بهدوء

بقلم
محمد القوماني
تيار الهوية العربية الإسلامية: من مهام الدفاع إلى متطلبات البناء

أفضت الانتخابـــات الحرّة والتعدديــــة التي عرفتهـــا بعض الدول العربية عقب الثورات الشعبيـــة، إلى فوز مُستحــــق للأحزاب ذات التوجهــــات الإسلامية، بما عزّز فرضيّة حكم الإسلامييــــن على غرار ما يحصـــل بإيران وتركيـــا عل سبيل الذكر لا الحصر، غير أن قراءات أخـــرى تميل إلى ترشيــح تيار الهوية العربية الإسلامية بجناحيه العروبــي والإسلامــــي إلى تقدّم بقية التيارات في قيادة المرحلة القادمة، بعد مراجعات متأكدة على هذا الصعيد، ومن ثمة بات من المشروع التساؤل عن مدى قدرة هذا التيار بروافده المختلفة على كسب تحديات البناء بعد أن نجح خلال عقود سابقة في كسب معارك الدفاع؟

 

الدفاع عن الهوية شعار مرحلة التحرّر الوطني

 

منذ ما اصطلح عليه بعصر النهضة في التاريخ العربي الإسلامي الحديث، عقب بداية تحوّل موازين القوى الدولية لغير صالح المسلمين، سادت في الساحة أسئلة مركزية مثل لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟ كيف نردّ على التحدي الأوروبي؟  كيف نخرج من الانحطاط؟  كيف يستعيد المسلمون عصرهم الذهبي؟ ... ولأن الحافز على تلك الأسئلة والدافع إليها آنذاك كان خارجيين، فإن المعركة اتخذت طابعا دفاعيا.

 

  وبما أن الاستعمار الذي تزامن مع  بدايات تلك النهضة أو تلاها، لم يكن مجرّد تحكّم سياسي فحسب ولا سيطرة اقتصادية فقط، بل محاولة لإلحاق شامل  وكليّ للمستعمرات  ببلاد المستعمر  وسياسته، فإن رواد النهضة العربية الحديثة ومن بعدهم زعماء حركات التحرر الوطني،  كان من أهم ما انتبهوا إليه هو مساعي المستعمر لطمس الشخصية الحضارية لشعبنا وأمتنا.  ولما كانت الثقافة مناط الشخصية الحضارية وقوام الهوية القومية، فإن التصدي لمخطط المستعمر اتخذ بعدا ثقافيا في جانب كبير منه، إلى جانب المعارك العسكرية والسياسية التي كانت تترجم شعار الدفاع عن الهوية. هذا إضافة إلى ما ذهب إليه رواد الإصلاح من أن النهضة لن تتحقق إلا بإعادة النظر في الواقع الثقافي وإصلاح التربية والتعليم والتخلص من مخلفات الانحطاط في تفكيرنا وثقافتنا. 

 

وكانت النتيجة المباشـــرة للطابـــع الدفاعـــي والبعـــد الثقافي للمعركة كمـــا أسلفنـــا، أن طفحـــت مشكلــــة الهويـــة والتكتــــل ضد الآخر على سطـــــح الاهتمامــــات وتصدّرت الخطابــــات، وباتت شعار المرحلة ومحورها.  وبما أن المدافــــع ينطلــــق عـــادة في معركــــة مما لديــــه،  فان المجتمعات العربيــــة والإسلاميــــة لمّا أرادت الدفاع عن نفسها،  لم تجد عناصر المقاومة إلا في ثقافتها التقليدية ذات الطابع الديني الواضح. فساد شعار العودة إلى الإسلام وأصبحت الأصالة ترادف التقليد والعودة إلى الماضي. ومن ثمّة انتعشت خطابات  الهوية التي كانت تمثل أهم نبض حيّ في الجسم المتهالك وشكلت أهم تيار ثقافي وسياسي في الساحة، لاقترابها أكثر من غيرها من مضمون الهوية السائد.

 

وفي هذا الإطار أخذ الخطاب  الثقافي لتيار الهوية  بعدا  تقليديا، يستحضر التراث وثقافة الماضي أكثر من انفتاحه على ثقافة عصرنا ومناهجه ومشاغله ومفرداته. ولم يخرج استئناف الاجتهاد الذي قيل إنّه الطريق للقضاء على مخلفات الانحطاط  ولتحقيق النهضة  من جديد، عن الإفتاء في القضايا المُستحدثة، ضمن أرضية أصولية قديمة  وآليات تفكير تقليدية. 

