تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صرخة في صخب صامت (4)
 أفاقت بسمة ووجدت نفسها في فراشها وحيدة، تتحسّس آثار أوجاع البارحة بين آلام الحوض وآلام غرز التّثبيت أسفل البطن. هل تستطيع النّزول من فراشها لتبحث عن وليدها؟ ما أحوجها لمعرفة أولدا أنجبت أم بنتا. تسرّبت أشعة الشّمس عن غفلة من خلف السّتائر واقتحمت رويدا، رويدا أرجاء الغرفة.  وما أن تفطّنت لذلك، ازداد قلقها، وارتفع منسوب الشّوق لديها. لماذا لم يوقظها أحد؟ ولماذا لم يأت زوجها بعدُ؟ أم لعلّه قدم وأبى إزعاجها بعد أن اطمأن عليها وعلى وليدها. 
ضغطت على القرص تدقّ جرس المناداة على الممرضة أو المساعدة، لتسألها عن وليدها وتمكينها من احتضانه وإرضاعه من صدرها. يا لها من لهفة. ألم يكن قطعة منها احتفظت بها في أحشائها منذ كانت نطفة فعلقة فمضغة، حتىّ صار يركلها، ويقول لها بلغته «أنا هنا حيث أنت، وأنت هنا حيث أنا. هنا أنا فيك وهنا أنت فيّ». هذه محاورته لها بِلُغته التي لا أحد يفقه سرّها، ولا أحد يحلّ عقدها سواها. لغة لا يتحسّس نبضها سواها، ولا تمرّ إلاّ عبر المشيمة، ذلك الرّباط الحيوي الذي يوصلاهما ببعضهما. 
لم يأت أحد، ولم يُستجَب لنداءاتها بالجرس الذي تسمع رنينه كلما ضغطت على الزرّ. لماذا لا يعيرونها الانتباه؟ هل لديهم حالة استعجاليّة انشغلوا بها وصرفتهم عنها؟ ولكنّها لم تسمع بالجوار حركة غير عادية تشير إلى وفود امرأة جديدة في حالة طلق. وإن كان كذلك كان أولى ربّما أن يأتوا بها لتأوي بجوارها في نفس الغرفة. في الأمر ما يدعو إلى الرّيبــة، لماذا يتحاشون القدوم إليها؟ أيكون وليدها في حالة خطــرة -لا قدر اللّه- ويخشـون مصارحتهــا؟ ... كانت تابعت بعينيها، واستمعت بأذنيها إلى حديث الطّبيب ومساعديه وهو يستقبل الوليد بين يديه، وقد سمعت صرخته الأولى، بل تتذكّر أنّها تلقّتــه على صدرهــا العاري وهو قطعة لحم حمراء ملفوفة في قمــاش أبيـض. من حينهـا غابت عنها الصّــور، وانقطع وصلها بمن حولهــا. لم تتذكّر أحد الحاضريــن قال لهــا أنّه طفــل أو أنّها بنت.
حملت نفسها، وعزمت على النّهوض والذّهاب إلى قاعة الاستقبال، حيث يتواجد الأطبّاء والممرّضات وكلّ العملة. ولمّا استدارت وأنزلت ساقيها إلى أن لامستا الأرض وحاولت الوقوف عليهما شعرت بخوار قواها، وأحسّت بوهن كبير ثمّ بدوار كاد يسقطها أرضا لولا عدولها عن الوقوف وتراجعها، لترتدّ بمؤخرتها على السّرير، فيهتز جسمها ويتصدّع من شدّة الآلام التي مزّقت جرحها ونسفت حجرها. 
انتبهت إلى الخطر الذي عرضت نفسها له. وانتبهت وتذكرت أنّها تحسّ بجوع قاتل وعطش لم يكن على بالها قبل اللّحظات. تململت لتأخذ مكانها وتتمدّد من جديد في فراشها، لعلّها تسترجع قواها بالتّوقف عن الحركة والسّكون إلى نفسها، حتّى يأذن اللّه بالفرج. 
ماذا لو أضاعوا طفلها أو ابنتها؟ قد يدفع الحرمان إحدى النّساء لمدّ يدها وأخذ ما ليس لها. أو يدفعها الحنين إلى حلم مفقود. أو لعلّ إحدى الممرّضات سرقته، أو أحد العملة للاتجار به عبر تنظيمات إجرامية. من يدري؟ كلّ هذا أصبح مباحا ومتداولا في حديث النّاس صباحا، مساء ويوم الاثنين. 
