حوارات

بقلم
التحرير الإصلاح
مع الدكتور عزالدين عناية
 (1)
 * بادئ ذي بدء، هل تعرّفنا في نبذة يسيرة عن مسيرتكم البحثيّة والمعرفيّة إلى حد الآن؟
أشتغل منذ ما يربو على ثلاثة عقود في حقل الدّيانات، أي منذ التحاقي للتّحصيل العلمي بالجامعة الزّيتونيّة بتونس سنة 1986، وقد كان التّركيز على تراث الدّيانات الثّلاث بشكل خاصّ (اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام). فقد أدركت مبكّرا تردّي الكتابة العلميّة في هذا المجال في الثّقافة العربيّة الحديثة، الأمر الذي جعلني أنحو للإلحاح على المنهج العلمي في أعمالي لتمييز المعرفي عن الإيديولوجي، أو بشكل أدقّ لتمييز الدّراسة الدّاخليّة عن الدّراسة الخارجيّة للدّين. 
فقد كانت دراستي اللاّهوتيّة الثّانية في الجامعة البابويّة الغريغوريّة وجامعة القدّيس توما الأكويني بروما، حافزا لي للسّعي للفت انتباه أبناء حضارتـي العربيّـة الإسلاميّـة، رغم أنّـي إيطالي الجنسيّـة، إلى التّطوّرات العلميّة والبحثيّة في هذا الحقل لدى أهالي الغـرب، الذيـن أعيـش بين ظهرانيهـم. فليس من اللاّئق أن نزعم أنّنا حملة حضارة منفتحة، ونبقى على تدنٍّ معرفي بالآخر.
(2)
* ما جدارة التّخصّص الذي ركّزتم عليه (البحوث اليهوديّـة)، وهل يمكن تصنيف الباحثين العـرب في هذا المجال: حسن ظاظا، عبد الوهاب المسيري، وغيرهم...؟
كان التّنبّه العربي لليهوديّة في الفترة الحديثة بفعل عامل سياسي، تمثّل في اغتصاب فلسطين، ونظرا لمنشأ المقاربة الحديثة في حضن هذه المثيرات والدّوافع، نشأ الخطاب غاضبا ومتوتّرا. فقد خاض العرب مع إسرائيل صراعا مريرا، ولكن للأسف لم يولّوا في ذلك اهتماما للأرضيّة التّراثيّة الدّينيّة التي تستند إليها، فقد كان التّعامل مع إسرائيل كحدث سياسي لا غير.
أمّا عن الخطّ البحثي الذي سار فيه حسن ظاظا وعبد الوهاب المسيري فهو خطّ توظيفي للمعرفة، أعني أنّ المعرفة باليهوديّة لديهما جزء من أدوات الصّراع مع إسرائيل، وغفلا عن أنّ اليهوديّة هي جزء من تراث المنطقة وأعمق وأعرق من إسرائيل. ولذلك ما أراه أنّ الخطّ العلمـي في تنـاول التّراث العبري هو في طور الظّهور والنّشأة، فقد عبّر المذكوران عن أعلى مراحل المنافحة والرّد، بمدلولهما الكلاسيكي. وما يحتاجه العرب اليوم هو خطاب موضوعي يصغي له العالمون لا خطاب للاستهلاك المحلّي.
(3)
* هل قرأتم كتاب د. سعد البازعي: «المكون اليهودي في الحضارة الغربية»، وما رأيكم فيه؟
اطلعت عليه، وهو كتاب مهمّ في المجال الذي يتطرّق إليه، وأقدّر أنّه يلقي ضوءا كاشفا على مسألة مهمّة، وإن كانت لا تندرج ضمن انشغالات علم الأديان.
