فواصل

بقلم
محمد جكيب
الرحم الشرعية للإصلاح والصلاح
 الإصلاح فعل مستمر
الإصلاح والانبعاث والارتقاء والبحث عن كلّ السّبل المؤدّية إلى ذلك كلّه، وكذلك التّجديد والتّجدّد، كلّ ذلك سلوك مستمرّ لا يتوقّف، أو بالأحرى هو فعل متواصل لا ينبغي أن يتوقّف لأنّ ذلك هو ضامن التّفاعل ومجريات الواقع وعلّة الاستفادة من اللّحظة التّاريخيّة إيجابا، وهو ما يمدّ الصّلاح والإصلاح بما يلزم من الطّاقة اللاّزمة المؤدّية حتما إلى الوقوف في الصّفوف الأماميّة للشّهود الحضاري. وتوقف طلب التّجديد والتّجدّد هو المسار المؤدّي حتما إلى الجمود المؤدّي بدوره إلى توقّف حيويّة المجتمع ـ كلّ مجتمع ـ  عن مدّ المجتمع الإنساني كلّه بكلّ أسباب الارتقاء والتّفاعل الإيجابي وكلّ مكوّنات هذا الوجود الفسيح. ذلك لأنّ هذا التّفاعل الإيجابي هو مفتاح التّسخير البنّاء لمكونات هذا الوجود في أبعاده المختلفة بما يخدم الصّلاح والإصلاح ويضمن الحياة المطمئنّة لأرقى المخلوقات التي تعيش على كوكب الأرض. لقد اقتضت السّنن الكونيّة أنّ عدم التّجدّد وعدم الحركة والعمل والتّفاعل الإيجابي والفعال يؤدّي حتما إلى الموت، وكذلك كانت الحضارة وماتزال هي ومشعلها تنتقل من يد إلى يد ومن مكان إلى آخر دولا بين النّاس، وسيبقى الحال كذلك ما بقي الإنسان، ومفتاح ذلك يكمن بين توقّف التّفاعل والحركيّة وبين سريان روح التّجديد والتّجدّد والإصلاح والصّلاح.
ليس الإصلاح ترفا، بل طاقة وعي عام
ليس الإصلاح والصّلاح ترفا فكريّا أو ثقافيّا أو اجتماعيّا، وليس مجرّد بدل جهد للتّسلّي، وإنّما هو ضرورة ملحّة وحاجة لا استغناء عنها، ومن هنا كان لكلّ مرحلة تاريخيّة دعوتها أو دعواتها إلى الإصلاح، التي تخصّها وتخصّ لحظتها التّاريخيّة.
ليس الإصلاح والدّعوة إليه حكرا على طرف دون طرف، ولا على تيار دون تيار، ولا دين دون دين، فالكلّ يدعو إلى الإصلاح والصّلاح بما يتلاءم وخصوصيّته وبما ينسجم ورؤيته للعالم والوجود، وقد يكون التّنوع والتّفاوت ثراء لتجربة الإصلاح عموما بالنّظر إلى مدى ما تستطيع الفكرة الإصلاحيّة الإتيان به من عناصر إيجابيّة تضمن الاطمئنان والاستقرار لمجموع المجتمع الإنساني، والحسنة ضالّة ينبغي طلبها أنَّا وجدت، وأنَّا كانت وعند من كانت.  
لكلّ لحظة تاريخيّة خصوصيّتها، ولكلّ إنسان في لحظته التّاريخيّة تطلّعات وطموحات وهموم، والإصلاح ودعواته ملزمة بأخذ ذلك كلّه بالاعتبار، ولذلك فإنّ رغبة الإصلاح حالة شعوريّة ينبغي أن تعمّ المجتمع كلّه أفرادا وجماعات، بل هو نمط وعي ينبغي أن يجري من المجتمع مجرى الدّم من الجسد، وفي مستوى أعمق ينبغي أن يكون الإصلاح وعيا جمعيّا، وطاقة إيجابيّة مشعّة إذا عمّت أخذت الكلّ في حضنها، كطموح عام يسكن بين ضلوع كلّ فرد من أفراد المجتمع كلّ من موقعه ومستوى وعيه ووظيفته ومستوى إدراكه، لكنّ الجميع معنيّون بهذه الطّاقة التي تسمّى الإصلاح وتتوّج بالصّلاح، باعتباره البوتقة التي يلتقي فيها كلّ الأفراد وكلّ الجماعات، وكلّ مكونات المجتمع في بعده الضّيق أو في بعده الواسع.
