نقاط على الحروف

بقلم
د.سالم العيادي
فكرةُ الثَّورة التونسيَّة
 الأمرُ الّذي كان في الوقت ذاته مكمنَ قوّةِ الثّورة وضعفِها، وسرَّ وضوحِها السّاطع ولبسِها الصَّارخ، هو أنَّها لم تكن ثورةً من منطلقٍ نظريٍّ محدَّدٍ ولا بقيادةٍ ثوريَّةٍ موحَّدة. كانت الثَّورةُ التّونسيَّة «حدثًا» بالمعنى الفلسفيِّ العميق للمفهوم. وهي «حدثٌ» في صلبِ التّاريخ المحلِّيِّ الخاصِّ عربيًّا وإسلاميًّا بحكم تربتها وبيئتها، وفي أفق التّاريخ المعموريِّ الكونيّ بحكم القيم الكونيَّة الّتي نادت بها (الحريَّة، العدالة، الكرامة). والحدثُ التّاريخيُّ هو إجمالاً صيرورةٌ إنسانيَّةٌ في حدود ما هو إنسانيّ من حيث النُّبلُ والطّابع البطوليُّ من ناحية، ومن حيث ضروبُ الهشاشةِ وأشكالُ التردُّدِ، من ناحية أخرى.
وفي منعطفات هذا المسارِ ودروبه المختلفة يستكشف الجميعُ أنفسَهم من جديد، ويطرحون مجدَّدًا كلَّ الأسئلة الحارقة المتعلِّقة بقيمهم ومعاني الانتساب إلى الوطن والعالم خارج كلِّ المسلّمات الزّائفة والبديهيّات الخدَّاعة الّتي استحكمت بهم لعقودٍ، بل ولِقُرونٍ. وهذا الأمرُ نجد له صدى في كلِّ السِّجالات والمجادلات الّتي صارت تطبع كلَّ نقاشٍ عموميٍّ حول «المشترك». وذلك لأنَّ الثَّورة هي في جوهرها الحضاريِّ والسّياسيِّ انعتاقٌ يطلب الحريَّة والكرامة. وهي تعمل بحكم تلك الغاية على هدمِ واقعٍ صار مأزومًا على جميع الأصعدة، وعلى تقويضِ نظامٍ سائدٍ والتَّأسيسِ لنظامٍ بديلٍ. 
وإنَّ الواقع المأزوم الّذي تُسقِط الثَّورةُ نظامَه وآليَّات انتظامه وعواملَ ديمومتِه، هو بشكلٍ من الأشكال نظامُ «مشتركٍ» انتظم ودام بسبب حماية الدَّولة له، وإنْ كان هذا المشترك عِبْئًا ثقيلا على الجميع من جهة كونه تحمّلا جماعيًّا للفقر والتّهميش والاضطهاد والتّفاوت الصّارخ في الامتيازات والحظوظ... هذا المشترك الّذي فرضه النّظام الدّيكتاتوريّ ونظام العصابات النّاهبة و«لوبيَّات» المصالح والنُّفوذ، ما كان له أن يدوم لوْ لمْ تعمل الدَّولة على إسناده بثقافةٍ مستكينةٍ انتهازيَّةٍ وبفكرٍ تبريريٍّ رخيصٍ كـبَّلا وعيَ النّاس بأوهامٍ ألبساها لبوسَ المسلَّمات والبديهيَّات غير القابلة للنّقاش. ولن يقدر الشّعبُ التّونسيُّ على بناء «مشترك موجِبٍ» ما لم يفكِّك تمام التّفكيك ذلك «المشترك السّالب» الّذي حكم عصور الانحطاط والاحتلال والدّيكتاتوريَّة، وكرَّس بنيةً من الأوهام عطَّلت كلَّ أشكال النُّهوض مادِّيًّا وروحيًّا. 
نحن إذن داخل مسارٍ تاريخيٍّ افتتحه «حدث» الثّورة في صيغةٍ مخصوصةٍ هي صيغة «الإطاحة بـ» الّتي ردَّدها المنتفضون شعارًا لحراكهم: «الشّعب يريد إسقاط النّظام». ومن فضائل الثَّورة التّونسيَّة أنَّ «الإرادة المطلقة» الّتي عبَّرت عن نفسها في شكلِ غضبٍ جماعيٍّ لم تكن مصحوبةً بـ «عقلٍ مطلقٍ» (النَّظريَّة) ولا منسوبةً لـ «قيادة مطلقة» (القائد أو الزَّعيم). نحن إزاء حدثٍ أو فعلٍ مفرغٍ تمام الإفراغ من «المطلقات» فوق- التّاريخيَّة مهما كان منبتُها وشكلُها. فالثّورة التّونسيَّة بهذا المعنى فعلٌ في التّاريخ بأدوات التّاريخ ذاته: تلك هي الخاصّيَّة الأساسيَّة للثّورة التّونسيَّة. ولذلك هي متعثِّرة رغمَ قوَّتها، ومسدَّدة رغم ضعفها.