 

مقاومة التغريب  الشعار المتجدد للتيّار الاسلامي

 

بعد نجاح الحركة التحريرية في دحر جيوش المستعمر وإنجاز الاستقلال،  جاءت الاختيارات الثقافية لبعض القيادة العربية الجديدة فعمقت ما أشرنا إليه سابقا  من طابع الدفاع الذي أخذه المشروع الثقافي العربي المعاصر خاصة مع التيار  الإسلامي.  فشعارات المعاصرة  والتقدم  والالتحاق بركب الحضارة،  واجهتها شعارات الأصالة  والعودة  إلى الإسلام  و الاعتزاز بالذات.  وكانت  كلما  قويت شوكة التغريب  باسم تمدين المجتمع  وعصرنته،  اشتدت  شوكة  التيار الإسلامي وتصاعد الهجوم ضد رموز  التحديث الذين وُصفوا بالعلمانية  وموالاة الغرب ثقافيا. بل وصل الأمر أحيانا  إلى حد تكفيرهم  وتخوينهم.

 

هكذا اتخذ المشروع الثقافي العربي مع ما يوصف بالصحوة الإسلامية بعدا دفاعيا من  جديد. فعلى إثر تشكل  الحكومات والأنظمة  العربية الجديدة   بقيادة نخب حداثية، والتي استطاعت  قبل ذلك إزاحة الزعماء السلفيين  عن قيادة  الحركة الوطنية، اعتبر قادة الصحوة  الإسلامية أن القيادة السياسية  العربية الجديدة  بحكم تعليمها وثقافتها الأوروبيتين وعلاقتها بدول الاستعمار، ليست سوى امتداد شرعي لـــه ومواصلــة لمشروعـــه في طمس الشخصيــة الحضارية لامتنا. ومن وراء القيادة السياسية بالطبع النُخب المثقفة التي تقف إلى جانب  تلك القيادة  واختياراتها. فكان أن تمحور خطاب التيار الإسلامي مجدّدا  حول الدفاع عن الهويّة.

 

وفي هذا السيــــاق كانت الإشارة  لواقــــع  الازدواج  اللغــــوي  والثقافــــي،  وحالـــة التسيـــب الأخلاقـــي والتفسّـــخ  القيمي،  ونشر الثقافـــة  والعلــــوم الغربيـــة  من خـــلال  برامـــج التعليـــم ووسائـــل الإعـــلام، وكانت الدعـــوة  إلى التمـــرد على هذه المظاهر  والتصدي لها، مقابل التركيز على عنصر الاعتزاز بالإسلام الذي يمثل قوام ثقافة هذه الأمة  ونشر الوعي الديني التقليدي واحياء التراث الفكري في محاولة للتصدي لما هو كائن.  و في هذا الإطار تحدّدت شعارات من قبيل لا للغزو الفكري والحلول المستوردة، لا لرموز الثقافة الاستعمارية... 

 

 

تيار الهوية العربية الإسلامية بين مهام الدفاع  ومتطلبات البناء

 

في المرحلة الراهنة، ومع المراجعات الذي تُصاحب تراجع نفوذ التيارات الحداثية العلمانية في المجتمعات العربية والإسلامية، يمكن القـول إن شعار التمسك بالهوية  والانطلاق من التراث والمخـــزون النفسي  للجماهير  ومراعاة خصوصيات واقعنا،  كل ذلك بات  شعـار الجميع  ومنطلقهم  تقريبا. وأن المسافات تقلصت كثيـرا خاصة بين جناحـــي تيار الهوية العروبــي والإسلامي.  فهل يعني  هذا أن  المعركة تغيرت، وأن تهم العلمانية والتغريب والشعوبية والرجعية وغيرها من التصنيفات أصبحت عاجزة  عن استيعاب المعارك الجديدة.  وعليه  فإن من خاضوا معارك الدفاع عن الهوية ، من روافد مختلفة، وحققوا  فيها نتائج  هامة،  لابد أن يملكــوا القدرة  على خوض المعارك الجديدة   في البنــــاء  الذي بات يستوجبه  المجتمع  العربي والإسلامي.  أقصد  البناء الثقافي والاجتماعي والاقتصــــادي والسياسي والمؤسساتي من أجل تنمية بشرية شاملـــــة  وتقدم  حضــــاري  ضد كــــل مظاهر التوقــــف والعطالـــــة، ومن أجـــل كسب رهانات الوحدة والديمقراطية والتحرر الكامل . فالفارق بين مرحلتــــي الدفاع و البناء يبدو جوهريا،  وعليه فإن المراجعــــة الشاملة شرط ضروري للفصل بين  طبيعة  المرحلتيـــن ومستلزمــــات كل واحـــدة، وان تغييرات جوهرية لا بد أن تحدث. 

