في الصميم

بقلم
شكري سلطاني
نحو مشروع للإصلاح والتغيير
 خطوة للوراء لفهم الخبايا والخفايا 
يصعب فهم الطّبيعة البشريّة، ويعسر على من يدرسها سطحيّا إكتناه خفاياها وخباياها لعدم تمكّنه من أدوات تحليل موضوعيّة ولصعوبة دراسة ومعالجة الذّات من منطلق ذاتي صرف، إذ أنّها في آن واحد هي الذّات والموضوع .
رغم أنّنا نحكم بالظّاهر واللّه يتولّى السّرائر، فإنّ طبائع النّفوس مختلفة متباينة، والظّاهر قد لا يُنبئ ببواطن النّفوس، فلكلّ إنسان طبعه وطبيعته وما تعوّد عليه وما ترسّخ في ذهنه وأعتاده وله أفعاله الشّرطيّة الإنعكاسيّة الخاصّة به وحده.
يتعامل الشّخص مع الأحداث والوضعيّات والصّعوبات والإشكاليّات التي تعترضه في حياته وتعيقه، بردود أفعال تحدّد نوعيّة سلوكه وطبيعة شخصيّته وذاته. فمن يتحكّم في قراراته وتوجّهاته ونوع تعامله مع وسطه البيئي ومدى تفاعله وإنفعاله ؟ هل يمكن قيس حجم ردّ فعله والتّنبؤ بسلوكه قبل حدوثه لإستقراء ومعرفة غده ومستقبله ؟فهل يمكن تغيير ما يجب تغييره قبل فوات الأوان ؟
(1) النفس في قلب الرّحى
لا شكّ ولا اختلاف أنّ النّاس معادن ولديها قوابل وطاقات ومواهب وحتى بيداغوجيا الذكاءات المتعدّدة أثبتت ذلك وأكّدت على الإختلاف .
تختلف التّركيبة النّفسيّة والذّهنيّة والوجدانيّة والبنية الجسديّة والمورّثات وبيئة العيش بين النّاس؛ فالإختلاف حاصل وقد يصطدم الإنسان ويتحيّر لردّ فعل الآخر وسلوكه أحيانا، وقد لا يجد تفسيرا لسلوكه الذي لم يترقبه وذلك لعدم معرفته بحقيقة النّفوس وبواطنها وتاريخها.
الإنسان يحيا ويتفاعل وينفعل بفطرته وغريزته ومكتسباته وتفكيره، يحفّزه جانبه النّفسي الشّعوري والوجداني ويسيّره جانبه اللاّشعوري الباطني الخفيّ، لذلك فهو حالة معقّدة التّركيب والبناء نتيجة حساسيّة النّفس البشريّة ورهافتها وتموّجها وتغيّر مزاجها من حين لآخر وعدم إستقرارها وعدم توازنها دائما في دنيا المتغيّرات والتعلّقّات، فهو يعيش  من حالة الى حالة أخرى شبه مستقرّة « métastable» وقابلة للتّغيير.
الوجدان والعقل والنّفس ثلاثة أبعاد رئيسيّة في الإنسان تتحكّم في وجوده وتطبع سحنته وهيئته النّفسيّة ومزاجه وحضوره الإجتماعي، كما تحقّق غريزته وفطرته وظائفه الأساسيّة من تغذية وتواصل مع وسطه البيئي وتناسله ؛ فغريزة الإنسان تحميه وتيسّر عيشه وحياته ككائن حيّ.
تُعتبر النّفس المُفَاعل أو المحرّك «réacteur» الهام في الذّات البشريّة، فهي هويتّه المعنويّة. يسعى جاهدا لتحقيق آماله ورغباته،يستهلك المتاح ويطمح ويطمع فيما اشتهت وتاقت إليه نفسه، فتراه منبسطا عند نجاحه وتوفيقه في مساره الحياتي وينقبض ويحزن عند إخفاقه وخيبته؛ فهو بين تلبية رغباته وتحقيق شهواته وبين حالة حرمان وعوز وفقر. لذلك تنطبع في ذاته خدوش وندبات عاطفيّة وكدمات نفسيّة عند الإخفاق وتتعمّق نرجسيّته وأنانيته عند النجاح، وتنغرز تبعا لذلك في باطنه صورة لنفسـه وقالبه الجسدي في عمق ذاتــه ولاوعيه لتؤثّـر في تفكيره وإحساسه وشعوره وإدراكه.