ولكن كيف لي أن أعرف؟ لا شكّ أنّهم يبحثون بوسائلهم وأوصوا أنفسهم ألاّ يخبروني حتّى يجدوه، وأوصــوا الحـرّاس بالباب الخارجــي والاستقبـال ألاّ يدعـوا أحـدا مـن أهلي ولا مـن أهـل النّـزلاء الدّخول إلى قسم التّوليد حتّى إشعار آخر. في هذا الزّمان أصبح الغريب صاحب الدّار، فلا يستغرب من ذلك إلاّ غافل.
هناك في آخر الرّواق، في مدخل القسم، قاعة التّمريض حيث تلتقي القابلات والممرّضات والعملة والعاملات، كانت تعجّ بالحركة والضّجيج قبل ليلة البارحة، فخيّم عليها السّكون فجأة، ولم تصدح منها ولو قهقهة ولا حتّى ضحكة. وكلّما دخل أحد العملة القاعة أو حتّى الممر إلاّ مشى على أطراف قدميه، وإذا خاطب أحدا تكلّم وشوشة، وفي كلّ مرّة يتردّد لطف اللّه بخشوع وعبادة «يا لطيف» أو «اللّه يلطف بنا».  
ليس لنا إلاّ أن نستعظم خلق اللّه أمام معجزاته، أي كلّ ما كان خارج نطاق المعرفة. وحدث ليلة البارحة ما يشبه المعجزة يحملها ذلك الوليد رقم X 1909202011 في قاعة الولدان مميّز بحرف «X». أقبل كلّ أعوان المستشفى فقط ليقرؤوا الرّقم، ويتأكّدوا منه بكلّ حسرة، لأنّ باب القاعة المغلق حال دون إشباع فضولهم. هذا الوليد مازال في حاضنته ملفوفا في إزار صحّي، ينتظر أن يلبسوه ما أعدّته والدته من ثياب، تفنّنت جدّتاه في تزيينها من القلنسوات التي ستغطي رأسه العاري خفيف الشّعر، إلى الجوارب، بعدد أيام الأسبوع نقش اليوم على كلّ زوج منها.
لم يكن المولود كالولدان، استرعى الاهتمام لأنّه مختلف عن الجميع، ينتظر أن يغيّروا له شارته X بما يناسبه واحد «1» إن كان ذكرا أو صفر «0» إن كان أنثى. ولا يكون ذلك قبل عرضه على الطّبيب المختص، لمّا تعذر على طبيب التّوليد الذي استقبله أن يؤكّد جنس هذا الوليد الذي يحمل عضوين ظاهريّا متكاملين.
إلى حدود الثّالثة بعد الزّوال، لم يلتفت أحد إلى بسمةَ في ضيقها الشّديد ووحدتها المزعجة. دخلت ممرّضة في زيارة أولى لتفقد النّافس ورفع حرارتها. وهل تستطيع بسمة إلاّ أن تسألها عن صحّة وليدها الذي لم تره ولم تحتضنه إلاّ مرّة واحدة. تعلّقت بها وسألتها بإلحاح. وبكلّ حرج واستعجال أجابتها الممرضة باقتضاب، وهي تسجل على دفتر المريضة 36,8 درجة مئوية، «وليدك في صحّة جيّدة ولمزيد التّأكد طلبنا له بعض الفحوصات والتّحاليل حتّى تطمئني». وانصرفت هاربة قبل أن تسألها إن كان ولدا أم بنتا.
أقبل أخيرا زوجها رفقة امرأة لم تكن بسمة تعرفها، وكان الزوج يسمعها بانتباه ورضوخ واستسلام لقدر لا يملك مواجهته ولا رده. سلّمت المرأة على بسمة وهنأتها على سلامتها، ثمّ جلست إلى جانبها على حافة السّرير، وكأنها ستشاركها أسرارها. وبكلّ لطف شرعت في محادثتها تسألها وتسجّل المعطيات على استمارتها. وتستخبر مؤهّلاتها لتعدل على نسقها طريقة الحديث، واختيار الكلمات التي تناسب فهمها. وكانت المهمّة التي جاءت من أجلها سهلة على المساعدة النّفسانيّة، وهي التي كانت خائفة من مثل هذه المسائل المعقّدة من جهة والنّادرة من جهة أخرى.