في الصميم

بقلم
محمد أمين هبيري
الجباية والفساد أو معطلات الاعتمار لتحقيق قوة الاعمار
 يلعب النّظام الجبائي دورا مهمّا في إقامة العدالة الاجتماعيّة، ويجب أن يندرج صلب سياسة تهدف إلى إعادة توزيع المداخيل والثّروة. وهذه السّياسة يجب أن تكون حريصة على ضبط المساهمات الجبائيّة بصفة عادلة بن الفاعلين الاقتصاديّين، أي بصفة تعكس نصيبهم من الثّروة من جهة، وأن تقوم بتوجيه النّفقات العموميّة في قطاعات ومشاريع من شأنها أن تحسّن من التّوزيع الأوّلي للثّروة من جهة أخرى. وفي صورة غياب العدالة في التّوزيع يظهر الفساد.
يمكن تعريف الفساد من النّاحية اللّغوية على أنّه: الفاء والسّين والدّال له أصل واحد ترجع إليه الفروع كلّها، حسب معجم الغني، هو الضرر والخراب. فالفساد مصدر فسَدَ وفسُدَ، وهو الخراب، يقال عاث في الأرض فسادا، إذا ما كانت أفعاله وسلوكه شريرة أو خبيثة. ومنه قول الله تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} في إشارة إلى الجدب والقحط والكوارث.
أما اصطلاحا، فقد عرّف المشرع التّونسي الفساد بكونه:«كل تصرّف مخالف للقانون والتّراتيب الجاري بها العمل، يضرّ أو من شأنه الإضرار بالمصلحة العامّة، وسوء استخدام السّلطة أو النّفوذ أو الوظيفة للحصول على منفعة شخصيّة، ويشمل جرائم الرّشوة بجميع أشكالها في القطاعين العام والخاصّ، والاستيلاء على الأموال العموميّة أو سوء التّصرف فيها أو تبديدها، واستغلال النّفوذ وتجاوز السّلطة أو سوء استعمالها، وجميع حالات الإثراء غير المشروع، وخيانة الأمانة وسوء استخدام أموال الذّوات المعنويّة، وغسل الأموال وتضارب المصالح واستغلال المعلومة الممتازة، والتّهرب الجبائي، وتعطيل قرارات السّلطة القضائية، وكل الأفعال التي تهدّد الصّحّة العامّة أو السّلامة أو البيئة»(1).
تاريخيّا، كان جمع الضّرائب يتمّ من خلال حملات عسكريّة موسميّة ذات صبغة قمعيّة، وكانت الموارد الجبائيّة عينيّة متكوّنة من الضّرائب الفلاحيّة والعقاريّة، ومع الاستعمار الفرنسي وبتطور الأنشطة الاقتصاديّة واكبت الضّرائب هذه التّحوّلات وأدّى إلى ظهور نوعيّة جديدة كالمساهمة الشّخصيّة للدّولة سنة 1932، والضّريبة على الأجور سنة 1937.
ومع تطور الزّمان وبتسارع الأحداث ظهرت عديد المجالات رغم تشعّبها وافتقارها في البعض من الأحيان إلى الدّقة والوضوح، وفي الوقت الحالي تعتبر الجباية المصدر الرّئيسي للماليّة العموميّة إذ تقدّر في الموازنة الماليّة بحوالي الـ 83 % من إجمالي ميزانيّة الدّولة.
تعدّ دراسة الجباية والفساد من بين المواضيع المهمّة لإعادة بناء دولة جديدة على أنقاض دولة مرتكزة على الفساد، وهو ما يجعلنا نتبيّن معطلات الاستثمار (الاعتمار) الذي يخول لنا تجنّبها تحقيق قوّة الاقتصاد (الإعمار)، فالإصلاح الجبائي أضحى مطلبا شعبيّا نظرا إلى أهمّيته في مكافحة الفساد وفي تحقيق التّنمية والعدالة الاجتماعيّة رمز الكرامة والعدل التي قامت من أجلهما الثّورة التّونسيّة. ومن الضّروري بالتّالي أن تبني الدّولة نظامها الجبائي على أسس سليمة قوامها سيادة القانون والمساواة للجميع أمام قوانين الضّرائب.
ورغم خضوع النّظام الجبائي في تونس لمنظومة قانونيّة محدّدة، إلاّ أنّه يعاني من العديد من النّقائص لعلّ أبرزها خرق مبدأ الرّقابة الجبائيّة وتطويعه لفائدة أشخاص أو جهات معيّنة، وهو ما أدّى إلى استشراء الفساد وتفشّي ظاهرة التّهرّب الضّريبي دون محاسبة. ويبدو أنّ إصلاح النّظام الجبائي يجب أن يشمل النّاحية التّشريعيّة أساسا، وذلك بوضع قوانين جديدة تكرّس العدالة الجبائيّة عبر تشريك كافّة الأطراف الفاعلة لصياغة التّوجّهات الماليّة للبلاد. 