 

 فإذا نظرنا للثقافة على سبيل المثال على أنها ذهنية ونمط سلوك، فان التساؤل عن حقيقة التغيير الثقافي  الذي ننشده في مجتمعنا يصبح جد مشروع، حتى نتحول من الشعور بالدونية إلى الثقة بالنفس، ومن الفردية إلى الجماعية، ومن اللامبالاة إلى المسؤولية،  ومن الازدواجية إلى التوازن، ومن الانسحاق والتهميش إلى تحقيق الذات وإعلاء حقوق الإنسان، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية، ومن التشتت إلى الوحدة، ومن ثقافة الغلبة إلى ثقافة المواطنة، ومن الاتباع إلى الإبداع ... باختصار التحول الثقافي يعني الخروج من واقع التخلف والتجزئة ومن حالة القهر والفقر والتسلط والتبعية وتخلف التقنيات والوسائل وتقليدية المجتمع و نمط الحياة، إلى واقع أفضل من كل ذلك. 

 

وإذا نظرنا إلى التغيير الثقافي من زاوية الفكر، فإن المطلوب في مرحلة البناء، أن نكسب معركة تجديد الفكر العربي الإسلامي على مقتضى وعي المرحلة التاريخية ، بما هي  مرحلة تنوير واستقلال العقل،  لنتبيّن كيف أهّل الله  الإنسان  لخلافته في الارض  وجاء الوحي رحمة من الله مرشدا للعقل  ثم جاء القرآن إعلانا عن توقف الوحي واستقلال  العقل.  فنسهم في التجديد بعيدا عن التردد ونزعات  التوفيق والتسلّق الكاذب على منجزات العقل ليتم ربط الدين بالثورة  وتصير العقائد  بواعث على العمل لا تعويضا عن الحاضر،  ويُوضع الإنسان في التاريخ  ليصبح صانع حاضره ومستقبله،  ويكون الإسلام في النهاية  معبئا للأمة  في كسب رهانات  التنمية و الديمقراطية والوحدة والتحرر والعدالة الاجتماعية . 

من الاجتهاد إلى تجديد التراث والمساهمة في المعرفة العالمية

 

مازال عنوان تجديد التراث يختزل مشروعنا الثقافي المتعثّر، ومازالت الحاجة متأكدة إلى مراجعة مقتضيات هذا العنوان ومضامينه، لاعتبارات عديدة يمكن إيجازها فيما يلي:

 

* الاعتبار الأول :

هو أنّ تراثنا الممتدّ في حاضرنا كمخزون نفسي وموجّه للسلوك، ما زال مؤثرا في الواقع الحاضر، بما يجعل من المتعذّر القفز عليه أو القطيعة معه. وقد بذل أعلام في الفكر العربي المعاصر كثيرا من الجهد من أجل بيان أنّ المعاصرين يعيشون بشكل من الأشكال تحت وطأة هذا التراث. وأنّ التراث ليس موجودا في المخازن وفي رفوف المكتبات بقدر ما هو موجود في الأذهان. وأنّ الناس يتأثرون برسالة الشافعي وفقه مالك وعقيدة الأشعري وفلسفة الفارابي وبمخلّفات كثيرة من الماضي، إيجابية كانت أم سلبية، حتّى  وإن لم يقرؤوا الكتب القديمة ولم يطّلعوا عليها. وبالتالي فإن التجاوز الايجابي لهذا التراث، يتم بتجديده، وليس بتكراره أو محاولة القطيعة معه أو استبداله بتراث غيره.

