بهدوء

بقلم
عبدالرحمان بنويس
مدخل إلى تنزيل مناهج التعليم في الظروف الطارئة: كورونا أنموذجا (3) «فلسفة الإصلاح المرجعي وأثره في ت
 تذكيرا لما سبق في العدد السّابق، فإنّ للمجتمع أثره وتأثيره في تنزيل مناهج التّعليم في الظّروف الطّارئة، وذلك أنّ تفكيره المنهجي يستدعي حسن التّصوّر والتّعامل مع مختلف القضايا الحادثة المستجدّة، وإذا كان هذا المجتمع متّصفا بالمعرفة؛ فلا مراء من كونه يُكوّن علاقات ذات أولويّة وذات بعد استراتيجي، بتوظيف آليّة العقل المفكّر والمدبّر والقادر على حسن التّخطيط، ومرونة التّدبير، وواقعيّة التّقويم والتّوجيه والنّقد والإصلاح. وإذا كان الفهم معكوسا، فستكون النّتائج التّطبيقيّة على منوالها، لذا فما من سبيل إلى تكوين مجتمع المعرفة والوعي والمشاركة إلاّ بالاهتمام بالصّحة النّفسيّة، وإعلاء من مقام التّعليم والتّعلّم ومَنْ هُمْ على هرمه، لأنّ ذلك يسهم لا محالة في بناء مناهج تعليميّة ملائمة وواقعيّة، بعيدة عن كلّ التّعاقدات الدّوليّة الهالكة أو تنويم الوقت للمصالح المشخصنة السّياسيّة.
وعلى سبيل الرّبط بين ما أوردته سابقا دعني أوضح؛ إذا كان مجتمع المعرفة لا يقوم إلاّ بالعلم، ولا يعبأ بقدراته واحتياجاته إلاّ بذلك، فلزم الاعتراف بكون العلم الـمُعرفُ الذي لا يُعرَّفُ، فهو السّلاح الحضاري الذي جاءت به مختلف الدّيانات وعليه بُنيت، وهو أوّل ما خوطب به خاتم الأنبياء محمد ﷺ، ناصحا به أمّته وحذّرهم من المغبّة تجاهه، فقال تعالى في سورة العلق: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»(1). فهو منهاج سماوي يقصد الإصلاح البشري في الأرض لأهداف مضبوطة ومقصودة.
وأمّا عن قيمته الدّنيويّة، فقد أعلى اللّه من شأن المخبتين ووجوههم به، وزيّن به أحلامهم، وأبان مقدرتهم في الفهم والعمل، فقال تعالى: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»(2)، واعتبر القرآنُ العلمَ من الزّينة التي يجب على المرء طلبه على الدّوام، كما في َقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ عن بعض أنبيائه: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا»(3) 
وقد اعتبر العلاّمة الحجوي الثّعالبي رحمة اللّه عليه «أنّ الأمم لا تعتبر في مقام الحياة إلّا بقدر ما فيها من الرّجال وما يحسنون»(4)، وهذا الإحسان الذي أساسه العلم ينتج المفكرين والمعتبرين بالرّأي والاجتهاد وبعد المآل تجريدا للأحكام وتطبيقا لها على الوقائع، ولا يقوم بهذه الوظيفة إلاّ محاسن الرّجال، وأصحاب الذّهن الثّاقب، فبواسطة العلم نستطيع تأسيس مرجعيّة منطلقها القرآن والسّنة، ومنتهاها الاجتهاد البشري الذي يحقّق مقاصد المكلّف في حياته ومجتمعه وحضارته، وهو سبب مباشر من أسباب التّقدّم الحضاري للأمم والحضارات. ونحسب بأنّ إلغاء مكانة العلم هي السّبب في تهالك منظوماتنا التّربويّة، وعدم اجتراء مدخرات أعلامنا في النّهوض بواقعنا الحالي.
فما فلسفة الإصلاح وعلاقتها بمجتمع المعرفة؟
إنّ الإصلاح المقصود هنا هو مقارنة ومدافعة الإفساد المنهي عنه في منهاج الإسلام، قال تعالى: «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا»(5) وقال أيضا: «وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ»(6)، وقال تعالى على لسان شعيب «إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ» (7). 
والإفساد يكون بأشكال متعدّدة ومتنوّعة، منها الإفساد المادّي الذي لا يكاد ينكره أحد، ومنها الإفساد المعنوي الذي لا يكاد يظهر إلّا لذوي الألّباب المدركة، كإفساد الإعلام بإغراقه بالأفلام المتهالكة أو الحوارات المحدودة الضّيقة، أو إفساد التّعليم بعدم الاستقرار النّفسي للمعلّمين والقائمين عليه، وإفساد المدارس بتعطيل مناهج التّعليم الدّيني الخالص، أو إفساد المنظومة باقتباس إصلاحات لا تتوافق وفلسفة الدّولة ومبادئها ومرتكزاتها، أو إفساد الاقتصاد باستجلاب استثمارات تضرّ بالاقتصاد المحلّي.
