بهدوء

بقلم
عبدالرحمان بنويس
مدخل إلى تنزيل مناهج التعليم في الظروف الطارئة: كورونا أنموذجا (2) «إشكالية فهم المجتمع للتعليم وتأث
 استهلال:
سبق الحديث في المقال السّابق في مدخل عام عن كيفيّة تنزيل المناهج التّعليميّة في الظّروف الطّارئة، ولعلّ أهمّ مدخل إدراك حقيقة العلم ووظائفه وأهمّيته في الدّين الإسلامي، كونه يمثل الوعاء الشّامل للارتقاء بالذّات والغير؛ ولأهمّية ذلك افتتح الشّرع الحكيم الرّسالة المحمّدية بالقراءة والتّعلّم، وألحّ عليها في منهاجه. وأمّا ثاني المداخل فهو إصلاح الفهم، وإدراك كنهه ابتداء من الأخذ إلى التّطبيق والتّصدير، فالخلل في الفهم سيؤدّي حتما إلى الخلل في التّطبيق، وأمّا ثالث المداخل فهو المعرفة اليقينيّة بالإشكالات التي تحيط بالمساحة المرغوب تنزيل المناهج التعليميّة عليها، وخاصّة أقطاب البنية التّربوية من معلّمين ومتعلّمين وإدارة، وقد بيّنا أنّ الكثير من أمخاخ التّعليم يرون البأس الشّديد في الحجر الصّحي، وبعضهم اعتبره العصا السّحريّة للإصلاح ولقياس مدى نجاعة الأسر في مساعدة الجهة المسؤولة عن القطاع التّعليمي، وأمّا المدخل الرابع، فكلامنا فيه كان مختصرا حول المناهج العامّة المعتمدة في التّربية والتّكوين والتّأهيل، من الاعتماد إمّا على ذات المتعلّم أو المعرفة أو المجتمع، وهي أقطاب ينبغي إدراك حاجاتها ومتطلّباتها ومآلات الاشتغال عليها، دون أن نغفل الغاية من اهتمام الدّول بهذا الثّالوث، إلاّ أنّ ذلك تعتريه إشكالات من قبيل ضعف الصّياغة، وضبابيّة الرّؤية، وهشاشة البنية المعرفيّة لتكوينه.
هل من سبيل إلى التدخل في التفكير المنهجي؟ 
تلحّ الإشكالات المطروحة آنفا أن نفترض بعض الحلول المؤقّتة، التي من شأنها أن تعيننا في كشف الغطاء عن حقيقة التّعامل مع العلم في أزمنة الحسرة، كما أنّ الموضوع بحساسيته وخطورته يفرض علينا القول بأنّ العلم في أغلب أوطاننا العربيّة يعيش حالة دون المستوى، بما في ذلك المنهجيّة التّطبيقيّة في تنزيله وتشكيله بمختلف فروعه في المؤسّسات الحاضنة للتّربية والتّكوين والتّعليم، كما يمكننا أن نفترض أيضا أنّ الدّول التي أعلت قيمة العلم تعيش حالة من الأمن الفكري بنسبة أكبر على حساب مجالات أخرى، وهذا الأمن ساعد المسؤولين في منهجيّة التّعاطي مع المرض الحسّاس «كورونا» بيقظة ووعي(1)، وحزم وثبات، وكأنّ مناهجها ومرافقها التّربويّة لم تتأثّر بهذه الأزمة.
إنّ فلسفة التّفكير هي ما نفتقد إليه، وإن تمّ فبطريقة محدودة أو عدم تجاوز سدود معرفيّة، إنّ التّفكير هو «نشاط ذهني، يقوم به الفرد عند استقبال حواسّه لمثيرات أو أفكار أثناء مواجهته لمواقف وخبرات في حياته اليومية»(2) ، ومن خصائص هذا التّفكير أن يكون قائما على الاستبصار والاستنباط لمشكلات الواقع، وأن يكون قصديّا بلا تشويش ولا تزييف، وأن يرتكز على مهارات المصداقيّة من الاستقراء والتّتبع والتّمحيص والتّقويم والمراجعة، ونعتبره بحقّ من أولى الأولويّات في إدراك الوشائج التي تهمّ المجتمع في قطبيه المعرفيّ والسّلطويّ كما في النّقطة الموالية.
