من وحي الحدث

بقلم
فؤاد بوعلي
العربية ومجتمع المعرفة.... حقيقة مع وقف التنفيذ
 في السنة الماضية، وفي ظلّ انشغال النّقاش العمومي بالمغرب بالقانون الإطار للتّعليم ومسار الفرنسة الذي عاد بعد عقود، أطلقت اليونيسكو بمناسبة الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربيّة تقريرا إقليميّا يحمل عنوان «بناء مجتمعات المعرفة في المنطقة العربيّة: اللّغة العربيّة بوّابة للمعرفة»، أعده مكتب الدّول العربيّة الإقليمي للعلوم والتّكنولوجيا التّابع لليونسكو (القاهرة)، بالتّعاون مع مجموعة من الخبراء والباحثين. ويقدّم التّقرير لمحة عامّة عن حال المعرفة واللّغة العربيّة في المنطقة العربيّة، من خلال ثلاث دراسات حالة وطنيّة من المملكة العربيّة السّعودية ومصر والمغرب. والغاية من مثل هذه الأعمال ليس رصد الاختلالات وإبراز الإيجابيّات فقط، بل الغاية الأصليّة هي فتح نقاش عمومي وأكاديمي حول جملة من القضايا التي تناولتها فصول التّقرير. 
فالتّقرير  الذي عزّز مقترحاته بالعديد من الدراسات الميدانيّة، والبحوث النّظريّة، والجلسات النّقاشيّة، استطاع الخروج بمجموعة من التّوصيات القابلة للتّنفيذ والأجرأة في ميادين التّعليم والثّقافة والإعلام والأسرة وغيرها. فالأساس النّظري الذي تنطلق منه هذه الأعمال أنّ تحميل اللّغة بالمعرفة أساس بناء المجتمع، كما أنّ بناء هذا المجتمع يُهيِّئ اللّغة لتضطلع بوظائفها باقتدار، وتساهم في تنوير المجتمع وتنميته. لذلك ربطت التّقارير الصّادرة عن المنظّمات الدّولية ومراكز الدّراسات، المهتمة أساسا بتوصيف الحالة التّنموية للإنسان العربي وشروطها، مستوى تنميته بمستوى قدراته اللّغوية تواصليّا ومعرفيّا. فالتّحدي الذي يواجهه الإنسان العربي هو استيعاب المعرفة الإنسانيّة المتراكمة وإنتاجها ونشرها، وتحويل المواطنين من أمّيين، أو علماء يعدّون على رؤوس الأصابع، إلى مواطنين فاعلين يتعلّمون مدى الحياة، وتعكس لغتهم معرفة متجدّدة ذات متّصلات في الجغرافيا والتّاريخ والمعرفة الإنسانيّة المتطوِّرة. لذا طرح التّقرير، على غرار التّقارير السّابقة، في تحليله لوضع المعرفة في الوطن العربي، رؤى استراتيجيّة تنتظم حول عدّة أركان، تروم تأسيس نموذج معرفي عربي عام أصيل منفتح ومستنير، يعتمد على النّهوض باللّغة العربيّة من خلال إطلاق نشاط بحثي ومعلوماتي جاد في ميدان اللّغة العربيّة، يعمل على تعريب المصطلحات العلميّة، ووضع معاجم وظيفيّة متخصّصة، وإثراء التّنوع الثّقافي داخل الأمّة ودعمه والاحتفاء به، والانفتاح على الثّقافات الإنسانيّة الأخرى، ومواكبة زمن العولمة والثّورة المعرفيّة المتسارعة.. 
وهكذا يمكن إجمال الاختلالات التي وصل إليها التّقرير  في مجموعة من المستويات: مستوى لغة التّعليم وتعليم اللّغة تتجلّى في ضعف تدريس العربيّة ديداكتيكيّا، والازدواجيّة المهيمنة وعدم توفّر لغة عربيّة شاملة تغطّي مختلف أسلاك التّعليم، والتّعارض بين اللّغة الأمّ ولغة التّعليم وصعوبة الانتقال بينهما، ومستوى الحياة العامّة حيث سيطرة اللّغات الأجنبيّة في الإدارة والاقتصاد.. وتغييب العربيّة الوظيفيّة..  ومستوى المأسسة بغياب الإرادة السياسيّة وانعدام تخطيط وطني شمولي وهادف وفق جدولة وظيفيّة للاستعمالات اللّسانيّة....
تتوالى التّقارير الدّولية وتتعدّد، وتصل لخلاصات رصديّة متقاربة مع اختلاف في المؤشّرات والأرقام، وتستمرّ الحكومات في اجترار الفشل والأزمات. إذ يبدو أنّ غياب الوعي لدى سادة القرار التّربوي واللّغوي في المغرب(وفي بقيّة الدول العربيّة) وعدم القدرة على الاستفادة من معطيات هذه الأعمال الدّوليّة وخضوعها للوبيّات التّقنويّة والعلاقات الخارجيّة، هو الذي يؤدّي إلى تجاهلها وعدم التّجاوب مع خلاصاتها. فبقليل من التّأمّل في النّتائج التربويّة، على سبيل المثال، التي أشار إليها التّقرير وحدّد العوامل المتمثّلة على الخصوص في الازدواجيّة والتّعامل التّمييزي مع اللّغة العربيّة لأسباب متعدّدة يجعل المشاكل التي تعاني منها المنظومة بأكملها تجترّ سمة التّأزيم. فالقضيّة ليست قضيّة لغة بقدر ما هي قضيّة مجتمع يتمّ إخضاعه لتوجيه قسري نحو التّخلّف وعدم الاستفادة من لغة يمكنها أن تمنحه مكانا في مجتمع المعرفة والمعلومات. هكذا تقول الدّراسات الأكاديميّة والتّقارير الرّصديّة بعيدا عن الأدلجة والحسابات السّياسيّة. هي حقيقة علميّة وواقعيّة مع وقف الأجرأة والتّنفيذ.