فالإصلاح منهـاج يسعى إلى إعمـار الأرض بما يحقّق المنافع ويجلب الخيرات والمصالــح للنّــاس في المعاش والمعــاد، بعدم الإفسـاد الذي يضرّ بالإنسان وكلّ ما يحيط به. والذي يؤثّر في الإصلاحــات التي يكون شأنهــا الطّابع العاجل هو طبيعتُها المرجعيّة؛ فإن كانت على رؤى ومآل، كانت نتيجــة أقرب إلى الواقعيّة والمعياريّة، وأمّا إذا كانت على تنظيرات برتوكوليّة آنيّة ذات الطّابع الاستعجالي العشوائي مع عدم التّفكّر في مآلها، كان مآل ذلك الهدم.
إنّ ممّا لوحظ في نمط تعامل الكثير من الدّول مع جائحة «كورونا» هو طابع التّقليد من دون النّظر في المآلات، ودليل ذلك هو أنّ الحجر الصّحي الموظّف قد انهال على الاقتصاد والتّعليم والصّحة، وأصبح أثره وتأثيره يستشري في [قتل] باقي المجالات الأخرى، إضافة إلى أنّ فَرضَه في تلك المناسبة كان نسبيّا جيّدا لغرابته، غير أنّ آثاره الشّموليّة كشفت عن سياقها، بإظهار حجم مرجعيّتها الإديولوجيّة، واستخدام دول رأسماليّة جشعة للجائحة في حسن تسويق منتوجاتها وتحسين صورتها، بعلّة إنقاذ العالم، لكن سرعان  ما كشفت بعض الأسباب السّريّة وراء انتشار هذا المرض الفتّاك، وممّن يتابع الأحداث على قدم وساق من المثقّفين يستنتج أنّ أغلب الإصلاحات التي أطلقتها الحكومات في هذه الجائحة كانت تتبنّى المرجعيّة البرغماتيّة والذّاتيّة لا المجتمعيّة الهادفة، فتأثّرت بسببها منظومة التّربية والتّعليم والتّكوين، وذلك بتعطيل العقول وإهداء النّجاحات من دون مجهود.
والدّول العربيّة بطبعها الانهزامي حصرت قراراتها في التّقليد للتّقدّم الغربي على حساب تاريخها وهويّتها، ولو أنّها رجعت قليلا إلى تاريخها لوجدت نوازل شبيهة بهذه القضايا وأسباب حصرها ودفنها، إلاّ أنّ تشابك الاقتصاد بالسّياسة بالتّعليم الغربي المتقدّم مادّيّا كان سببا في شكليّة الإصلاح.
إنّنا في العالم العربي نقع بين فَكَّيْ المرجعيّة الشّيوعيّة والرّأسماليّة وجشع التّقدّم الحضاري للغرب، والدّهشة التي لم نتوقّع نتائجها من هذه الكوارث المستجِدّة، ممّا يفرض أن يكون المنهاج التّعليمي في هكذا مناسبات حاضرا بقوّة، وذلك:
-1 بإبراز البدائل العلميّة.
-2 والاعتماد على القرارات المبنيّة في مختبراتنا الفكريّة والعلميّة الجامعيّة.
-3 وغربلة كلّ الإصلاحات والاقتراحات العابرة للقارات.
-4 وأخذ ما يوافق المرجعيّة الإسلاميّة وما يعتزّ بهويّاتها.
-5 وإضفاء نوع من المرونة على القرارات التي لم تمسّها الجائحة.
-6 والحزم مع كلّ المخالفين للقرارات الفردانيّة التي تعرض النّاس لاختراق الأمن الاجتماعي والنّفسي والصّحّي للمواطنين.
هل القرارت كلّها فاشلة أو أفشلت الواقع؟
لعلّ المتأمل في الإصلاحات التي عملت عليها بعض منظومات الدّول العربية في التّعليم يجد أنّها بين فرضيّتين:
فرضيّة الفشل الذّريع في الإصلاح التّعليمي: وذلك من خلال كون أغلب الدّول العربيّة باستثناء الشّرق يعرف معلّموه وأساتذته إضرابات واعتصامات طلبا للإصلاحات الحقيقيّة، وذلك بالتّخلّي عن التّبعيّة الغربيّة، وتمكين أرباب التّربيّة والتّكوين من حقوقهم المشروعة بالقوانين والمذكّرات والمراسيم، غير أنّ ذلك صادف أزمة «كورونا»، ففرضت السّياسة قوّتها، وأدخلت الجميع سجنَ الحجر الصّحي، ولا ننكر أنّ في ذلك مصالح على النّفس والمال إلاّ أنّ من وراء ذلك مفاسد، لعلّ أهمّها تعطيل الأصوات المطالبة بالإصلاحات الواقعيّة، وتمديد أجل الحقوق حتّى يملّ منها أهلها، أو قتل روح النّظر المآلي والتّجديد الإصلاحي لقضايا التّربية والتّكوين.