تعتمل ظروفه الحياتيّة وتجاربه الإجتماعيّة وتربيته العائليّة، فلا أحد يفلت من إطاره العائلي والإجتماعي والعاطفي، لتنحت كلّها شخصيته وتحدّد ردود أفعاله وطبيعة ونوعيّة سلوكه.
للظروف الماديّة بعد جدّ هام ومصيري في صياغة القالب الجسماني والمعنوي للإنسان، فهو متأثّر منفعل بالحسّ وبالمظاهر ، فمنبهّات ومثيرات واقعه المادّي الحسي تثيره ليستجيب .
قليل  هم من يتجاوزون عالم الصّورة والحسّ والحركة، فإنعكاسات  البشر فكريّا ووجدانيّا ونفسيّا هي  في حدود ماديتهم وظروفهم الموضوعيّة، وما الصّورة الجسديّة «image corporelle» والتّمثّلات الذهنيّة إلا نتيجة لكلّ ذلك .
يخوض الإنسان معترك الحياة بقالب نفسي وجداني ذهني يتشكّل من خبراته وتجاربه وإدراكه وأحاسيسه الشّعورية وسلوكياته، لتصبح بوصلته للإتجاه  فهو حامل لعلامات الإستدلال والتتّبع الرّاسخة في مخيلته وإطاره التّفسيري ومرجعياته وذهنيته ونشاطها .
إنّ عمليّة تغيير الإنسان من حال إلى حال هي عمليّة عويصة ودقيقة جدّا، لأنّها تقتضي تغيير علامات الإستدلال وتحويل مرجعياته وإنتقاله من أساسه السّكوني الضاغط الموجّه لسلوكه إلى بعد حركي مغيّر لأحواله، لذلك تعتبر النّفس البشرية الميدان وساحة الصّراع ودار الضّرب  والمنطلق الأولّي للتّغيير والإصلاح .
«إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(1) فكيف السبيل إلى التغيير والتحوّل ؟
(2) نحو مشروع للإصلاح والتغيير 
إن بقاء الحال من المحال، فلا يثبت أيّ حال في الدّنيا على حاله لأنّه متحوّل، يجتاحه الزمان ويغيّره، فلا مقام ولا ثبات في دنيا المتغيّرات والتحوّلات ؛ فالحيّ ينمو ويتغيّر مع الزّمن و كذلك المادّة تتغيّر، فتتآكل وتضمحل ولا تبقى على أصالتها.
إنّ الدّنيا الفانية صفتها التغيّر والتّحوّل بتغيّر الحقب الزمانيّة المتعاقبة ويتبعها الجسد لأنّه في ذلّ الحصر ؛ ولكنّ النّفس هويّة الإنسان وبعده المعنوي وذاتيته نوعا وصفة وفرادة وخصوصيّة تثبت بمعناها وأنيتها، فتسارع نسق الزّمان. لا تمهل الإنسان فرصة للتّفكير والتدبّر والتأمّل ليلتقط أنفاسه ويفرمل نسقه وحرصه وشرهه ويغير ما يجب تغييره، فتظلّ ذاته السّطحيّة ( أنا النّفس ) التي تطفو دائما  على السّطح وضفاف المعنى وواقع حياته كما هي قالبا نفسيّا معنويّا ثابتا فهي تستهلك وتساير وتجامل وترواغ وتخادع وتناور وتتكيّف مع ظروفها لتتّخذ لها مسارا ووجهة ضمن حدود إدراكها ووعيها وطاقتها وكياستها وإستطاعة فعلها وإنجازها.
وقليل من النّاس من يخالف النّسق العادي لسائر البشر، كالأنبياء والرّسل وكذلك الصّالحين والحكماء.
