تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صرخة في صخب صامت (5)
 استعدّت الأخصائيّة لهذه الحالة الخاصّة، وأعدّت لها نفسها رغم ما حفظته من كلام يناسب كلّ المواقف. ولكنّ هذه المسألة معقّدة حقّا لأنّها لم تعترضها من قبل أبدا، ودفعت إليها مكرهة لغياب زميلتها الأكثر منها تجربة في الميدان. ولكن إن وصلنا إلى المرمى لم يبق إلاّ أن نسدّد الكرة ونجعلها في الشّبكة. وسدّدت المرأة كلامها، فاندفع منسابا دون جهد منها، وكان غير الذي أعدّته حيث بلغ الهدف بسهولة باغتتها. تكّلمت المرأة بجوارحها واثقة من نفسها  فقالت:
- اسمعيني جيدا يا سيدة بسمة. 
كلّ المقاييس والموازين تتبنّى نقطة اعتدال تفصل بين حالتين متضادّتين (إيجابي وسلبي). وفي هذه الصّورة إذا ما اعتبرنا الذّكورة والأنوثة حالتين متضادّتين فلا بدّ أن توجد أوضاع ومراتب وسيطة وبنسب مختلفة من الذّكروة والأنوثة. ولا نستبعد وجود الحالة النّادرة «نسبة ذاك تعادل تلك». ولا نفهم لماذا ينبذ الجميع هؤلاء في ثقافتنا، ويستهجنون سلوكهم، فيجعلونهم ممزّقين بين الشّيء ونقيضه ومضطربي الشّخصيّة.
هل ارتبطت الرّجولة بنسبة الذّكورة لدى الشّخص؟ كلاّ لأنّ في كلّ المعاجم، الرّجولة هي مجموعة من الخصال يمكن أن تتوفّر عند الرّجل وعند المرأة سواء.
الرّجل الرّجولي هو الرّجل الإنسان، وهو الذّكر الذي في كيانه جزء من الأنوثة. والعكس بالعكس. وهذه النّسب الضّعيفة من الجنس الآخر تعدّل وتلطف المزاج، وتجعل الشّخص طيّب المعاشرة.
كان الزّوج معهما جسدا بلا روح، تباعدا في المكان والزّمان، فكان يتابع الحديث وقد انشغل في تفكير عميق لم يفق منه إلاّ لمّا جذبته الخبيرة بالسّؤال فقط، لإرجاعه إليهما والاستعانة بالرّصانة التي توسّم بها، لعلّه يساعد بسمة على استيعاب ما قالته لها الخبيرة النّفسانيّة بعد الذّهول الذي أصابها. وفعلا، لم يكن الرّجل معهما تماما لأنّه لم يسمع السّؤال. ولكنّه استجاب للانضمام إليهما وبادر بسمة ببسمة، واللّه أعلم بما يخفي ستار الشّفتين. ماذا يفعل بهلوان بارع فوق الرّكح لا يلهيه شيء، وكلّ يهون لتهريج الأطفال وإسعادهم. 
- حمدا للّه على سلامتك وسلامة ابنتنا. لا تشغلي بالك، هي بخير وستكون على أحسن حال.
استحسنت بسمة رقّة زوجها ورضاه بما رزقه اللّه. وجاءت كلمة «ابنتنا» أخيرا لتجيب عن سؤالها الذي أصبح له جواب. كلام زوجها بحضرة المرأة بلسم أزال عن بسمة بعض الحيرة والكثير من الأوجاع، وأضفى على وجهها المتعب مسحة أخرى توحي بالرّاحة والاطمئنان. هل كان ذلك إشارة منها لزوجها لتطمئنه هو أيضا، وهي أدرى من سواها بما قد يحمله من أسى وحيرة؟ أو إشارة منها ليتركها وحدها مع الخبيرة النّفسانيّـة؟ لعلّه هذا ما توصّل إليه وفهمه من غياب بريق عينيها الذي تعود من خلاله قراءة رسائلهـا إليـه خاصّـة. فانسحـب وانسحبت تعابير وجهه مباشرة لتترك مكانهـا للحيرة والانشغال.
وما إن انفردت بسمة بالخبيرة النّفسانيّة، حتّى انبعثت فيها روح جديدة، فعدّلت من وضعها لتدلي رجليها من السّرير، وتجعل نفسها وجها لوجه مع المرأة التي أمامها.
قد لا تكون بسمة في حاجة الى طبيب ولا طبيبة او أخصائيّة نفسانيّة بقدر حاجتها الى امرأة مثلها أنثى تفهم معنى الوضع وما تنتظره بعد أوجاع الولادة. لسانها يعجز عن الكلام كلّما انشغل بالها وتشتّت فكرها. وتغيرت لغة الكلام بتواصل فطري لا يتطلّب عناء كبيرا لتفكيك شفرته. أمسكت بسمة بكلّ رقة بيد المرأة ووضعتها بين يديها وجعلتها في حجرها، ونظرت في وجهها مباشرة بوجه مكسور الخاطر يستجدي الرّأفة. 