استشعار اللّحظة التّاريخيّة، واستشعار ضرورة الإصلاح والصّلاح هو الحال والمقام، الذي يجب أن يسبق الإصلاح نفسه، الذي هو فعل وسلوك وعمل ومنجز كما أشير إليه سالفا، وقد يذهب كلّ ذلك أدراج الرّياح إذا لم يجد الأرضيّة الخصبة، التي يمكن أن يثمر فيها، تلك لعمري ضرورة لا غنى عنها، وهي مرهونة ولاشكّ بروح الفكر وعمق الرّؤية، باعتبارهما أبعادا معنويّة تسبق الإصلاح نفسه، بل إنّ الفكر والرّؤية هما الرّحم التي يتخلّق فيها الإصلاح والصّلاح، وشتان بين رحم شرعيّة وأخرى حملت سفاحا.
جوهر الإصلاح لا دراسته
الجدير بالذّكر في هذا المقام هو أنّ الإصلاح ليس هو فكر الإصلاح والتّفكير فيه، أو دراسته باعتبار بعده المعرفي، فتلك حال معرفيّة علميّة تستجيب لشروط خاصّة، بل إنّ الإصلاح جوهر وهو في هذا البعد سلوك ووعي وضرورة وحاجة ملحّة. فعلى كلّ من يريد الإصلاح الارتقاء إلى مقام إدراك جوهر الإصلاح، والوعي بضرورة الإصلاح، والمساهمة فيه بكلّ الجوارح مع الاستعداد الفكري والرّؤيوي والحركي اللاّزم، على أساس أنّ الكلّ مؤهّل لما خلق له، فمن كان أهلا للإصلاح حركيّا فتلك مهمّته وذاك مجال جهاده الأكبر، ومن كان مؤهّلا ذهنيّا وعقليّا وعلميّا فذاك مجال مسعاه وهو التّحليل والتّفكير والنّقد وبناء التّصوّرات وتخطيط الاستراتيجيّات...، فالجميع معني بالإصلاح والصّلاح، ولا يعفى إلاّ من رفع عنه القلم، وليس يعنى ذلك أنّ أطراف الإصلاح منقطعون عن بعضهم البعض ـ وهو أمر لا يستقيم وغايات الإصلاح السّامية ـ فلا طرف يتحرّك بعيدا عن الطّرف الآخر، العلاقة بينهما تكامليّة تشيد في الأخير هذا الجوهر الذي هو الإصلاح، وبعبارة أخرى إنّ أطراف الإصلاح حاضرة بأبعاد وعلاقة تكامليّة، فكلّ الأطراف تتّحد من أجل تحقيق الإصلاح في بعده الجوهري، والكلّ يلتقي عند الحيز المشترك وهو الإصلاح والصّلاح، بمختلف أبعاده الرّؤيويّة والحركيّة.
فكر الإصلاح هو ذلك الفكر الذي يهتمّ بالإصلاح ومشاريعه المختلفة السّالف منها والرّاهن، ويتعمّق فيها بالدّرس والتّحليل والنّقد، وبإمعان النّظر في مناهجها، وهو يستحقّ بذلك صفة الحقل المعرفّي، وهو فعلا حقل معرفيّ له خصوصيّته المعرفيّة ويحتاج إلى عدّة منهجيّات خاصّة لمقاربته ودراسته وتحليليه، وهو ما يسهم في تقديم خدمة لمن يشتغل بالإصلاح وينخرط فيه. بكلام آخر، إنّ فكر الإصلاح باعتباره حقلا معرفيّا يقدّم فائدة جمّة لمن يشتغل بالإصلاح تنظيرا أو تفعيلا، كشفا عن مواطن القوّة أو النّكوص في مشاريع الإصلاح المختلفة، وهو ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار، قبل أو في خضم رحلة الإصلاح.