لا يمكن للإنسان أن يكون مستقلاّ ومنفصلا عن واقعه كليّا، إذ أنّه يندمج فردا «le soi» في مجتمعه اللاّأنا «le non soi» وتحصل تفاعلاته حسب درجة الجذب والنّفور والإختلاف والإئتلاف وبتعدّد المتفاعلات العديدة «divers combinaisons» تستقرّ الحالات وتتوازن في حالة شبه مستقرّة بتنوّع السّلوكات والتّوجّهات وقرارات الأفراد وأمزجتهم وهواهم.
إنّ المسألة جدّ مصيريّـة والمقاربة نفسيّـة، فمن الحمق والسّذاجـة التّعامل بعفويّة وتلقائيّة والتّفكير بطريقة مثاليّـة في عالـم المتناقضــات والتغيّرات، ومن الإفـلاس النّفسي المكـوث  في منطقة الرّفاهيّــة  «zone de confort» وعدم المخاطرة.
«خاطر من ألقى نفسه ولم يركب، وهلك من ركب وما خاطر، فالمخاطرة جزء من النجاة».
إنّ النّفس محور العمليّة التّواصليّة والتّفاعليّة والشّعوريّة ؛ فتغيير النّفس واجب وأكيد  «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» (2)، وثمّة خطوات لنضج الشّخصيّة وتوازن الفرد وهي تتمثّل في إكتشاف حقيقة الذّات وإسترداد الرّوح ( الأنا العميقة ) وذلك بمداواة علل النّفس ومعالجة قلّة صبرها وحرصها وطمعها وجشعها وحسدها وغرورها وإستعلائها وإحتقارها لغيرها، بشحذ عزيمتها وبعلوّ همّتها على فعل الخير والبرّ والإحسان وإتّباع سبيل الحقّ وسلوك طريق الحقيقة.
في عالم الفقر المعنوي والظّلم وعدم الإنصاف، لا ينال النّاس ما يستحقّون، لذلك لا ينفكّون عن الشّكوى من سوء أحوالهم ويتذمّرون، والعديد منهم يتألٌمون في صمت والكلّ ينال ما يتطلّع إليه وليس ما يريد وينتهي بهم حالهم إلى الحذر والإحتراس والغيرة والحسد والحقد ومحاولة التّعويض والسّيطرة والمغالبة وإستلاب الفرص من غيرهم والحرص على نيل الحظوظ الدّنيويّة بشراهة دون إكتراث .فالكلّ يسعى جاهدا لسدّ نقصه وحاجياته الماديّة ونيل المكانة والسّمعة .
بيئة سامّة يتولّد عنها تأثيرات سامّة وتنافس قاتل للرّوح والوجدان طامسا وحاجبا للمعاني والحقائق؛ فتلك حال سائر البشر في أحوالهم ومعاشهم وسعيهم وقليل من النّاس من يفلت من الضّغوطات ولوثة وكدر واقع البشر، إنّهم  العقلاء والحكماء. فالإنسان السويّ المتزّن لديه قواعد سلوك يلتزم بها ومبادئ وثوابت لا يحيد عنها ويعيش بحسبها، والمخدوع في نفسه المشوه المغرور يظلّ عالقا في شرك سلوكه الذّي أدّى إلى نجاحه وتحقيق رغباته وآماله ظرفيّا.
إنّ التصرّف بشكل مختلف عن القالب الفكري الشّعوري والنّفسي المعتاد عليه يكمن في خطوة بسيطة وهي التّعامل مع العلاقات الفاشلة والتعلّقات البائسة ونتائجهما كما  لو كان الإنسان المتضرّر هو السّبب والمتسبّب لما يحدث ليبتعد عن الشّكوى والتذمّر ولعب دور الضّحيّة، وبذلك يجعل نفسه في موقع قوّة فيمكنه من تعديل وتحسين جودة حياته وعلاقاته بالآخرين والتعلّم من أخطائه .