 

* الاعتبار الثاني:

 هو أن التجديد يمكّن من الحفر في الماضي والقضاء على معوّقات الحاضر في جذورها النفسية والتاريخية. ذلك أنّ المعوّقات التي نعاني منها اليوم في تكريس ثقافة  حقوق الإنسان وحق الاختلاف والديمقراطية واحترام الوقت وتقديس العمل وغيرها من المسائل، ليست وليدة الحقبة الحديثة، إنّما هي ضاربة بجذورها في تراثنا من خلال على سبيل الذكر لا الحصر، ثقافة الفرقة الناجية والتكفير وتأويل الوحي والفهم الجبري للقدر والنظرة القديمة للفرد وللجسد وغيرها من المسائل ذات الصلة. 

 

* الاعتبار الثالث:

 هو أنّ خصوصية الثقافة العربية الإسلامية المُتمحورة حول النصّ الديني المقدس (القرآن أساسا)، تجعلنا أيضا ممّن يقولون أنّه لا سبيل لتغيير حال هذه الأمة نحو الأفضل إلاّ باعتماد رؤية تجديدية تستند إلى إصلاح ديني لا غنى عنه، يؤسس لقراءتنا الجديدة للقرآن . وعلى حد قول جمال الدين  الأفغاني فإن " من طلب الإصلاح بغير هذا فقد جعل البداية نهاية، فينقلب عليه القصد، ولا يزيد الأمّة إلاّ نحسا ولا يُكسبها إلاّ تعسا". 

 

* الاعتبار الرابع:

 هو أن التجديد المطلوب اليوم، ليس متصلا بالتشريع فقط، كما يتم تناوله لدى غالب الإسلاميين، ولا يتوقف على المسائل ذات الطابع الديني، وإنّما المطلوب تجديد في صنوف المعرفة المختلفة. وهذا ما يعزّز الالتقاء بين العروبيين والإسلاميين على هذا الصعيد. أن نجدّد التراث يعني أن نمتلكه بمختلف أبوابه، ونحققه في واقعه وسياقه، ونبين بالتالي تاريخيته، لنكشف عن حاجة واقعنا إلى اجتهاد جديد. ونفس المنهج مطلوب أن نسلكه  في التعاطي مع  قضايا الحداثة والثقافة الغربية. بالانتقال من ذهنية الرفض والقطيعة، أو الاستهلاك السلبي والتبعية، إلى ذهنية الاستيعاب والنقد والتجاوز، بالكشف عن محلية الثقافة الغربية وبيان تاريخيتها وحدودها أيضا. وهذه كلها مباحث في الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر، الذي لم يحسم بعد قضايا التراث والتجديد بعد ما يزيد عن القرنين من انطلاق نهضته الجديدة التي لم تتحقق. 

  * الاعتبار الخامس:

هو أن التعريف الاصطلاحي للاجتهاد ضيّق المعنى اللّغوي وقصره على البعد التشريعي. فإذا كان الاجتهاد في اللغة يعني بذل قصارى الجهد، فإننا لا نفهم لماذا اختار المسلمون أن يجعلوا التعريف الاصطلاحي للاجتهاد هو "بذل قصارى الجهد العقلي لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها" . فهذا التعريف للاجتهاد قصر معنى الاجتهاد على الجانب التشريعي وكرّس إلى حدّ كبير سلطة الفقهاء في تاريخنا الإسلامي، الذين اختاروا لهم المجال المعيّن ليجعلوه مملكتهم وليكرّسوا هذه النظرة للاجتهاد. لأنّ الاجتهاد في تقديرنا هو الأداة الوحيدة التي تجعل الدين متجدّدا ومواكبا للعصر، وحينما نقصره على الجانب التشريعي نعتقد انّه لا يؤدّي هذه الوظيفة.

 

 * الاعتبار السادس:

 الذي نروم الإلماح إليه هو أنّ الاجتهاد، بالمعنى السائد، يأسر المعاصرين للقدامى. وباختزال شديد نقول أنّ الاجتهاد يكرّس الفُتيا بدل التنظير الفكري، وأن شروط المجتهد التقليدية تخلق "علماء" موصولين بالماضي أكثر من الحاضر، ويكرّرون التراث أكثر مما يقدمون إضافات جديدة في مواجهة قضايا عصرنا. فالفتاوى تصدر عن منظومة أصولية قديمة والمعروفة بعلم أصول الفقه، بما يجعل المجتهد أسيرا لهذه المنظومة التقليدية القديمة. 