(4)
* هـل يمكـن للدّراسات التي تهتم باليهوديّة أن تكون علميّة خالصة في منهجها وفي أهدافها؟، وكيف ذلك؟ وهل توجد أمثلة على ما تقول؟
ينبغي للعقل الإسلامي أن يتجاوز إسرائيل، أو بالأحرى أن يضعها بين قوسين، حتّى يعيد وعيه بالذين هادوا. فالمنهج العلمي لا يبنى بين عشيّة وضحاها، بل يتبلور ضمن مسيرة تحليل ونقد تفضي إلى تراكم معرفي، والحديث لدينا في اليهوديّة لا زال يدور حول «بروتوكولات حكماء صهيون» ولم يرتق بعد إلى حديث أكاديمي، باستثنـاء بعض الأعمـال الشّريـدة، مثل أعمال الأستاذ كمال سليمان صليبـي وعبد الرزّاق أحمد قنديل ومحمّد خليفة حسن أحمد، ولم تشكّل بعد خطّا متكاملا.
(5)
* الاستشراق والاستغراب والاستعراب والاستفراق والاستهواد... أليست هذه الضروب من التّخصّصات الحضاريّة مجرّد تقليعات عرضيّة؟
هذه علـوم وليست تقليعات عرضيّـة، والمشكلـة أنّ هذه العلـوم لم يتبلـور وعي كاف بهـا لـدى العربـي، لأنّه يعيش على محاكاتهـا لا المشاركة في إنتاجهـا، ولذلك يخيّل أحيانا أنّها كلمـات جوفـاء. فلو أخذنا علم اليهوديّات، الذي حاولت نعته باصطلاح «الاستهواد» في الرّسالة التي أعددتها في الجامعة الزّيتونيّة بعنوان «المقاربة الدّينيّة لليهوديّة في الفكر العربي خلال النّصف الثاني من القرن العشرين»، ماذا أولاه عرب الرّاهن من اهتمام؟، فهم يتحدّثون صباح مساء عن إسرائيل واليهود، ولكن كم منهم اطّلع ودرس وحلّل التّلمود، ولا أقول الكتب التي تحدّثت عن التّلمود؟ وكم منهم تابع التّحوّلات الفكريّة التـي عرفهـا اليهـود قبيـل الانقضـاض على فلسطين؟ وكم منهم انشغل بسوسيولوجيـا الأقليّـات اليهوديّـة وتواريخهـا في البلدان العربيّـة أو خارجها، أو تناول الأثر الفاعل للطّبقة الثقافيّة أو السّلطة الإعلاميّة النّافذة ليهود الغرب في الرّاهن؟
ففي الجامعات الغربيّة نجد أغلب أساتذة الإسلاميّات ودراسات الشّرق الأوسط لهم أصـول يهوديّـة أو ممّن يدورون في فلك الكنيسة. فهل العرب لهم تلك المقدرة معكوسة في الإلمام باليهوديّات والمسيحيّات؟ 
(6)
* كيف ترى النّقد الثّقافي؟، وكيف يمكن نقده من منطلق معرفي يخلو من الإسقاط المنهجي؟
العرب اليوم لا يقدرون على النّقد الثّقافي الموضوعي للآخر إلاّ ما ندر. فلا تتوفّر لعرب الدّاخل الأدوات الموضوعيّة لذلك، فلو أخذنا الحقل المتعلّق بالمسيحيّة الغربيّة، ماذا يقدر العربي أن يقول فيه. فليس هناك حركة ترجمة عربيّة تنقل المقول الغربي في هذا المجال، كما ليست هناك دراسات وأبحاث سوسيولوجيّة أو إناسيّة قام بها عرب أقاموا أو استوطنوا في الغرب تناولت ذاكرته ومؤسّساته الدّينيّة. فلا زال السّوسيولوجي العربي يدرس علم الاجتماع الدّيني أو الواقع الدّيني في الغرب عن بعد، بأدوات «ماكس فيبر» و«دوركهايم»، والحال أنّ هذه الأدوات صارت من الآليّات الكلاسيكيّة المتحفية، أمام مدارس ومناهج وتوجّهات حديثة. أذكر على سبيل الذّكر تحليلات ما صار يعرف بـ «السّوق الدّينيّة» السّائدة في أمريكا، في تناول المسيحيّة وغيرها من الدّيانات.