وأمّا الفرضيّة الثّانية فتتمثّل في أنّ بعض القرارات أفشلت ما قبلها وأهملت الواقع وهمّشت قضاياه، كاستغلال جهل النّاس أو إلهائهم بالعدد المهول للإصابات والقتلى... فمن حيث قتل وإعدام الإصلاحات المنهاجيّة ما تمّت ملاحظته من العجلة في طبخ مقرّرات دراسيّة بناء على هوس دولي، أو تغيير مواد جامعيّة تلبية لذوق أجبني، دون النّظر في مخرجات تلك المعارف وخصائصها.
وكلّ هذا ذكر بعضه المفكر الجزائري مالك بن نبي في «مشكلات الحضارة»، وأجاد بعضا منها العلامة المصري عبد الوهاب المسيري في كتاباته النّاقدة، وبيّن طرفا منها علامة المغرب عبد اللّه كنون في كتبه، كما فتح باب إصلاحه صاحب كتاب الإسلام بين الشّرق والغرب.
يستلزم القرار الإصلاحي في المناهج التّعليميّة الجدّية والصّراحة مع الواقع، وأخذ مشورات كلّ الفرقاء بعيدا عن كلّ المزايدات والتّكهّنات السّياسيّة التي تعترف بالتّفاوض على حساب الاختيار، دون أن نغفل أنّ الإصلاح الحقيقي هو الذي يبدأ من جنود الخفاء، المحتكين بالتّربية والتّكوين من أساتذة وحرّاس عامّين ومدراء ومكوّنين، وإعطاؤهم الفرصة الكاملة للاقتراح والتّوجيه والنّقد، بعيدا عن الكيديّات والمتابعات القصريّة في حقّ المنادين والمطالبين بالإصلاح للمنظومة التّعليميّة، وأن يكون الإعلام مسخّرا لهذا الأمر، وأن يكون المسؤول الإداري خادما للمسؤول التّربوي، وأن يكون المسؤول السّياسي حاملا لهاجس الرّبح الفكري، بترقية المدارس، وتنقيح المقرّرات والكتب المدرسيّة والمواد الجامعيّة..
إنّنا نعيش في واقعنا منافسة شرسة مع أعداء لا يُظهِرون حقيقتهم، أعداء لا يستسلمون، ويسعون بكلّ ما لديهم من قوّة وأسلوب ودعاوى كاذبة بعيدة عن الواقع لتكريس واقع الانبطاح والإلهاء، ويكرهون كلّ كيان مستقلّ بفكره، مهتم بشأنه، مصلح لمجتمعه، ممّا يفرض بالضّرورة التّفكير العميق في إيجاد سبل للخروج من أزمة «كورونا» أو غيرها من الأزمات بسلام، ثمّ التّفكير في عمليّة بناء  العقول المدركة التي تعمّر هذا البلد أو ذاك بالمصلحة والمنفعة الدّائمة، وأن يعيش فيه الإنسان وفق المنهج الذي ابتغاه اللّه من تحقيق الاستخلاف في الأرض واستعمارها، والقطع مع كلّ المرجعيّات المضلّلة والأفكار الشّكليّة التي تهوي ولا تُعلي.
ويقتضي تنزيل مناهج التّعليم رجالا لهم وعي عميق، وتفكير جادّ في الانتقال إلى مرمى المستقبل، كما يقتضي أن يكون الجميع - أفراد وجماعات ومؤسّسات- في خدمة التّعليم، عاملين على  تجاوز كلّ العثرات وتجنّب كلّ العقبات المثبطة من مؤسّسات وهميّة وشعارات زائفة وقوانين خادعة. وأن تكون الأسرة والمجتمع مؤسّسة مؤهّلة وذات كفاءة قادرة على تحمّل مسؤوليّاتها وأعبائها، فلا ترسل أبناءها لتشحن في المدارس كماتشحن البطاريّات، بل تسهر على تقويم ما اعوجّ من فكرهم وسلوكهم وأعمالهم وترميمها، وبذلك نؤسّس للمنهاج الذي يخدم أولادنا الذين سيصبحون ذات يوم رجالنا المستقبليّين، ومفكّرينا العظماء. وإنني لا أخصّص في هذا بلدا بعينه بل جميع البلدان العربيّة لما لديها من التّشابه في الواقع وفي السّمات. والله المستعان.
الهوامش
(*)   الموضوع بإيعاز الدّكتور لحسن أشفري: أستاذ التّعليم العالي بكلّية الشّريعة جامعة ابن زهر بأكادير المغرب «تخصّص الفقه وأصوله» المشرف على تأطير الباحث «عبد الرّحمان بنويس».
(1) سورة العلق - من الآية 1 إلى الآية 5
(2) سورة المجادلة - الآية 11
(3) سورة طه - الآية 114 
(4) الفكر السّامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد بن الحسن الحجوي الثّعالبي (المتوفى: 1376هـ) دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان، الطبعة: الأولى - 1416هـ - 1995م 1/10.
(5) سورة الأعراف  - الآية 56
(6) سورة الأعراف  - الآية 47 
(7) سورة هود  - الآية 84