 

* الاعتبار السابع:

 هو أنّ الاجتهاد الذي يُسوّق مرادفا للتجديد، كما يُقدّم إلى حدّ الآن في الثقافة وفي التراث العربي الإسلامي، يكرّس نظرة محلّية وقوميّة للإسلام، ويطمس عالميّة الدين والإسلام على وجه الخصوص. لأنّ الإسلام في رأينا هو دين عالمي وليس ديانة محلّية، وهذا من صميم خطابه ومن صميم حركة الفتح التي تزامنت مع صعوده، وهي الحركة التي أخرجته من الجزيرة العربية ليكون دينا عالميا، كما بين ذلك بامتياز هشام جعيط في كتابه عن الفتنة الكبرى. ونعتقد أنّ الدين بصفة عامّة والإسلام عل وجه الخصوص، يخاطب الإنسان ويقدّم حلولا لمشاكل الإنسان أينما كان هذا الإنسان، أمّا الاجتهاد كما كُرّس إلى حدّ الآن فهو يبحث عن حلول  لمشاكل المسلمين ويقتصر على قضايا محلّية.

 

فمنذ قرون انقطعت مساهمة المسلمين في الثقافة الكونية وفي القضايا العالمية وفي مخاطبة الإنسان. بل نستبعد أن يكون فقيه من فقهاء هذا العصر يفكّر في أن يحلّ مشاكل إنسانية معيّنة في أيّ مكان من الأرض. والحال أن المجتهدين من المفكّرين المسلمين القدامى وفي مقدّمتهم الفيلسوف ابن رشد، هم في رأينا النموذج المُفترض للمجتهد. فهؤلاء فكّروا في قضايا الفلسفة، القضايا الكونية التي تشغل العقل الإنساني، ثمّ بعد ذلك كانت لهم اجتهادات في إطار ثقافة محليّة على نحو "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد. هذا النموذج المطموس للاجتهاد وللمجتهد انقطع، وأصبحت مساهمة المسلمين تقارب الصفر في القضايا ذات الطابع الكوني. وهذا راجع في جزء منه إلى المفهوم الضيّق للاجتهاد وصرفه عن بذل الجهد العقلي في جميع شعب المعرفة وقضايا النّاس، وقصره على الجانب التشريعي.

 

* الاعتبار الثامن والأخير:

هو أنّ الاجتهاد كما كُرّس في التاريخ الإسلامي قد غاب فيه ما يصطلح عليه الآن بالوعي التاريخي. لأنّ الاجتهاد يكرّس نظرة تراكمية للتاريخ، فيجعل النصوص تلاحق المُستحدثات. لأنّ النصوص متناهية كما قال القدماء والمشاكل والقضايا غير متناهية، ولذا نحتاج باستمرار إلى أن نلاحق هذه القضايا اللامتناهية بنوع من الفتاوى. وهذا ما يجعل الفقيه يتسلّق على العصر ويحاول أن يُركّب القديم على الجديد، فيما يسمّى أحيانا بالتلفيق أو بالترميق. ويُغفل التحوّلات المعرفية النوعية .

 

هذا إضافة إلى أن الاجتهاد يدور ضمن رؤية قديمة وتقليدية للّغة ومباحثها، فيما يُسمّى بالمحكم والمتشابه وقطعي الدلالة وظنّي الدلالة وغيرها من المسائل، وهي مباحث تعود إلى نظرة قديمة للّغة بعيدة عن مدارس الألسنية الآن والتفكير اللغوي والهرمونيطيقا وفلسفات الحداثة وما بعد الحداثة والكثير من شعب المعرفة ومذاهبها الجديدة.

 

إن قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، المتصلة على سبيل الذكر لا الحصر، بالمواطنة وبالدولة التعاقدية التي تتلازم فيها الحقوق والواجبات، وبحُرمة الجسد وأولوية الحريات الشخصية واحترام المؤسسات وتمكين المرأة وتحقيق مساواتها الكاملة بالرجل وغيرها من المسائل التي تثير الجدال اليوم ، لا يمكن أن نجيب عنها في ما نخلص إليه، انطلاقا من نظرتنا القديمة للاجتهاد، ولا من مجرّد دفاعنا عن هويتنا، وإنّما من خلال فكر عربي إسلامي تجديدي في شعب المعرفة المختلفة، لا يعيد بناء العلوم القديمة، بل يبدع و يؤسس علوما جديدة ويرتقي إلى المساهمة العالمية.