أولا: في إدرك المجتمع لميزان العلاقة بين السلط العلمية التدبيرية
إنّ علاقة المجتمع الواقعيّة بالتّعليم في البنية الفلسفيّة عميقة ومتينة، فالتّعليم تحبك مواده المعرفيّة من أجل نفع المجتمع والتّقدم به خطوات نحو الارتقائيّة، فالارتقاء الحضاري والبناء العمراني هو نتيجة تطبيق عملي للعلم في مجالات المجتمع فكرا وعملا وإصلاحا وصلاحا، ولذلك ربطت الشريعة الإسلامية بين سلطة العلم وسلطة السلطان في كثير من الأحيان، وتعهدت المجتمع بالسمع والطاعة لولاية العلماء والحكام، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ»(3).
وحديث العلماء عن هذه الآية يصبّ في توجيه الخطاب إلى فئتين مهمّتين، هما العلماء والحكام، كما ذهب إلى ذلك المفسّر القرطبي تبعا لقول جمهور المفسّرين(4)، فهما –أي ولاّة الأمور- صلبا المجتمع ومحوره، وبصلاحهما العلمي ينصلح المجتمع، وبفسادهما يفسد المجتمع. وقد عقّب حجة الإسلام الغزالي رحمه اللّه عن قوله تعالى في إحيائه «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(5) قال: رَدَّ حُكْمَهُ فِي الْوَقَائِعِ إِلَى اسْتِنْبَاطِهِمْ وَأَلْحَقَ رُتْبَتَهُمْ بِرُتْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كَشْفِ حُكْمِ اللَّهِ(6)، لذا فإذا كانت أوامرهم ونواهيهم مبنيّة على العلم ودلائله الواقعيّة، ببيان منهاجه تجريدا وتطبيقا إلى المجتمع وإن بشكل نسبي، لأنّ ردّهم هذا سيكون بتلقّي صدروهم بالقَبُول وعقولهم بالقابليّة، والحرص على ذلك بالنّواجذ، ولعلّ صحوات التّاريخ الإسلامي منذ زمن الرّسول ﷺ إلى قرنين من عصرنا هذا حاضرة مجيدة على ذلك.
وعلاقة بالتّفكير المنهجي السّالف الذّكر بالآيات السّابقة يقول الدّكتور محمد أمزيان بأنّ العديد من البلدان تحرص على تنمية وتطوير التّفكير، من خلال حرصها على بناء المناهج الدّراسيّة، وفق مبدأ التّشجيع على اكتساب التّفكير النّقدي، أو التّعبير عن الذّات، أو التّفكير المنطقي... (7) ، ممّا يعني أنّ الاستنباط الوارد في الآية هو نتيجة تفكير مسدّد بالعلم والمعرفة، ومؤيّد بالإدراك الكلّي للواقع، واستحضار هذا الشّرط، يجعل من المخطّط واسع الأفق في الرّبط بين المجتمع والمعرفة.
ثانيا: ضرورة إدراك علاقة الصحة النفسية بالمحيط التربوي والعلمي
الصّحة النّفسيّة في تنزيل أيّ منهج تعليمي من الضّروريّات المهمّة، فهي مؤشّرات دالّة على الأمن والدّافعيّة والقبول والتّفاعل، ولذلك عرّفها المتخصّصون بالقول «سلامة الفرد من المرض النّفسي والعقلي في صوره المختلفة، وعدم ظهور أعراض الاضطرابات السّلوكيّة الحادّة في أفعاله وتصرّفاته» (8) .
وإذا كانت الصّحة النّفسيّة بتلك المؤشّرات والدّلائل العلميّة لتنزيل منهاج معين، فإنّ ذلك يقتضي العمل على الفحص والدّراسة بخبايا النّفسيّة الإنسانيّة وخاصّة في ظروف مشابهة لما نعيشه، بحيث فقدان الثّقة والغلبة السّياسيّة أزّمت من الوضع النّفسي، بل ولصحّة المناهج المشتغِلَة حول اعتبار المتعلّم محور العمليّة التّعليميّة التّعلّيمة، ولذلك تعتبر المدرسة المهتمة بذلك بمثابة «الوسط الذي ينمو فيه التّلاميذ خارج الأسرة، ويمضون فيه أغلب يومهم، وللمدرسة مهمة أوسع من التّعلّم، وهي تكوين شخصية المتعلّم، وإعداده ليكون مواطنا صالحا» (9) .
