شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
مارتن لينجز
 وُلِد «مارتن لينجز» في لانكشاير بإنجلترا في جانفي عام 1909م (1327هـ)، وقضى طفولته الباكرة في الولايات المتحدة الأمريكيّة. نشأ خالي النّفس من أيّة عقيدة يؤمن بها حقّ الإيمان وإن كان يدين بالنّصرانية بالوراثة، شأن أسرته التي لا تعرف عن الدّين شيئًا إلاّ أنّها نصرانيّة بالوراثة.
درس في المدرسة الثانوية في كلية كليفتون، ثم عاد إلى انقلترا لمواصلة دراسته الجامعيّة حيث انضم إلى كلية ماجدالين في جامعة أكسفورد لدراسة اللّغة والأدب الإنجليزي، وقد ظهرت عليه مواهب قياديّة واضحة رفعته إلى موقع رئيس الطّلبة بالجامعة، واهتمّ خلال الفترة الجامعيّة بالتنقيب في كتب التّراث عن الدّيانات المنتشرة في العالم ليتعرّف عليها جميعًا؛ فاستوقفه دين الإسلام كشريعة لها منهاج يتّفق مع المنطق والعقل، وآداب تستسيغها النّفس والوجدان.
سافر بعد ذلك إلى ليتوانيا لتدريس الإنجليزيّة الأنجلوساكسونية وإنجليزية العصر الوسيط، واهتم في الوقت ذاته بالتراث القديم للبلاد من خلال الأغاني الشعبية والشعر. 
في عام 1938 ، ذهب إلى بازل للقاء المفكّر  Schuon (عيسى نورالدّين)، وتحوّل إلى الإسلام وأصبح أحد تلاميذه. بعد العثور على مسار روحي أصيل كان بالنسبة له هو أبرز ما في حياته.وفي عام 1939م سافر إلى مصر لدراسة الإسلام واللّغة العربيّة، وتقلّد منصب مدرّس الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة إلى حدود 1952م حيث اضطرته الظروف  السّائدة في مصر وتصاعد العنف ضد الإنجليز إلى العودة إلى إنجلترا.
 وفي القاهرة، بعد لقائه بالعديد من الصّوفيين التّابعين للطّريقة الشّاذلية، تجلّى في «لينجز» أثر التّدين والتّصوّف، وغيَّر اسمه إلى «أبي بكر سراج الدين»، وصار صديقًا مقربًا للكاتب الفرنسي المسلم الصّوفي عبد الواحد يحيى «رينيه جينو»؛ وكان يشاطره الرأي في نقده القاسي للحضارة الغربيّة. وقد كان لـ «رينيه جينو» تأثير حاسم على فكر «لينجز». وفي هذا يقول: «إن ما أثّر عليَّ وجعلني أهتمّ بالإسلام، هو كتب مؤلِّف كبير كان مثلي اعتنق الإسلام وأصبح من قمم المتصوّفة، إنّه الشّيخ (عبد الواحد يحيى)، لقد تأثّرت بكتبه التي صنّفها عن الإسلام، حتّى إنّني لم أقرأ كتبًا من قبل في مثل عظمة كُتُبِه؛ ممّا دفعني لأن أسعى لمقابلة مَن كان سببًا في إسلامي، فجئت إلى مصر حيث كان يعيش فيها وقتئذ».
ثم يضيف فيقول: «لقد استفدت منه كثيرًا، فقد كان بحق عالمًا عاملاً بعلمه، وأكثر ما تعلّمته منه الزّهد في الدّنيا، وهو ما تسمّونه أنتم (التّصوّف)».
كما يقول: «مفهومي للتّصوف أنه ليس انعزالاً عن الدنيا، ولكنه أخذٌ بأسباب الحياة في الظاهر، والإعراض عنها بالقلب؛ إنّ الرسول محمّدا (صلَّى الله عليه وسلم) لخص معنى التصوف كله في حديثه الشريف: (كُن في الدُّنيا كأنَّك غَريبٌ أو عابرُ سبيلٍ)، أو ما قاله في حديث شريف آخر: (... إنَّما أنا والدنيا كَراكب استظل تحت شجرة ثمَّ راح وتركها). هذا هو مفهوم التصوف الذي تعلمته من الشيخ عبد الواحد يحيى».
لقد استشعر «لينجز» أنه وجد نفسه مع هذا الدّين الذي يتّفق مع فطرته الإنسانيّة، حيث يعبر عن ذلك بقوله: «لقد وجَدتُ في الإسلام ذاتي التي افتقدتها طوال حياتي، وأحسست وقتها أنّي إنسان لأول مرّة، فهو دين يرجع بالإنسان إلى طبيعته، حيث يتفق مع فطرة الإنسان».
كانت العودة إلى لندن عام 1952م، وهناك استكمل «لينجز» دراسته للعربية في كليّة الدراسات الشرقية والأفريقية، وفي عام 1962م حصل على الدّكتوراه وكان موضوعها «الشّيخ أحمد العلوي»، ونشرها في كتابٍ بعنوان «ولي صوفي من القرن العشرين»، كان من أعمق كتبه أثرًا بوصفه منظورًا فريدًا للروحانية الإسلامية من داخلها، واعتُبِرَ «لينجز» أحدَ المؤرخين الأساسيين للصوفية.
عمل «لينجز» عام 1955م بالمتحف البريطاني، حيث عُيِّن أميناً للمخطوطات الشّرقية في المتحف البريطاني ثمّ في المكتبة البريطانيّة، وأصبح مسؤولاً أيضًا عن المخطوطات الشّريفة للقرآن الكريم، الأمر الذي أدَّى إلى لَفْت انتباهه إلى الخطّ القرآني، فأنجز كتابه «الفنّ القرآني في الخطّ والتّذهيب»في عام 1976م. كما قام أيضًا بإخراج فهرسين عن هذه المخطوطات العربيّة، تمّ وضعهما في المتحف البريطاني عام 1959م، والمكتبة البريطانيّة عام 1976م.
نشر «لينجز» قبل رحيله عن مصر عام 1952م، كتابًا بعنوان «كتاب اليقين.. المذهب الصّوفي في الإيمان والكشف والعرفان». وخلال دراسته للحصول على الإجازة في اللّغة العربية، أصدر كتابه ورائعته البليغة «محمد رسول اللّه وحياته» اعتمادًا على أقدم المراجع؛ وذلك عام 1973م، ونال عنه جائزة الرّئيس الباكستاني. كما أصدر بعد عامين كتابا تحت عنوان : «ما هي الصّوفية؟» ثمّ كتابَ: «المعتقدات القديمة والخرافات الحديثة» في عام 1987م، وكتاب «قدّيس صوفيّ من القرن العشرين: الشّيخ أحمد العلوي» في عام 1990م. ونُشِر له كتابان بعد وفاته، الأول : «العودة إلى الرّوح: أسئلة وأجوبة»، وقد قدّم له الأمير البريطاني «ويلز» وذلك في عام 2010م، والثّاني: «السّاعة الحادية عشرة: الأزمة الرّوحيّة للعالم الحديث في ضوء التّقليد والأنبياء» في عام 2015م.
رحل المؤرخ الصّوفي «مارتن لينجز» صباح الثّاني عشر من ماي 2005م(1426هـ)، عن عمر يناهز 96 عامًا، بعد أن ترك لنا خمسة عشر كتابًا والعديد من المقالات القيّمة والعميقة حول الدّين والتصوّف الإسلامي وذلك في مجلة «دراسات في الدّين المقارن».