أركان الإصلاح وأسسه
للإصلاح أركان لابدّ له منها لتكتمل صورته وتكتمل خلقته، ولا يكون الإصلاح إصلاحا بدونها فيما نرى، ولكلّ ركن من هذه الأركان شروط ومقومات يتوجّب توفّرها، حتّى يستقيم مكوّنا فعّالا يؤدّي مهمّته في عمليّة الإصلاح على أكمل وجه، في ضوء التّوافق والمكوّنات الأخرى، وأوّل هذه المكونات هو المصلح، أو الذّات المصلحة، وثانيها هو الرّؤية الأخلاقيّة المحرّكة والموجّهة، وثالثها هو اللّحظة التّاريخيّة بما تتميّز به من خصوصيّة.
الركن الأول: ذات الإصلاح
الذّات المصلحة هي ركن ركين لا يمكن الاستغناء عنه، وهي حتما ليست ذاتا فرديّة، ولا ينبغي لها ذلك لأنّ الصّوت الفردي إذا لم يتواصل وذوات أخرى لن يعدو أن يكون صدى لهاتف الذّات الدّاخلي ولا يلبث أن يذهب أدراج الرّياح، لكنّ روح الذّات الفرديّة قد تحضر في الذّات الجماعيّة عندما تكون الذّات الفرديّة قد حرصت على مدّ جميع جسور التّواصل مع الذّات الجماعيّة، وحرصت أن تعيش من أجل الجماعة وأن تتماها معها، وراعت في رؤيتها الذّات الجماعيّة.
إنّ روح الذّات الفرديّة ضروريّة في بعض الأوقات بما تمدّ به الذّات الجماعيّة من شحن للهمّة وبعث للطّاقة الكامنة في عمق كلّ فرد على حدة، وهذا ما يجعل العمليّة الإصلاحيّة برمّتها عمليّة جماعيّة تتغذّى على الرّوح الجماعيّة. لقد عرف التّاريخ عقليّات فذّة كثيرة بما بلورته من رؤى فكريّة متطلّعة إلى التّغيير والإصلاح ومدّ الإنسان بأسباب التّجدّد، لكن نباهتها ارتقت درجات حين التحمت بالجماعة، التي حملت الرّؤية إلى الآفاق الواسعة، في ضوء هذا البعد فإنّ روح الجماعة في العمليّة الإصلاحية تزداد تأكيدا وتزداد ضرورة؛ ولعلّ ارتباط العقليّات الفذّة التي أثّرت في مسار التّاريخ وطبعته برؤيتها هو ما سمح لأمم ولقوميّات كثيرة بالتّقدم إلى الصّفوف الأماميّة في صفّ الحضارة الإنسانيّة، تتعدّد الأسماء، لكنّ المسمى واحد. وعلى العموم يبقى الفرد كيانا ملهما وكيفما كان ملهما وكيفما كان عمق قدراته الفكريّة والرّؤيوية، فإنّه يظلّ دون إطار الجماعة وإلّا تحوّل نداؤه إلى مجرّد صدى ليس غير.
وفي ضوء كون النّبوّات والرّسالات السّماويّة محطّات إصلاحيّة متّصلة بلحظات تاريخيّة مفصليّة في تاريخ الإنسانيّة كلّها، وهي لحظات إصلاحيّة بامتياز، بدءا من نبوة آدم عليه السّلام إلى نبوّة آخر الأنبياء والرّسل محمد ﷺ، فإنّ كلّ نبيّ وكلّ رسول إنّما بعث أو أرسل إلى جماعة بشريّة كانت هي المقصود بالخطاب أو الرّسالة، من جهة كون الوظيفة المركزيّة لكلّ نبيّ مبعوث أو رسول مرسل هي التّبليغ عن المرسل إلى مرسل إليهم رسالة هي في العمق بيان إصلاحي بامتياز موجّه للجماعة لتقوم بتمثّل القيم، التي وردت في هذا البيان من أجل إصلاح لحظتها التّاريخيّة وإصلاح واقعها ثمّ الانطلاق إلى المستقبل.
