في التاريخ السياسي

بقلم
د.عبدالقادر السوداني
الزعامات الثورية بتونس خلال القرنين 18 و 19
 مقدّمة
في أعتاب هذا الطّور الجديد من تاريخ البلاد التّونسيّة، لمسنا إسهابا في الحديث عن الثّورة والاحتفاء بالزّعامات الثّورية، فبعض الآراء لم تلق بالا إلى دقّة المصطلحات، فجاءت طافحة بالتّوقعات الخاطئة، والتّسليم بكلّية الظّاهرة الاجتماعيّة. فالحديث عن الثّورة كان أساسا كمعطى تخميني لا كمدرك حسّي. وهنا رشحت على سطح الأحداث جملة من الأسئلة : هل شهدت البلاد التّونسيّة ثورات منذ القرن 19حتى وقتنا الحالي، والى أيّ مدى أفرزت الحركات الاحتجاجيّة زعامات ثوريّة ؟
-1 خصائص الفعل الثّوري في تونس 
ما من بدّ أنّ كلّ حركة اجتماعيّة تفرز قيادات تعكس طبيعة المحتجّين، فالزّعامات هي نتاج البيئة الاجتماعيّة التي أطلقتها، فغمار من النّاس حملوا فكرا ثوريّا في سياق موجات احتجاجيّة مطلبيّة، فكان الانفصال بين الفعل الثّوري وبين المطالب الإصلاحيّة لغياب سوسيولوجيا ثوريّة في تونس، لأنّ الذّهنية المحلّية ذهنيّة كابحة للثّورة، فتهافتت بذلك بعض الآراء المشوبة بالخطل التّقويمي حول الزّعامات الثّوريّة.
إنّ أبرز ما يسم «الثّورة» التي قامت بتونس هو غياب زعامات تقودها، فالزّعامة معنى حاف بالقيادة والكاريزما، فكان الفعل جماعيّا والذي عكس شروخا في الأرضيّة الفكريّة بين جيلين: جيل قوّض الإيدولوجيا الثّابتة بجبريّة طاعة السّلطة، بعد أن تشرّب بمنظومة قيم كالحرّية والعدالة الاجتماعيّة من جهة، وبين إقطاعيّة سياسيّة وفكريّة مترهّلة، لا تكاد تلاحق سرعة التّطوّرات الحضاريّة من جهة أخرى، فرض هذا الحدث التّاريخي العودة إلى الثّورة والزّعامات الثّورية في الفترة الحديثة من تاريخ البلاد التّونسيّة.
إذا أخذنا «حامد بن شريفة» كمثال للثّورات المحلّية، فهو من عيون أولاد مساهل الذين رفضوا دفع الخطايا المسلّطة من قبل «حمودة باشا» بعد صراعهم المتكرّر مع الهمامة والفراشيش، وتكفّل شيخ أولاد مساهل «حامد بن شريفة» برفض الشّطط الضّريبي للبلاط الحسيني سنة 1795م، فتحوّل بذلك من عون مخزني إلى رجل بارود، ثمّ سريعا ما تمّ اقتياد هذا «العريبي» إلى زنزانة باردو مجرّدا من الثّياب، وتمّ إخلاء بعض من عصاة أولاد مساهل نحو القيروان والكاف، واستخلصت الدّولة ضرائبها، ولم يتناد بقيّة السّكان إلى هذه الحركة الاحتجاجيّة.
أمّا المثال الثّاني فهو «فرج بن دحر» الذي كان أحد وجوه تمرّد سنة 1864م، وكان يشتغل كقايد شرطيّة رياح وصاحب ثروة، أصر ّعلى تحقيق مطالب السّكان المتماهية مع مشاغله الخاصّة التي تعرّضت للتّهديد بعد الموجة الإصلاحيّة، والتي أردته خارج الهيكلة السّياسيّة الجديدة، ورغم إصراره على تحقيق مطالب التّشكيلات الاجتماعيّة المتمرّدة، فقد انتهى به المآل طريدا في جهة الهمامة، أين أقتيد إلى الحاضرة. في نفس السّياق لم يتمكّن تمرّد 1864م من تجسيد المطالب الثّوريّة نتيجة عدم ثوريّة الكيانات المحلّية الضّيقة، وانحلال رباط زعاماتها. 