لكنّ واقعنا في هذا يكاد يكون شبه حاضر، إذ الكلّ يتزيّن بالجهل في صورة العلم، بظهور ظواهر «النّفعيّة والذّاتية والأنانيّة»، كأنّ العلم لم يخلق إلاّ لهذه الخصائص السّلبيّة، ممّا يبرز بجلاء الفراغ العلمي والمعرفي للمجتمع في وظائفه وغاياته التّوعويّة، ولذلك ما إن ظهر هذا الوباء، حتّى كُشف المستور بظهور مثقّفين جهلاء، لا يقيمون وزنا لقرارات مؤسّسات الدّولة سواء السّياسيّة منها أو العلميّة من مجالس علميّة تابعة لوزارة الأوقاف أو المختبرات الجامعيّة العلميّة، ممّا يضطرنا إلى افتراض فشل هذه المنظومات التّعلميّة والعلميّة الفكريّة في تحصين المجتمع بالعلم والمعرفة، وجعلهم وسيلة لنفع الذّات والغير، وبهذا فنحن ملزمون اليوم إلى إعادة نمط الخطاب التّربوي والدّيني المقدّم في قنوات المناهج التّربويّة التي تلقن في المدارس والجامعات، وأيضا المناهج التّربوية التي تلقن في قنوات الإعلام الرسمي وغير الرسمي، والتركيز على الوظيفية التي تبني المجتمع المسلح بعمق العلم وصلب المعرفة، لا قشور الثقافة ولبس الوعي.
ومن نتائج ذلك ما لوحظ بمشاهد متكرّرة قبل الحجر الصّحي المفروض على الأسر والمجتمعات العربيّة والعالميّة من سرعة أصحاب الأموال إلى التّكثير من اقتناء المواد الغذائيّة، كأنّ الإنسان خلق ليأكل ويشرب فقط، متناسين العَالةَ من النّاس ممّن لم يجدوا ما يسدّون به حاجتهم، فهذا الجشع ولَّد جشعا آخر من قبل التّجار بالزّيادة المقصودة في الأسعار، وعدم إحساسهم بقيم الثّقة والقسط والعدل فيما كلَّفَهم اللّه برعايته، مع أنّ الدّولة في خطابها الإعلامي تطمئن النّاس بتعهّدها بتوفير جميع المستلزمات، لتجد عديمي الضّمائر ومفقودي القيم الإنسانيّة والإسلاميّة لا يقيمون وزنا لذلك، ممّا يوضّح أنّ هؤلاء لا يتحلّون بمبادئ العلم التي تلقّوها في مواطن المعرفة، بل ويهدمون بذلك الأمن النّفسي والصّحي للتّلاميذ.
ثالثا: مقترحات في سبيل تنزيل منهاج تعليمي مستقل
وإزاء ذلك نقترح لربط هذه العلاقة في شخصيّة القائم على تصريف المعرفة في المناهج التّعليميّة ما يلي:
- ضبط الحالات النّفسيّة وفق الزّمان والمكان والحال الصّحيّة.
- السّعي إلى إنجاح العمل وبرمجته وفق تسلسل منطقي تدريجي.
- القيام بدراسات جادّة تتّسم بالمصداقيّة والواقعيّة، الهدف منها استخلاص نتائج عمليّة قصد تجربتها والعمل بها.
- اختيار أهل الكفاءة والقوّة العلميّة والدّراية المنهجيّة لتخطيط برامج ومناهج جزئيّة للنّهوض بالواقع من وجهة تعلّميّة.
- الموضوعيّة في انتقاء المحتويات، بعيدا عن المزايدات السّياسيّة والمطارحات الاقتصاديّة، والمفاوضات القطاعيّة.
- تضمين برامج إعلاميّة خاصّة، الغرض منها نشر الوعي المجتمعي بأهمّية الحرص على قيميّة المدرسة ورجالاتها، والسّهر على إنتاج مواد إعلاميّة هادفة.
- مشاركة جلّ الفرقاء في تيسير البرنامج وتبسيطه للمجتمع بكلّ الطّرق.
- إعداد خبراء ومتخصّصين متعدّدي التّكوينات لإنتاج نصوص قانونيّة تسمح تكييفا لتّطبيق وتنزيل المنهاج المعتمد على شخصيّة المتعلّم وصحّته النّفسيّة وبناء ذاته المعرفيّة.
- العمل على إنتاج دلائل ومطويّات تسير على رجال التّربية والتّكوين من أجل فهم فلسفة الإصلاح التّعليمي، وفي نظري هم أدرى بهذه الحقيقة من غيرهم.
- العمل على مأسسة المراقبة والمحاسبة في العمل، وتوعية الجميع بقيمة المسؤوليّة في الفشل أو النّجاح وتبعاته المستقبليّة.
رابعا: عناصر تأسيس منهاج مندمج ومتكامل.