(7)
*هل ما زال المثقّف العربي يراوح في أزمتـه، وكيف ترى تجليّاتهـا؟ وهل تـرى في الأفـق بصيصـا من الأمل؟
تشكّلت بطرياركيّة ثقافيّة عربيّة صارت بمثابة الأوثان، في الأدب والسّياسـة والدّيـن والاجتمـاع، وقد ساهم في تقوية نفوذ هذه الشّلّة، عدم التّحرير الكافي لمجالات النّشر والإعلام في البلدان العربيّة. وقد روّجت لتلك الشّلّة «مافيا ثقافيّة»، تريد ترسيخ واحديّة الفهم في شتّى المجالات، دون مراعاة التّنوع والتّضادّ والتّغاير والاختلاف.
(8)
* ما جديدك وما مساهماتك القادمة، وهل من محاورات جدليّة فكريّة وخصومات معرفيّة نشأت بينك وبين بعض الباحثين من جيلك و/أو من أجيال السّابقين؟
أحاول أن أترجم إلى الّلسان العربي الدّراسات والأعمال التي أرى فيها نفعا في مجال الدّراسة العلميّة للأديان، كما أحاول نقل رؤية موضوعيّة للدّين في الغرب، فللأسف ثمّة إهمال للجانب الدّيني وكلّ ما يتعلّق بالمناهج العلميّة في هذا الحقل. فمثلا، يتواجد تقريبا في كلّ الحضارات متخصّصون في الشّأن الفاتيكاني، أي ما يعرف بـ «Vaticanista»، إلاّ العرب يفتقدون لذلك، رغم الدّور الاستراتيجي الفاعل للفاتيكان الذي يرعى ما يناهز المليار ومئة مليون كاثوليكي، ويؤثّر في سياسات عدّة دول. فحتّى الإخوة المسيحيّين لدينا قد أسقطوا هذا المجال من اهتماماتهم، رغم أنّهم الأكثر قربا والأوفر حظّا في الانشغال بهذا المبحث.
من ناحيـة الحـوارات والخصومـات، ليـس مـن طبعـي الخصـام، بل الحوار الهادئ حتّى وإن تناول قضايا حارقة، والإلحاح على العلميّة والمسؤوليّة والابتعاد عمّا هو أيديولوجي.
(9)
* ما رأيك في مشاريع البحث لرابطة العقلانيّين العرب جورج طرابيشي / عبد المجيد الشرفي ...؟
المشاريع كثيرة ولكن التّنفيذ قليل. فكلّ ما أتمنّاه أن توضع الكفاءات العربيّة في شتّى التّخصّصات داخل قنواتها الصّائبة، وأن يجلس الجميع حول الطّاولة ويتحاوروا، فالكلّ يمتطون معا سفينة في بحر لجّي، لا أن يتدابروا، ليشكّل هذا رابطة للعقلانيين وآخر للسّلفيين، كما ساد في ما مضى واحدة للتّقدميين وأخرى للرّجعيين، وفي النّهاية نتبين أنّ ما هي إلّا أسماء سميناها.
(10)
* سلسلة كتب «الإسلام واحدا ومتعددا» إشراف د. عبد المجيد الشرفي: كيف تراها؟
الأستاذ عبدالمجيد الشرفي رجل علمي، وأتمنّى له التّوفيق في مسعاه، وأقدّر أنّ السّلسلة مبادرة قيّمة للخروج من الرّؤية الضّيقة للإسلام التي هيمنت وترسّخت. فأن يأتي رجل من أقصى المدينة، أي من كلّية علوم إنسانيّة لا من حرم كليّة الشّريعة، ليطرح رؤى مستجدّة في النّظر للإسلام ودراسته، فيه من الدّلالة الجليّة علـى اغتراب «كلّية الشّريعـة» في الزّمن الرّاهن، أقصد جامعة الزّيتونة تحديدا، والتي صـار يفصلهـا عن الاجتماع بون شاسع. وإلاّ فما مبرر، غياب تدريس علم اجتماع الإسلام وظواهريّة الإسلام، وإناسة الإسلام، وعلم نفس الشّخصيّة المسلمة، وتاريخ الإسلام، ودراسات الدّيانات المحيطة بالإسلام ماضيا وحاضرا في شتّى الكليات الدّينية؟.