ما يمكن استخلاصه بشأن هذه الأمثلة أنّ أغلب «الزّعامات الثّوريّة» قد انطلقت من رحم السّلطة، في حركات محلّية متموّجة، لم تستبطن تغيير الواقع جذريّا، واقتصرت طلباتها على الاستجابة للحاجات الأساسيّة والمنافحة على الخصوصيّة القبليّة الآخذة في التّحلّل، كما أنّ بعض المطالب الثّوريّة لم يواكبها فعل وخطّ ثوري جرّاء قصور القيادات عن تسخير كلّ الجماهير لصيانة مطالبها.
الزّعماء هم ذات حمالة للذّهنيّة الجماعيّة، فالحراك الشّعبي في تونس كان شديد التّواتر، لكنّه كان حراكا أفقيّا لم يستطع القطع مع كلّيّة المنظومة السّياسيّة، وسكونية البنية الاجتماعيّة القائمة، ممّا منع خلق صورة مثاليّة للزّعيم الثّوري، فالوسالتيّة مثلا بقوا بؤرة لأهمّ مراكـز التّشويـش والانفــلات السّياسي، وتواصل اعتناقهم للنّظام القيمي الثّوري حتّى 1762م، ومع ذلك عجزوا عن خلق قامة ثوريّة أهليّة، بل التفوا دائما على قيادات خارجيّة.
-2 أسباب عدم بروز زعامات ثوريّة 
لم تتمكّن الثّقافة الشّعبيّة من خلق نموذجها الثّوري، ويعزى غياب هذا النّموذج خلال القرنين 18 و19 إلى المعطى الإثني للمرفولوجيا الاجتماعيّة الذي حال دون إندلاع ثورة اجتماعيّة، فالمجتمع التّونسي لا يربطه إخاء ورباط واحد، فالتّكوينيّة المتعدّدة والهويّة الملوّنة، سمحت ببروز فجوات سكّانيّة وذهنيّة أعاقت وحدة الثّائرين، وحرمتهم أسباب التّجدّد والدّيمومة. 
فأغلب الحركات الاحتجاجيّة ليس لها أيّ أرضيّة أو أفق إيديولوجي، يشحذ الثّورة، ويوحّد الإنفصالات المجاليّة والذّهنيّة، فطغت سيكولوجيا محلّية تنزع نحو الاكتفاء بذاتها عند الأزمات. كما أنّ غياب المنظومات التّيومقراطيّة في التّاريخ الحديث للبلاد التّونسيّة منع بروز فكرة الزّعيم الأوحد الخارق، ذي الرّافعة القدسيّة، القادر على تجييش سكّـان البلاد، فغابت بذلك نوابض الإنتفاضات، وشهدنا زواجا كاثولوكيّا بين الوضع المعيشي والأزمات الاجتماعيّة.
حافظت السّلطة المركزيّة في تونس على رصيدها من الرّدع، وأعدمت كلّ الحركات المناوئة للحكم المركزي، بفضل قوّة الماكينة الرّدعيّة للبلاط الحسيني، كما أنّ بنية السّلطة سمحت بنشوء حراك تراتبيّ حولها امتصّ السّخط على أداء الحكم، وخلق سلط محليّة رخوة تسمح بهامش من المعارضة وخاصّة من الفئات القبليّة التي بقيت تنافح عن عالم قبلي مهتزّ، ولم يرق الوعي الجمعي الى حدّ تقويض النّظام السّياسي القائم، لأنّ طبيعة المنظومة القبليّة تجعلها تقبل الارتهان إلى سلطة خارجيّة مغايرة.
أدّت جملة هذه العوامل إلى نجاح سياسة الإخصاء السّياسي، وتواصل الانقطاعات الذّهنيّة بين مكوّنات المجتمع، منع بروز زعامات قطريّة قادرة على قيادة المجتمع .
الخاتمة 
عرفــت البــلاد التّونسيــة خـلال القرنين 18و19 زخمـا من الحركــات الاحتجاجيّــة، لكن توفّر عدّة ضوابط لإندفاعات الجماهير، جعل الحركات الاجتماعيّـة مجـرّد صراع جدليّ بين من يســوس ومن يطيــع، وتصادمــا بين طوباويّة المثــال السّياسي وبراغماتيّة الممارسـة السّياسيّـة، ولكن اللاّفت أنّ البلاد التّونسيّـة لم تستطع أن تهيكل الحركات السّكانيّة من منزلة التّمرّد والانتفاضة إلى الرّقي بها إلى درجـة الثّورة، وساهم غياب الزّعامات الثّوريّة إلى تسريع وتيرة الإنهيار، لغياب جبهة مضادّة للسّلطة السّياسيّـة، وعدم تكريس الإصلاحات الجذريّة، فبقيت هذه الحركات الاحتجاجيّة صرخة في واد سحيق.