أمَّا ما يرهق الثّورة ويهدِّدها باستمرارٍ فهو الميل الجارف - عند القصوويِّين - إلى تحريف الثَّورة بمحاولةِ ضبط حركتها داخل مقولات «المطلق». وأنا أذهب إلى أنَّ المكسب الجوهريّ الّذي تحقَّق للشعب التونسيّ إنَّما هو «الصيرورة- شعبا» بما تعنيه تلك الصَّيرورة من حركة في فضاءٍ نسبيٍّ هو فضاء الإنسان فردًا كان (مواطنًا) أو جماعةً (الشَّعب): لقد صرنا «شعبًا» بالمعنى الفلسفيّ السِّياسيّ الّذي بُنيَ عليه صرحُ الحداثة السّياسيَّة. وكلُّ مقولات المطلق تقلقها هذه الصّيرورةُ بالذّات، وذلك لأنَّ التّشكُّل السّياسيَّ للمشروعيَّة صار يحدث الآن في حركيَّة الرَّأي العام وفي فضاءٍ عموميٍّ مفتوحٍ.  
وما برهن عليه الشّعب التّونسيّ في «صيرورته- شعبًا» يكمن في الأمر التّالي: الثَّورةُ ممكنة داخل عالمنا العربيّ الإسلاميّ. وفي تقديري أنَّ التّحقّق الفعلي لإمكان الثَّورة مشروط بصيرورة أخرى هي الآن موطنُ كلِّ الصّراعات والتَّجاذبات داخليَّا وخارجيًّا، وهي «صيرورتُنا- دولةً». ثَّمة شيءٌ من عدم التّساوق التّاريخيِّ بين الصّيرورة- شعبا (فضلُ الشّعب على النُّخب السّياسيَّة: القدرة الغضبيَّة على إسقاط النّظام) والصّيرورة- دولةً (تقصير النّخب السّياسيَّة في حقّ الشَّعب: العجز عن البناء العقلانيّ لنظام بديل). 
وإذْ كان حدثُ الثّورة حدثَ انبلاجٍ لنورٍ جديدٍ، وكان كلُّ انبلاجٍ إعلانًا عن ميلاد يوم جديد، وكان مدارُ اليوم هو العمل، فإنَّ الثّورة لا تبلغ قصدها إلاَّ بالعمل وفيه. وهذا ما لم ننتبه إليه بَعْدُ بسبب التّأويل الغنائميّ للثَّورة، والتَّنازع حول ما اعتبره الجميعُ «مكاسب» أو «ثمارًا». وحين يتفطَّن التّونسيُّ إلى أنَّ الثّورةَ في ذاتها هي «المكسب» سينصرف إلى العملِ والإنتاج بناءً للوطن ونهوضًا به. إنَّ تكريسَ الجهد الفرديِّ والجماعيِّ في العمل يقتضي تحويل الوجهة والقبلة من السُّؤال عن مكاسب الثَّورة إلى الانخراط الفعليِّ في الثَّورة بوصفها مكسبًا في ذاته.  
فالعمل هو في تقديري أداة الفعل الثوريِّ في بعده الموجِب. وليس المقصود هو مجرَّد الإنتاج وتنمية الثّروة فقط، وإنَّما المقصود أيضًا هو بناء أرضيَّة جديدة للمشترك الوطنيّ، وما يتطلَّبُه ذلك البناءُ من تغييرٍ جذريٍّ للمناخ الثّقافيِّ ولسلَّم القيم. فالعمل هو المجال الحيويّ الأساسيّ للتّعاون والعطاء، وهو أساس القيمة في مجتمعٍ ينهض بذاته من جديد. وما لم تتطوَّر في فضائنا القيميِّ والرُّوحيِّ فلسفةٌ واضحةٌ في العمل، فإنَّ الثَّورة ستظلّ عرجاء ومهدَّدة بالسُّقوط دائما.  