وعلى هذا الأساس فلا قيمة لرؤية مصلح حمل همّ الإصلاح ولا أهمّية لأفكاره وروحه إذا ظلّت الرّؤية والأفكار حبيسة ذاته وعالمه الخاصّ، وقد تتحوّل بفعل ذلك إلى مجرّد تراث أو مجرد فكرة/أفكار صالحة للدّرس والنّقد والتّحليل. وما أكثر المشاريع الإصلاحيّة التي حلم بها أصحابها وفكّروا فيها ثمّ صعدوا إلى أبراجهم معتكفين فيها ينتظرون من يأت إليهم، ومنعت أنانيّتهم الفكريّة أو ضيق أفقهم الجماعة من فرصة الانخراط معهم في الإصلاح. ولو كانت السّنن الكونيّة تريد ملازمة الدّعوات الإصلاحيّة للذّات الفرديّة لما كان التّبليغ الوظيفة المركزيّة للأنبياء والرّسل منذ آدم عليه السلام حتّى نبوّة محمد ﷺ. وبكلام آخر إذا كان الإصلاح هو الانخراط الكلّي في التّفاعل الإيجابي مع الواقع، فإنّ المصلح الفعلي هو الجماعة وهو الأمّة وهو الشّعب وهو جماعة المؤمنين، تتعدّد الأسماء لكنّ المسمى واحد.  
إنّ الجماعة وما يدخل في دائرتها هي المعنيّ الأوّل بالإصلاح وهو الذاّت الحقيقيّة للإصلاح، وهي التي تنقل الأفكار من حيّز الفكر إلى حيّز الفعل والتّفعيل، وهي الرّحم التي يتخلّق فيها الإصلاح إلى أن تكتمل خلقته ومنها يولد، وإذا كان هذا المصلح الجمعي في مستوى اللّحظة التّاريخيّة وفي مستوى الرّؤية الإصلاحيّة وواعيا بمهمته، وإذا كانت أجهزة الالتقاط لديه مشغّلة ودقيقة الإحساس تستشعر  شروط الانبعاث التي يبعثها الوجود، فليس هناك ما سيحول بين الذّات وصلاحها ويمنع شهودها الحضاري.
الركن الثاني: الرؤية المحفزة
وأمّا الرّكن الثّاني في الإصلاح فهو الفكرة الإصلاحيّة أو الرّؤية التي يقوم عليها الإصلاح، لأنّ الإصلاح لا ينطلق من فراغ ولا من مجرّد نزوة تنتاب فردا من أفراد المجتمع أو تنتاب الجماعة نفسها، بل هو حاجة قاهرة يستشعرها المجتمع وينهض لتحقيقها في ضوء رؤية فكرة إصلاحيّة وروح قادرة على تحريك وعي الجماعة وتحريك همتها، وإذا لم تكن هذه الرّوح قد تمكّنت من المصلح/ الجماعة حتّى صارت همّا يؤثث جميع لحظات حياتها، فلن يعدو الإصلاح أن يكون صيحة في واد سحيق فحسب. الوعي الجماعي طاقة لا حدود لها إذا تلمّست حاجتها الماسّة إلى الإصلاح والصّلاح، ولذلك فإنّ الجماعة المصلحة وهي تتحدّث نيابة عن المجتمع كلّه وتتحرّك، لابدّ وأن تتحسّس حاجتها وتعي عمق الحاجة وتستوعب كلّ أبعادها، لكنّها قبل ذلك تظلّ شديدة الارتباط بالحافز المحرّك، وهذا الحافز هو حاجة المجتمع الملحّة ورغبته الجامحة في القيام والنّهوض والاحياء والانبعاث من جديد. وقد يكون الفكر موجودا أو وجد ولأسباب موضوعيّة وتاريخيّة دخل في حالة كمون واستتر ينتظر من يميط اللّثام عنه، وينتظر العقليّة/العقليّات الفذّة التي تعيد مده بالحيويّة اللاّزمة لتنطلق به الجماعة المصلحة نحو الآفاق الحضاريّة المشرقة بكلّ ما أوتيت من نضج فكري واتقاد ذهني. 