وعلى خلاف المعطّلات الخارجيّة التي تبدو محددة وواضحة ويجب لإصلاحها وضع تشريعات مصحّحة لها (الجزء الأول)، فإنّ المعطّلات الدّاخليّة تبدو أكثر تشعّبا وغموضا، إذ أنّها تتعلّق بمسائل هيكليّة وتنظيميّة (الجزء الثاني) وهو ما يجعل من عمليّة الإصلاح الجبائي عملية معقّدة.
الجزء الأول: المعطّلات الخارجيّة
يقصد بالمعطّلات الخارجيّة؛ مجموعة العوامل الاقتصاديّة والماليّة وغيرها المثبطة والخارجة عن الإرادة المنفردة للإدارة، والتي تؤثّر سلبا في ميزانيّة الدّولة والتّي يمكن أن تقسّم إلى قسمين؛ معطّل التّهرّب الضّريبي (عنصر أول) ومعطّلات أخرى (عنصر ثان) 
العنصر الأول: معطّل التّهرّب الجبائي
يرتكز المشرّع التّونسي على مبدأ الالتزام الطّوعي لاستخلاص الأداءات للحدّ من ظاهرة التّهرّب الجبائي. وذلك في إعلاء لقيم الحرّية المواطنيّة على حساب قيم الإكراه الرّعويّة، ولكن رغم الأهمّية التي يكتسيها، إلاّ أنّ هذا المؤشّر لا يٌقتدى به في تونس، حيث لا يرى عدد كبير من التّونسيّين أنّ التّهرب الجبائي أمر سيئ. 
وبسبب الظّروف غير الملائمة للالتزام الطّوعي باستخلاص الأداءات تزداد مهمّة إدارة الجباية تعقيدا. حيث يرفض المطالبون بالأداء الامتثال للنّظام الجبائي والتّعاون مع جهود الإدارة في جمع الضّرائب والمراجعة الجبائيّة وجمع البيانات. 
تتداخل العديد من العوامل في ظاهرة التّهرب الجبائي، ويعتمد الامتثال الجبائي على عاملين رئيسيّين: الثّقة في مصالح مراقبة الأداءات من جهة، والصّلاحيّات الممنوحة لها من جهة أخرى.
أمّا الأولى وهي الثّقة في مصالح مراقبة الأداءات فتعني «أنّ الأفراد والمجموعات الاجتماعيّة تؤمن بأن مصالح مراقبة الأداءات هادفة وتعمل بشكل مفيد من أجل الصّالح العام»، وترتبط بالالتزام الطوعي باستخلاص الأداءات. من ناحية أخرى، كما أن العامل الثاني وهو الصلاحيات الممنوحة لهذه المصالح إلى «تصور المطالبين بالأداء لإمكانية قيام أعوان مكاتب مراقبة الأداءات بالكشف عن التهرب الجبائي، ومعاقبة التهرب الجبائي عن طريق تغريم المتهربين إلى حد ملحوظ»، ويكون ذلك في إطار إلزام أو فرض قانون الامتثال الضريبي (2)
العنصر الثاني: معطّلات أخرى
من بين هذه المعطّلات نجد العراقيل التّشريعيّة، المجسّدة في غياب الصّلاحيّات القانونيّة لإجراء عمليّات المراجعة. ينصّ الفصل 18 من القانون على تقليص المدّة القصوى للمراجعة المعمّقة من 6 إلى 4 أشهر، ممّا يمنح المؤسّسة الجبائيّة التي تعاني من نقص في صفوف العاملين والأجهزة، وقتًا أقلّ لأداء مهامها. 
علاوة على ذلك، فإنّ الغموض الوارد في بعض القوانين يفسح المجال لخلق ثغرات جبائيّة لدى بعض المطالبين بالأداء. تتعلّق حالات الغموض هذه بمعدّلات الضّرائب، والطّبيعة القانونيّة للمذّكرات التفسيرية، وتأويلات بعض الفصول. 
كما نجد العراقيل الاقتصاديّة من خلال النّشاط الاقتصادي في القطاع غير الرّسمي. في الواقع، تشير التّقديرات إلى أنّ القطاع غير الرسمي يوظّف حوالي 40 % من الشّباب النّاشط اقتصاديّا بالقطاع الفلاحي. ومع ذلك، فهو يمثّل أيضًا عقبة رئيسيّة تواجهها إدارة الجباية في تحصيل الإيرادات، حيث أن حجم القطاع غير المنظّم وطبيعته المعقّدة يجعل من الصّعب للغاية على إدارة الجباية إجراء مراجعة في الغرض أو حتّى الكشف عنها، خاصّة في ظلّ محدوديّة الموارد المتاحة. 