ولهذا السَّبب علينا أن نعمِّق النَّظر في هذا السُّؤالِ المحوريِّ: ما الّذي ينقصنا حتَّى تتشكَّل عندنا حداثتُنا الخاصَّة في أبعادها المختلفة وبعيدًا عن كلِّ أشكال التّحديث الفوقيِّ القسريِّ؟ فكلَّما تعطَّل المسارُ وتعثَّرت الخطى في تحقيق الأهداف والاستجابة للتطلّعات، عاد السُّؤال مُلِحًّا من جديد: ما الشَّيء الّذي نفتقده الآن؟
كلُّ النّقائص والانتكاسات في مجالات التّنمية الاقتصاديَّة والعدالة الاجتماعيَّة، وكلُّ الانهيارات الّتي مسَّت العديد من القطاعات، وكلُّ أشكال العبثيَّة والابتذال الّتي صارت السِّمةَ الغالبة للّحظة الرَّاهنة...كلُّ هذا يمكن اعتباره ورشات مفتوحة تتطلَّب تدخُّلا عاجلا لـ «فنٍّ» أو لـ «صناعةٍ»: هو فنُّ إدارة الشّأن العام والصّناعة السّياسيَّة. وهذا الفنُّ / الصِّناعة لا يتمثَّل فقط في القدرة على الحوار وتوسيع المشتركات، وإنَّما يتعيَّن أيضًا في ضربٍ من الاقتدار الجسور، هو القدرة على القرار وامتلاك القوَّة لإنفاذه. 
غير أنَّ القدرة والقوَّة لا تُستمَدُّ من الوسائل والأدوات فقط: فذاك هو شأن الشّموليَّة الاستبداديَّة. وإنَّما تُستَمدُّ القوَّةُ أيضًا من المقاصد والغايات، وذاك هو شأن الاجتماع المدنيِّ الفاضل. فما ينقصنا، ويشعر جميعُنا بافتقاده الآن، إنَّما هو «الفكرة»: أيْ شيءٌ مَّا يتشكَّل في وعي الجميع ووجدانهم وخطابهم وفي إرادتهم وعزمهم، شيءٌ مَّا يتعيَّن في مُهْجَتِهم كـ «حلمٍ» أو «أملٍ» أو «مشروعٍ» يمكن الصَّبرُ والتّضحية لأجله: مشروعٌ جامعٌ يلتفُّ الكلُّ حوله.
نعم! ليس لدينا بعْدُ مشروعٌ لهذا الوطن، ولا فكرةٌ لهذه الدَّولة، ولا «حلمٌ» لهذا الشَّعب. ولا يتعلَّق الأمر في تقديري بفكرةٍ أو رجاءٍ نأتي به من خارج السِّياسةِ، وإنَّما الأمرُ سياسيٌّ رأسًا: أن نمتلك «الفنَّ الأسمى» أو «الصِّناعة العليا» الّتي هي السّياسة. وليس هذا الفنُّ عبقريَّةَ شخصٍ، ولا هو إلهامُ قائدٍ، وإنَّما هو «روح» الشَّعب: فإذا صحَّ القولُ بأنَّ السّياسةَ عندنا قد أفلست، فذلك يعني أنَّ عطبًا مَّا قد أصاب «روح» الشَّعبِ ذاته. ومن يريد القفز على السّياسة فهو إمَّا يقفز إلى ما دون السِّياسة (ما دون الدَّولة: القبائل، والعشائر، والطّوائف...) أو يقفز إلى ما فوق السِّياسة (ما فوق الدَّولة: التّألُّه، والحكم المطلق). فهل صحيح أنَّ السّياسةَ أفلست؟ وإلى أيِّ مدى؟
لا يمكن المجازفةُ بالقول إنَّنا صرنا شعبًا دون روح، بل إنَّ الثَّورة انبعاثٌ للرُّوح من جديد. ولا يمكن المجازفةُ أيضًا بتسليم الدَّولة إلى «اللاَّ- سياسة»: فهذا مدخلٌ إلى الخراب. بل إنَّ اللّحظة الرَّاهنة في سيـاق الثَّـورة لحظـةٌ سياسيَّـة بامتياز ممَّا يجعـل «اللاَّ- سياسويَّة» ضربًا من خيانةِ الثَّورة والالتفافِ عليها. 
المجازفةُ الحصيفةُ والمتعقِّلةُ الآن وعلى نحوٍ ملحٍّ، هي المجازفةُ بإعلانِ فكرةٍ مِن طينةِ هذه الأرض ومن روح هذا الشَّعب. وهذه المهمَّة ليست مقصورة على السياسيِّين من حيث هم «محترفو سياسة» و»منتسبو أحزاب»، بل هي مهمَّةُ كلِّ السّياسيِّين بالمعنى الرَّفيع لمفهوم السّياسة بوصفها «الصّناعة العليا» القادرة على تشكيل العمران البشريِّ. ويدخُل في «ما- صدق» هذا المفهـوم الشّامـل لـ «صناعة المدن» المثقّفُ والمفكِّرُ والجامعيُّ والفنَّانُ. وكلُّ السّياسيِّين بهذا المعنى مسؤولون عن ضياع «الفكرة» وغياب «الرُّوح». 