يعاني عالم المسلمين أزمة الشّهود الحضاري منذ زمن طويل رغم محاولات الانبعاث المتكرّرة منذ بداية القرن 19، التي دعا إليها عدد من الأعلام العلماء الذين انتبهوا بنباهتهم وحصافة عقلهم لما كانت تمرّ به اللّحظة التّاريخيّة من أزمة تمثّلت في عجز الأمّة بمختلف أقطارها عن مواكبة التّحوّلات الكبرى، التي كان يعرفها الواقع والتي كان من نتائجها المباشرة طمع الغرماء والطّامعين في عالم المسلمين وفي خيراته، فانطلق هؤلاء الأفذاذ ينشرون أريج الإصلاح اشتياقا إلى تحرير رقبة الوعي الجمعي من قيد التّخلف والانحطاط وتوقّف الشّهود الحضاري على النّاس وانحصار ملكة الإبداع، فانطلقت أقلام بعضهم وأصواتهم تلهج بخطاب التّجديد في الفكر والرّؤية، فكانت الاستجابة متفاوتة والتّوفيق دون التّطلّعات والطّموح في الغالب. لكنّ هذه الصّورة المؤسفة لا ينبغي أن تفهم على أنّ شيئا لم يتحقّق لأنّ الإصلاح ممارسة طويلة تحتاج إلى صبر وقوّة الإرادة ونفي اليأس من قاموس المبادرة، ولا شكّ أنّ شمس هذا الجهد ستشرق في يوم من الأيام. ويجدر الذّكر في هذا المقام أنّ عالم المسلمين كلّه عرف هذه الحملة، حين تبلورت فيها صدمة الاكتشاف على فترات متقاربة، وعاش على إيقاع هذه الحملة بنسب مختلفة وأوجه مختلفة حسب خصوصيّات كلّ قطر على حدة، وهذا واقع لعمري معقول ومفهوم.
الركن الثالث: اللّحظة التّاريخيّة 
أمّا الرّكن الثّالث فهو اللّحظة التّاريخيّة، والمقصود بها تلك النّقطة الزّمنيّة واللّحظة المفصليّة في تاريخ الإنسانيّة كلّها أو في تاريخ أمّة من الأمم أو شعب من الشّعوب، والتي تحتاج إلى قوّة استشعار كبيرة تستطيع تلمّس خصوصيّات اللّحظة وحقيقة التّحوّلات المستجدّة والاستعداد لذلك بما يجب، وقد تكون اللّحظة التّاريخيّة منذرة كما يمكن أن تكون مبشّرة؛ منذرة بتوقّف شهود حضاري أو عجز ذات عن الوفاء بدورها الحضاري ودورها الأخلاقي والتّأثير في مسار الحدث الحضاري وإبداع ما يجب ليضاف إلى المنجز الحضاري العام والخاصّ. وقد تكون اللّحظة التّاريخيّة مبّشرة بتحوّل كبير يقتضي أن تكون فيه الذّات في مستوى التّحوّلات وتكون في مستوى الفرصة التي يقدّمها الواقع بما يجب من الشّروط اللاّزمة لمواكبة التّحوّلات رؤيويّا وفكريّا وعلى الخصوص ما يلزم من تحوّل في نمط الوعي.
 كلّ ذلك يفترض فيه أن تكون الذّات مستعدّة بل مهيأة لاستقبال التّحوّلات استقبالا إيجابيّا، مع القدرة الكاملة على استشعار أهمّية المرحلة التّاريخيّة واللّحظة التّاريخيّة والاستعداد لها بما يجب من وعي وفكر ورؤية محرّكة وموجّهة، بعبارة أخرى من أجل استغلال إيجابي للحظة التّاريخيّة يتوجّب على الذّات أن تتمثّل بالعمق خلفيّتها الفكريّة والرّؤيويّة والثّقافيّة المحرّكة، وهي في الغالب لن تخرج عن منظومة قيم أخلاقيّة تستجلب جوهر هذه القيم في المقام الأول، أو بكلام آخر تكون مدعوّة للتّفاعل مع القيم والأخلاق في بعدها الإيجابي.