وكذلك نجد العراقيل النقدية، إذ أنّ الاقتصاد النّقدي التّونسي يشكّل أيضًا عقبة رئيسيّة أمام إدارة الجباية. فمن المعلوم أنّ الشّركات التي تتعامل نقدا فقط تتعارض مع الامتثال الضّريبي، فمن الصّعب تتبّع المعاملات النّقديّة والتّحقّق منها، ممّا يترك هامشًا واسعًا للتّهرب الضّريبي، يضاف إلى ذلك تكنوقراطيّة الأداءات. 
وغالبًا ما يظل الموضوع غامضًا بالنّسبة للمواطن العادي والمطالب بالأداء، إذ نادرا ما يتمّ مناقشة مسألة الأداءات. 
وفي خلاصة القول، كما هو موضّح في هذا القسم، فإنّ المناخ العام في تونس لا يحقّق مبدأ الامتثال الضّريبي وبناء نهج تعاوني بين إدارة الجباية والمطالبين بالأداء. ومع ذلك، فماهي إذن الإشكاليّات التي تواجه إدارة الجباية على المستوى الدّاخلي.  
الجزء الثاني: المعطّلات الدّاخليّة
يقصد بالمعطّلات الدّاخلية؛ مجموعة العوامل الاقتصاديّة والماليّة وغيرها المثبطة والنّابعة عن الإرادة المنفردة للإدارة، والتي تؤثّر سلبا في ميزانيّة الدّولة. ويمكن أن تقسّم إلى قسمين:
* معطّلات تهمّ مسائل هيكليّة (عنصر أول)، 
* معطّلات تهمّ مسائل تنظيميّة (عنصر ثان) .
العنصر الأول: مسائل هيكلية
تعاني إدارة الجباية في تونس من نظام معلومات قديم، تأثيراته واضحة على عديد المستويات، فنجد الإدارة أمام نظم مختلفة لا تزال غير مرتبطة وغير متّصلة بعضها ببعض من جهة، ومشاكل الشّبكات والمعدّات القديمة، وعدم توفّر المعدّات على غرار أجهزة الكمبيوتر، من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى عدم وجود مصفوفة تسمح للإدارة بتقييم مخاطر التّهرب الجبائي من قبل المطالبين بالأداء مثل تلك المتعلقة بانخفاض هامش الرّبح أو الخسارة المزمنة أو الاعتماد الجبائي المزمن.
العنصر الثاني: مسائل تنظيميّة 
إنّ الإدارات الجبائيّة في البلدان النّامية لا تزال ضعيفة من حيث الهيكلـة، فهي تفتقـر وبشـدّة إلى الهياكـل والأدوات التي تمكّنهـا من طرح إشكال التّهرّب الجبائي على نحو دقيق، وفي حقيقة الأمر فإنّ هذه الإدارات تشجّع على ممارسة السّرّية الماليّة. تحتاج الإدارة إلى وحدة متخصّصة للتّعامل مع هذا المستوى من الخبرة. ورغم أنّ هناك إدارة المؤسّسات الكبرى، إلّا أنّها تعاني من نقص الموظّفين وعدم تلقّي التّدريب الكافي. فمن الطّبيعي إذا أن تفشل جهود إعادة الهيكلة، لأنّنا نفتقر إلى مثل هذه الهيئة المتخصّصة للأفراد ذوي الدّخل المرتفع.
بالإضافة إلى ذلك، يجب سنّ استراتيجيّة تجعل الإبلاغ عن خطط التّهرّب الجبائي إلزاميًّا للمطالبين بالأداء والمستشارين الجبائيّين، من أجل الإصرار على إرساء تخطيط جبائي صارم. ويعتبر هذا الأمر بالغ الأهمّية لعدّة أسباب منها على سبيل المثال لا الحصر:
• مساعدة إدارة الجباية على تحديد حالات عدم اليقين في القانون الجبائي،
• تمكين إدارة الجباية من تقييم المخاطر التي تطرحها هذه المخطّطات قبل تقييم الأداءات وإجراء المراجعات على نحو أكثر كفاءة.
• منع المطالبين بالأداء من استخدام هذه المخطّطات الجبائيّة.
الهوامش
(1)   القانون الأساسي عدد 10لسنة 2017 والمؤرخ في 7 مارس 2017 والمتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين، الفصل 2، فقرة2
(2)  إدارة الجباية في تونس أداة معطّلة - بقلم سحر مشماش ص13