وبكلّ الحنان الذي في وجدانها سألتها: 
- «أخيّتي، أين ابنتي؟ لماذا لم أرها الى الآن ؟ لماذا يخفونها عني ؟ هل هي بنت ؟ لماذا كلّ هذا التّستر ؟ أنا أفرح بها بنتا كانت أو ولدا».
أجابتها الخبيرة النّفسانيّة وقد نسيت وظيفتها التي جاءت من أجلها، وبنفس الرّقة والتّعاطف والإحساس النّابع من أنثى مثلها، قالت لها: 
- «فعلا، المسألة معقدة»
أحسّت المرأة بضغط على يدها. فتوقّفت تزن بشدّة الضّغط شدّة التّعقيد. ولما انتبهت بسمة المأخوذة بكلّ ما سيصدر عن جليستها إلى توقفها عن الكلام وإلى شدّة ضغطها على اليد المشدودة إليها، لم تسرحها طالما لم تنبس بالحقيقة الموجعة، بل أرخت عضلاتها وربّتت عليها، لتطمئنها حتّى تكمّل ما يشفي غليلها. فواصلت المرأة قائلة:
- «فعلا المسألة معقّدة، مولودك يحمل عضوين ظاهريّا متكاملين ممّا يجعل جنسه مزدوجا. يجري الطّاقم الطّبّي عديد الفحوصات حتّى يتيقّن قطعا من جنس الوليد». 
وتوقّفت تستشعر ردّة فعل بسمة من أثر الصّدمة. وجاءها الجواب عبر فتور اليدين المحتضنتين ليدها التي لم تأب سحبها قبل أن تعتلي هذه اليد لتمسك هي الأخرى بإحدى يدي بسمة، لتزيدها بملامستها مواساة أو تشجيعا. 
واصلت الأخصائية النفسانية كلامها:
- «في النّهاية، ابنتك بنت باعتبارها لا تتبول واقفة. وفي حاجة الى رعاية خاصّة ومرافقة نفسيّة حتّى تتأقلم مع مجتمعها.
أنا من ناحيتي مرتاحة البال، واعتبر أنّ البنت محظوظة أن تكون أمّها امرأة مثلك. أعلم عنك الكثير لأطمئن عليها وعليك. امرأة مثقّفة وناشطة اجتماعيّا، ومدافعة شرسة على حقوق المرأة. ألا يكفي لتفتخر البنت بكلّ هذا؟»
فهمت بسمة كيف ولماذا لم يختلف أطباؤها في عجزهم في معرفة جنس جنينها في بطنها. وشردت بذهنها بعيدا تستقصي مصير ابنتها. هل سيأتي أحد في يوم ما لخطبتها؟
أرجعتها الأخصائيّة النّفسانيّة التي استرجعت وظيفتها التي جاءت من أجلها منذ أن تخلّصت يدها من يدي بسمة التي قطعت حبل التّواصل معها، بعد أن وضعت الحقيقة عارية بين يديها. ولكنّ بسمة وضعتها فعلا بنتا عارية. أين هي لتحتضنها بنتا كانت أو ولدا أو بين البينين. إنّها قطعة منها. وشعرت بلهفة شديدة لترضعها ومن صدرها. هي بنت طالما تتبوّل مثلي القرفصاء. 
اقتنصت الاخصائيّة النّفسية الفرصة، وأعادت عليها ما سبق أن قالته بسمة للممرّضة قبل الولادة: 
- «ستكون ابنتك رجولة».
فهمت بسمة أنّ الممرضة أبلغتها ما دار بينهما. وكأنّها كانت خلف الباب تنتظر الإذن بالدّخول، جاءت الممرضة منشرحة الوجه تحتضن المولودة وتكاد تطير بها، وبلطف تنحني على بسمة وتضع البنت بين يديها قائلة:
- «إنها جميلة جدّا وفي صحّة جيّدة وهي محظوظة فعلا».
تفحصت وجه البنت بلهفة، فلم تر أجمل ممّا رأت، أو هكذا كتب في جينات الفطرة أن لا ترى أجمل ممّا ترى في ذلك الوضع بالذّات. قربت بسمة ابنتها الى صدرها واحتضنتها طويلا. ثمّ تسرّبت يدها اليمني الى فتحة قميصها، وأخرجت بلطف ثديها الأيسر الممتلئ الى الوجع المنسي، وكانت البنت تنتظر بشغف دنو حلمة ذلك الثّدي لتمتصّ أولى حلاوة الحياة، حليب الأم. 
للحالات الاستثنائيّة مشاعر استثنائيّة. وبحنان مفرط من ممرّضة تعوّدت وضع المواليد بين يدي النّافسات، قالت لبسمة: 
- «أي اسم اخترت لهذه الجميلة حتّى نسجله بدفترها؟»
- سأسميها «رجولة»
- «هذا فيما بينكما». قالت الأخصائيّة المنشرحة أخيرا بعد نجاح مهمتها الصّعبة والنّادرة التي ستدونها وتؤثّث بها سيرتها الذّاتية. ثمّ أردفت:
- «يجب أن تختاري لها اسما لطيفا يناسب جمالها».
- «نوفل! سيكون اسمها نوفل وكفى».
- «كما تشائين فهو اسم جميل ولطيف ومستحبّ لدى الشّباب».