إن ما سلف ذكره لا يتأتّى إلاّ إذا أدرك المهتمّون حقيقة المنهاج، «فهو مجموعة منسجمة ومنظّمة ومهيكلة لعمليّات مخطّط لها سلفا، لتجسيد السّياسة التّربويّة على مستويات الإجراءات المختلفة، وتشمل المجموعة أساسا:
- تحديد الغايات التّربويّة.
- وصف الأهداف العامّة والأهداف الخاصّة لكلّ مادّة تعليميّة.
- انتقاء وتخطيط المحتويات المعرفيّة لكلّ مادة.
- تخصيص نشاطات التّعليم والتّعلّم لاستخدام هذه المحتويات.
- توجيهات منهجيّة لتنظيم المحتويات والنّشاطات.
- إعداد الوسائل التّعليميّة التي تساعد في تحقيق المنهاج.
- منح توقيت للنّشاطات.
- تحديد ميكانيزمات تقويم التّعلّم.
- الوثائق المرفقة للمنهاج» (10) .
فمكونات المنهاج المذكورة لا تعدو إلاّ أن تكون منارات يهتدي بها المبتدئون في البحث والنّظر، وأمّا أهل التّخصّص، فتُعتبر في عملهم ضوابط وقواعد رئيسيّة لتنزيلها على أرض الواقع، بالإضافة إلى تعزيز ذلك بالافتراضات التي قد تصادف عملهم، كما لاحظنا في أحوال مع وباء الزّمن، إذ عجز المنهاج التّربوي في غالبه عن صيغ تُساير الواقع وتفكّ أسره.
خلاصة
وتوصيفا لواقع الحال، فقد لاحظنا اهتمام الكثير بالجدليات المتعلقة بالنظام التربوي سواء الأولي أو الجامعي، إلا أن ذلك لا يعدو أن يكون نقاشا عاما يفتقد إلى أساليب البحث العلمي الرصين، فما دام الكثير من الأفراد في المجتمع والأسر عاجزين عن تشكيل منهاج تربوي في تربية الأبناء الخاص بالمنزل، فمن العجز بمكان الحديث عن انتقاد المنهاج العام لتربية وتعليم التّلاميذ والطّلبة، لأنّ الأسرة هي نواة المجتمع، ومادامت لم تستطع أن تنتج طفلا متشبّعا بقيم الأخلاق العامّة، فالمدرسة بمفردها وبمناهجها وخبرائها، لا يمكنها أن تقدّم الحلول السّحريّة، وإنّما هذه المؤسّسات إلى جانب الإعلام ومؤسّسات التّربية الدّينيّة، شركاء في إخراج جيل متسلّح عارف لمصالح ذاته ووطنه وإنسانيته، وتلك هي الحلقة المفقودة.
الهوامش
(1) في مقابل دول نزلت إلى الأسواق الشّعبية قصد توضيح خطورة كورونا، واستهزاء الشّعب من هذه الكذبة التي ألفوا أن حكوماتهم وحكامهم عرفوا بسيماهم في القرارات الجائرة باسم العلم والتّجربة، وقد ظنوا بالوهم أنهم يحسنون صنعا، فكانت الكوارث أكثر من أن تحصى وعدد الضحايا أكثر من أن يستقصى.
(2)  بيداغوجيا المعرفة: حل المشكلات وتطوير القدرات العقلية للدكتور محمد أمزيان إفريقيا الشرق الدار البيضاء الطبعة الأولى 2016م ص216.
(3) سورة النساء - الآية 59
(4)  الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) لأبي عبد الله شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ 1964م 5/259.
(5) سورة النساء - الآية 83
(6)  إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ)، دار المعرفة – بيروت ذكر عدد الطّبعة وتاريخها 1/5.
(7)  بيداغوجيا المعرفة: حل المشكلات وتطوير القدرات العقلية لمحمد أمزيان ص219.
(8)  أساسيات علم النفس التربوي: النظرية والتطبيق لمحمد فرحان القضاة ومحمد عوض الترتوري دار الحامد الأردن الطبعة الأولى 2006م ص470.
(9)  أساسيات علم النفس التربوي ص470.
(10)  تجديد منهاج تكوين أساتذة التربية الإسلامية: الواقع والآفاق للدكتور عبد الله بوغوتة ندوة التعليم الديني بالمغرب: تشخيص واستشراف، المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة سلسلة أبحاث ودراسات (4) تنسيق الحسن حما طوب بريس الرباط الطبعة الأولى 2007م 267-68.