 اللّحظة التّاريخيّة الرّاهنة تفرض على الذّات الوقوف وقفة تأمّل في كلّ مجريات الواقع وأحداثه، وقد تتعدّد المقاربات والتّحليلات  بخصوص طبيعة اللّحظة التّاريخيّة، لكن على الذّات أن تدرك أنّ العالم أصبح أو يكاد يصبح كيانا واحدا  بفعل عوامل كثيرة أهمّها التّطوّر العلمي والصّناعي الكبيرين اللّذين رفعا من أهمّية وقيمة وسائل التّواصل الاجتماعي التي كسّرت الحدود المعنويّة وتجاوزتها وأتبعتها الحدود المادّية، فعلى من يحمل همّ الإصلاح ويريد الاشتغال به أخذ هذه الحقيقة بعين النّظر والاعتبار، فالتّفكير في الإصلاح من زاوية قطريّة مجرّد منظار صغير قد يظهر الأوضاع على غير حقيقتها وغير مكتملة، ويظلّ الجزء الأكبر من الصّورة محجوبا عن الرّؤية والنّظر، فهذا المنظار لا ينبغي له الاقتصار في رؤيته على الحيز القطري، بل ينبغي النّظر من خلاله للعالم كلّه ولأزمته وأن تكون عدسة مناظره واسعة تستوعب أزمة الإنسانيّة كلّها والواقع الإنساني برمته، قد تكون أزمة الذّات في واقعها تتّصف بخصوصيّات محليّة وقطريّة، لكنّ هذا الحال لا ينبغي أن يغيب عن الذّهن أنّ هذا الواقع وهذا البعد القطري مشدود وعلى اتصال مباشر وغير مباشر مع العالم ومجرياته وما يلحق العالم من تحوّلات وتغيّرات تلحق القطر وما يدخل في دائرته.
أزمة العالم اليوم ليست أزمة قلّة إمكانات ولا أزمة تطوّر علمي أو صناعي، وقد يكون الاستئثار بهذه المجالات تسبّب ويتسبّب في العديد من المشكلات كالتّخلف والفقر والصّراعات ومشاكل البيئة وغيرها، لكنّ عمق الأزمة في النّهاية متّصل بالقيم. وبكلام آخر إنّ عمق الأزمة في اللّحظة التّاريخيّة الرّاهنة أخلاقي في المقام الأعلى، ولا سبيل إلى إصلاح الحال بدون ثورة أخلاقيّة عامّة تنطلق من الذّات بتمثّل منظومة القيم الذّاتية، والتي تعتبر هنا منظومة شرعيّة لأنّها من مصدر مفارق، وهي تستحقّ صفة القيم الشّرعيّة، لأنّها موصولة بالسّماء منذ آدم عليه السّلام إلى محمد ﷺ. وعلى كّل من ينتمي لهذه المنظومة ولهذه القيم الحرص على تمثّلها حقّ التّمثّل لذاتها، وعدم ربطها بأيّ غاية أخرى أو أهداف خارج الأخلاقي، وعدم وصلها بغايات سياسيّة أو أيديولوجيّة أو اقتصاديّة أو بغايات مادّية أو دنيويّة. ينبغي أن تكون هذه الثّورة خالصة مخلصة لمن خلقها، لأنّها كائن حيّ لها حاجات ومتطلّبات وهي تتغذّى بما يقدّمه لها أرقى مخلوقات الوجود من أسباب التّفاعل الإيجابي وهذا الوجود، وإذا حصل ذلك حوّلت هذه القيم عالم الشّهود إلى علامات تدّل عليها. قد يعتبر البعض هذه القيم قيما كونيّة وهي كذلك إذا كانت بهذه الأبعاد، تحقّق جوهر القيم الشّرعيّة فهي منها.