فكرةُ تونس الّتي ينبغي إعلانُها الآن دون مواربة ولا تردُّد، هي أنَّنا دولة دون فكرة. وينبغي علينا جميعا أن نحفر عميقا في روح الشَّعب وفي سياقه التّاريخيّ حتَّى تتخلَّق تلك الفكرة. والمراهن على المؤسَّسات في هذا الشّأن كالمراهن على الفراغ: إذ الرّهان رهانُ إرادات حرَّة تجترح المعنى، لا رهان مؤسَّساتِ سلطةٍ تغتال المعنى. وحين تتشكَّل تلك الفكرةُ ستتفتَّق كلُّ طاقات العمل وستتحرَّر كلُّ المبادرات. ولكن ما الّذي يعطِّل تشكُّل هذا الوطن- الدَّولة في عالم الفكر والمفهوم؟
يمكن إجمال الأسباب المعطِّلة لظهور الفكرة التّونسيَّة في سياق الحدث الثَّوريِّ بوصفه حدثًا حضاريًّا سياسيًّا في هذه الملاحظات التأليفيَّة:
أ- شكلانيَّة المسار التّأسيسيِّ الّذي أفرز دستور الجمهوريَّة الثانيَّة. وأعني بالشّكلانيَّة استئثار العقل الدّستوريّ بالتَّأسيس واستبعاد العقل الحضاريِّ ذي الأبعاد المضمونيَّةِ والعقل الفلسفيِّ المبدع للإشكال والقادر على نحت المفهوم. فنحن لم نعتن بَعْدُ بصياغة إشكاليَّة الثّورة عندنا، ولا بتحديد مفاهيمها الأساسيَّة. ونحن أيضًا عاجزون عن امتلاك الرّؤية الحضاريَّة الشّاملة لهذا الحدث.
ب- تفاهة النّقاش العموميّ والابتذال في مقاربة المسائل. وذلك لأنَّ الفضاء العموميّ قد اختطفته آلةٌ رهيبة، هي آلة الإعلام. وكان تضخُّم الفضاء الإعلاميّ على حساب الفضاء المجتمعيّ الجمعيَّاتي الّذي ظلّ إلى اليوم عاجزًا أمام قوّة المال- الإعلام عن خلق مساحاته الخاصَّة لحوارٍ رصينٍ وعميقٍ ومثمرٍ.
ج- اللاَّ- سياسة داخل المجتمع السياسيِّ وفي قلبِ الدَّولة ذاتها. فمن شأن المجتمع المدنيّ والمنظّمات وحقل الثّقافة والفنون ألاَّ يكون «سياسيًّا». ومن شأن المجتمع السّياسيّ في مقابل ذلك أن يكون سياسيًّا رأْسًا. وإدارة الدَّولة ليست مهمَّةً إداريَّةً أو تكنوقراطيَّةً أو مهمَّة خبراء محايدين. وإنَّما تُدار الدَّولة بعقلٍ سياسيٍّ متمرِّسٍ ومنخرطٍ في مشروعٍ واضحٍ للحكم. وهذا ما لم يتحقّق في هذا العقد من عمر الثَّورة. فالمجتمع السياسيُّ صار رهين مواقع النّفوذ الماليَّة والإعلاميَّة داخليًّا وخارجيًّا.
د- الشّعبويَّة بما هي استثمارٌ رخيصٌ في تطلّعات الشّعب ومطالبه. فالشّعبويَّة حوَّلت كلَّ التطلّعات إلى مجرَّد مادَّة لوعود انتخابيَّة خدَّاعة، أو مادَّة لمزايدات رخيصة. كما أنَّ الشّعبويَّة تغازل الأهواء وتستثير الانفعالات، فيتعطّل بذلك بناءُ العقولِ وشحذ الهمم.
يمكن القول إجمالا إنَّ الشّكلانيَّة والتَّفاهة واللاَّسياسة والشَّعبويَّة، هي أكثر العوامل المفسِّرة للعجز الفادح عن تشكيل فكرة تونس- الثَّورة. وحين ينصرفُ الرُّوح الجمعيُّ إلى استحضار المضامين الحضاريَّة، وإلى السُّؤال الجدِّيِّ عن المعاني والقيم، وإلى السّياسة بما هي «الصناعة الأسمى» وفنُّ العمران البشريّ، وإلى بناء العقل بعيدًا عن الأهواء والانفعالات، ستنبثق الفكرةُ التّاريخيَّة للثَّورة التّونسيَّة بوصفها حدثًا محليًّا منفتحًا على الأفق المعموريِّ. وبانبثاق هذه الفكرة تُشحذ كلُّ الهمم للعمل والتعاون والعطاء. 
ففيم تتمثَّل الفكرةُ التاريخيَّة للثَّورة التونسيَّة؟ ذاك هو الإشكــالُ الأساسيُّ للفكر التونسيِّ اليــوم. وما لم يعتن الفكرُ التونسيُّ بهذا الإشكال ستضيع الثورةُ وتتفكّك عرى المجتمع والدَّولة.