ظاهرة التشويش على عمليات الاتصال اللاسلكية. وفي عام 1904م قدم فان كوخ أربعة أشكال كسورية نتجت كلها من فكرة واحدة، وفى عام  1916م قدم عالم الرياضيات سيربنسكي شكلاً لا يمر بأى منطقة فى داخلية المربع سمي بسجادة سيربنسكي ثم تابع تطبيق نفس الفكرة على مثلث متساوى الأضلاع, وعلى هرم. وفى عام 1920م استخدم مونجيه نفس فكرة سيربنسكي وطبقها علي مكعب وتوصل إلي ما يسمي بإسفنجة مونجيه.

منحني يملأ كامل المستوي

 استطاع الرياضي الفرنسى بيانو عام  1932م من التوصل الى المنحنى الذى يملأ سطح المستوى وعرف لاحقا بمنحني بيانو، وهذا الشكل الكسوري يعد على النقيض فى خواصه من كسوريات سيربنسكي وكانتور حيث أنه بعد العديد من التكرارات يملأ سطح مربع. مع العلم بأنه نشأ من قطعة مستقيمة ليس لها مساحة. إلا أنه فى النهاية يعطى شكلاً كسوريا ذا مساحة تساوى مساحة سطح المربع الذى يملأ داخليته. وبلغة أكثر دقة فإننا وباستخدام كائن من   حصلنا علي كائن من  

الهندسة الكسورية

تهتم الهندسة الكسورية بدراسة تراكيب المجموعات غير المنتظمة وقياساتها في الفضاء المتري، والتمييز بين المجموعات المنتظمة وغير المنتظمة ليس دقيقا ولكن بشكل غير رسمي فإن المجموعات المنتظمة تشكل متعدد طيات جزئي أملس من  أو اتحاد معدود من هذه الكائنات الرياضية. والمجموعات غير المنتظمة غير ذلك، مثل التي طرحت في المقال السابق (مجموعة كانتور - منحني فان كوخ - مثلث سيربنسكي ). تبدوا النظم الفوضويه للناظر لأول وهلة أنها تخلوا من النظام والترتيب لكنها في الحقيقة نظم تحتوي علي درجه عاليه جدا من التعقيد complexity ولإدراك ذلك لا تكفي مطالعة الصور بل لا بد من الذهاب إلي مشاهدة الفيديوهات المعبرة عن ذلك [2] والتعقيد هنا يعني أنه في كثير من الحالات لا يمكن التنبؤ بالنتائج بدقه وذلك بسبب كثره العوامل المؤثره في النظام وحساسية هذه النظم لهذه العوامل. وكثير من الأشكال التي تظهر أمامنا في الطبيعة على انها تبدو عشوائية أو فوضوية تنتج من معادلات رياضيه منضبطة جدا تستخدم في دراستها نوع مختلف من الرياضيات يسمى برياضيات الكسوريات وفي كثير من الحالات هي معادلات شديدة البساطة. والتعقيد يتمثل في أنه مهما تم تكبير هذه المجموعات تجد أنها تحتوي علي تفاصيل أخري وهذه التفاصيل تشبه الي حد بعيد شكل المجموعة  الأصلية والمدهش أنه لا يوجد حد لهذا التكبير ولا يوجد الحد الذي عنده تتوقف هذه التفاصيل عن الظهور أي أن الخاصية لانهائية.

 التشابه الذاتى: وفيك انطوي العالم الأكبر

وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوي العالم الأكبر. لا أدري كيف نبتت جذور هذا التعبير الرائع داخل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حتي نما بهذه السلاسة والعذوبة فأبدعه، وليسبق بألف عام وأكثر العلماء الذين أدركوا فكرة التشابه الذاتي. والتي تعني أن بعض الأشكال فى الطبيعة تتكون من أشكال أصغر فأصغر منها بمقاييس مختلفة، فهى أشكال لها نفس المظهر لأى تكبير أو تصغير مثل فرع شجرة وتفريعاته. أو نهر بروافده. أو شريان وشعيراته. هذا التفرع يستمر إلي ما لا نهاية لكن له خواص غريبة جدا ولا أغرب من تعبير أعطاه كارل فايرشتراس فى عام1872 م عن مثال لدالة ذات خاصية غريبة، ذلك أنها تستمر في كل مكان ولا يمكن تمييزها في أي مكان، مخطط هذه الدالة نموذج مجسد للهندسة الكسورية. وإذا رجعنا لقول علي بن أبي طالب، وقد شرحه أحد المتصوفة بقوله إن الإنسان مثال مصغر للكون والكون بكاملة صورة مكبرة من الإنسان، فالعظام تشبه الجبال التي تثبت الأرض والشعر يشبه الغابات، والشرايين والأوردة والشعيرات الدموية والدماء تشبه البحار والمحيطات والأنهار  بمياهها، والعيون تشبه النجوم ... إلي آخره . تتجلي ظاهرة التشابه الذاتي من حولنا في كل شئ بدءا من الحامض النووي DNA  بداخل الخريطة الوراثية للكائنات الحية مرورا بأشكال السحب والتكوينات الجيولوجية وحتي توزيع المادة بين النجمية  والتراكيب العنقودية للمجرات.