إنّ المنطلق ذاتي، والحلّ في مقاربة نفسيّة ذاتيّة ضمن طريقة ومنهجيّة صارمة للإرتقاء بالنّفس من أقصى إنحطاطها وطبيعتها الوضيعة الحقيرة إلى أسمى سموّها ونبلها . فمن تعثّر في طريقه فلا يلوم إلاّ نفسه وليراجع حساباته ويدقّق في مدخلاته ومخرجاته ؛ ومن إختار بإرادته وجهته فليتحمّل مسؤوليته وليعالج موطن الخلل ويحلّ مشكلته ويتجاوز أزمته إن حصل الضّرر؛ ومن تمسّك بقراره عنادا وإصرارا وإتّضح من بعد سوء تقييمه وتقديره، فليتراجع ويتوب من هفواته وليتعظ الإنسان من أخطائه وزلاّته، فالحياة مدرسة الجميع والتدرّب والتعلّم والممارسة مجانية إذ نحن نتعلّم أهمّ الدّروس من أوقاتنا الحرجة والصعبة في حياتنا .
(3) العقبة والإقتحام
إنّ الدّنيا حلوة خضرة بمظاهرها وزخارفها، فهي تغري النّفوس وتجذب خواطرها وتسلب الألباب بصيرتها وحكمتها لإنعكاس النّفوس والخواطر وإنطباعها وتلبّسها بالمظاهر ولسهولة التعلّق والوقوع في شراك عالم الحسّ والكسب والحركة؛ أمّا المعاني والحقائق، فهي من البواطن التي تستوجب الإبحار والغوص والحفر في الأعماق لا المكوث على السّطح والإكتفاء بالظّاهر، خمولا وكسلا ودعّة واسترخاء، فعلم الظّاهر متاح متيسّر الولوج إليه والنّهل من مجاريه وروافده المتفرّقة في دنيا الغرور والفناء، وأمّا علم الباطن،فأغواره عميقة يتطلّب جهدا وعزيمة وهمّة ويقظة وكدحا وسعيا دؤوبا وصبرا ومصابرة لإزالة غشاوة وكدر المظاهر والظّواهر لتلمّس وإدراك الحقائق ومعانقة أرواح المعاني لذلك تستعصى على النّفس مكابدة المصاعب لنقض الموجود المتيسّر اليسير وركوب الصّعاب .
لذلك من أراد أن يحيا حياته الأبديّة، سعيدا بحاله، أن يشدّ حبال النّفس ولا يتركها ترتع تتقاذفها أهواؤها وتتلاعب بها، ليتحّكم فيها مزاجها المتقلّب وطبعها المنفعل المنفلت من عقال الحكمة والرّشاد.
إنّ مأساة الإنسانيّة وبؤسها في سفر الظّاهر، إذ اللّفظ حاجب للعمل الصّادق والتّوجّه سير النّفوس لنيل حظوظها الدّنيويّة منذ هبط آدم عليه السّلام وعقبه خلفه من البشر في الخلافة في الأرض، فلقد حقّقوا إستخلاف المكان بعمارة الأرض وغاب عنهم إستخلاف الزّمان، فعاشوا زمانهم الآني الفاني في حيزهم المكاني وما عمّروا زمانهم الباقي وما عمّروا بواطنهم بصلاح نفوسهم وقلوبهم، فانمحى عالم الملكوت من أذهانهم وقلوبهم ووجدهم ووجدانهم، فنسوا أمانتهم وميثاق فطرتهم وإنغمسوا واستهلكوا زمانهم في عالم الملك، فلقد أحاط  بهم وأسر قوالبهم ونفوسهم وأرواحهم.
فمتى يرى القلب لتبصر النفس وتنظر الرّوح ؟متى تتيقّن النفس بأن « كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ»(3)  فتتجرّد وتسعى لتتغيّر وتتحوّل وتحقّق صلاحها وإستخلافها للزمان ؟
الهوامش
(1) سورة الرّعد - الآية 11 
(2) سورة الشمس - الآيتان 9 و10
(3) سورة الرحمان - الآية 26