جوليا يقفز من الحقيقة إلي الخيال

نعلم أن دوال الأعداد الحقيقية تنقل كائنات من فضاء الأعداد الحقيقية التي من الممكن أن نراها بأعيننا ونكاد أن نلمسها بأيدينا، إلي نفس الفضاء، فدالة الجيب مثلا وجيب التمام تنقل فضاء الأعداد الحقيقية من علي خط الأعداد لتعيد ترتيبها إلي شكل الموجة المألوف، إلا أن اللعب بالأعداد المركبة شئ آخر، إنها كائنات تعيش في خيالاتنا فقط، لكنها تحل كثيرا من مشكلاتنا المعقدة، أشبه شئ بالإيمان بالغيب الذي لانراه ومع ذلك يثبتنا أمام أعقد مشكلاتنا. فى عام 1918 م لعب جوليا بالأعداد المركبة ليتوصل بعد ذلك الى مجموعته الشهيرة التى أطلق عليها فيما بعد مجموعة كسوريات جوليا. لنفرض أن  نقطة في الفضاء المركب، عددا مكون من جزأين أحدهما يعيش معنا وهو  فهو عدد حقيقي، أما الآخر يسكن معنا لكننا لا نراه، نستطيع فقط أن نري ظلاله عن طريق اللف والدوران حقيقة لا مجازا وهو  حيث  عدد حقيقي  هو الآخر لكنه ملتصق بالوحدة التخيلية  التي تجعله كالجان يرانا ولا نراه، كان جوليا مهتم كيف تنقل هذه النقطة المركبة تحث تأثير الدالة المركبة أيضا  حيث بارمتر وهو عدد مركب أيضا، ثم يؤخذ الناتج وندخل به مرة أخري في نفس الدالة وهكذا دواليك إلي مالا نهاية، أي من الممكن كتابة الدالة السابقة علي شكل الصيغة التكرارية التالية . وكل ما نحتاج إليه هو  و . وعند  فإن مجموعة جوليا تكون دائرة. ولكن جوليا ثبت قيمة الباراميتر  بحيث أنها لا تساوي الصفر أي أن  ثم دخل تكراريا في المعادلة السابقة فحصل علي القيم   أي أنه ثبت الباراميتر   وأجري التكرار علي . ومن ثم فإن مجموعة جوليا تبدأ فى الظهور حين تكون المتسلسلة تقاربية، ومن ثم تأخذ أشكالاً بديعة، أنظر الشكل 1.

مجموعة ماندلبروت

كان جوليا في بداية القرن العشرين يحاول التأمل في الحلول التكرارية للمعادلة  ومع صعوبة الحسابات كان جوليا لا يستطيع الاستمرار طويلا في إجراء العمليات التكرارية، لكن مع ابتكار الكمبيوتر بإمكانياته المذهلة في الحساب أراد ماندلبروت إعادة التأمل لكن بشكل مختلف ومستعينا بالقدرة المذهلة للكمبيوتر  من خلال عمله في شركة  IBMفي إجراء

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/b/bd/Julia_set_%28indigo%29.png/220px-Julia_set_%28indigo%29.pngmandelbrot

شكل 1: علي اليمين مجموعة جوليا وعلي اليسار مجموعة ماندلبروت

العمليات التكرارية. وتختلف مجموعة ماندلبروت عن مجموعة جوليا في كون المجموعة الأولي يتم إجراء العمليات التكرارية للمعادلة فيها قيمة إبتدائية  من المستوي المركب، بينما يتم التكرار علي    أي أننا سنحصل علي المتسلسلة  ومن ثم أيضا سنحصل علي نمط عجيب جدا يسمي مجموعة ماندلبروت عندما تكون أيضا المتسلسلة السابقة تقاربية أيضا، والتي تتميز بالتشابه الذاتي المستمر. وقريب الشبه منها المعادلة اللوجيستية  والتي تعطي نمطا مشابها للكسوريات في الأنظمة الديناميكية. تتميز مجموعة ماندلبروت بأن أي نقطة بعيدة عنها تتحرك سريعا نحو اللانهاية. بينما النقاط