وجهة نظر

بقلم
بسّام العقربي
الثورة والفساد، من المسؤول؟
 لم تكن ثورة 17 ديسمبر 2010 سوى نتاج لحالة من التّدهور الإقتصادي والاجتماعي بالدّرجة الأولى، زادها الإستبداد السّياسي تعفّنا ودفع بها نحو الإنفجار، وكانت سيدي بوزيد تلك النّواة الأولى للإنفجار الاجتماعي العظيم، سبقتها قبل ذلك أحداث كانت بمثابة صافرة الإنذار، وأهمّها أحداث بنقردان في الجنوب الشّرقي سنة 2010، وحراك الحوض المنجمي سنة 2008. لم تكن الرّديف وبنقردان حالتين منعزلتين، بل المجتمع التّونسي عموما حينها سيطرت عليه حالة من التّشاؤم واليأس ممزوجة بالغضب أحيانا، ترجمها بالخصوص الشّارع وخاصّة الجماهير الرّياضيّة داخل الملاعب وإتحادات الطّلبة داخل أسوار الجامعات، وهنا يمكن التّذكير بتحرّكات طلبة جامعة صفاقس المساندة لتحرّكات الحوض المنجمي، وتحركات جامعات سوسة وصفاقس سنة 2005 احتجاجا على مشاركة الوفد الصّهيوني في قمّة المعلومات... إلخ. كما ترجمتها بعض الظّواهر الاجتماعيّة الانهزاميّة كالتّسرّب الدّراسي، وعزوف المراهقين خاصّة عن الدّراسة وهروبهم منها سيّما في التّعليم الأساسي والثّانوي أي بين سنّ 13 و20 سنة تقريبا. كما ازدهرت الجريمة والسّرقة والانحراف وترويج واستهلاك المخدّرات ونحوها. كلّ تلك الظّواهر الاجتماعيّة كان سببها عجز النّظام حينها عن حلّ مشاكل الشّريحة الأكبر في البلاد وهي الشّباب حيث وصلت نسب البطالة عنده حوالي 14 % حسب المعهد الوطني للإحصاء سنة 2010.
لم يكن الشّباب وحده من يعاني، بل كان الرّيف العميق بدواخل البلاد وحتّى بعض المناطق على السّاحل تعاني من حالة من الإهمال واللاّمبالاة من قبل النّظام. فبعد ستّين عاما من الاستقلال لا تزال العديد من العائلات في الرّيف البعيد تقطن الأكواخ وأحيانا حتّى الكهوف، وحتّى بعض الأنشطة الزّراعيّة قد اندثرت بسبب عدم دعم صغار الفلاّحين واضطرار الكثير منهم للنّزوح نحو المدن السّاحليّة واستيطان الأحياء الهامشيّة والطّرفيّة، أين يكثر الفقر والتّهميش وسرعة الاستقطاب إمّا نحو الجريمة المنظّمة وتجارة الممنوعات أو نحو الجماعات المتطرّفة، وحتّى محاولات الإصلاح والتّدارك من قبل النّظام الحاكم وقتها لم تكن سوى عمليّات ترقيع لنظام اقتصادي واجتماعي بالٍ، لم تعد سياسة التّرقيع فيه مجدية بل ما ينفعه هو سياسة الهدم وإعادة البناء على الأسس الصّحيحة التي يرضاها الشّعب لنفسه عن طريق انتخاب نوّابه وحكّامه ومسؤوليه الجهويين و المحلّيين بطريقة شفّافة ونزيهة على قاعدة الحرّية والدّيمقراطيّة، وهو ما تحقّق فعلا للشّعب التّونسي بعد ثورته على الظّلم والاستبداد والحيف الاجتماعي بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011.
كان الأمل كبيرا لدى عموم الشّعب التّونسي وخاصّة فئة الشّباب الذي قاد الثّورة في جميع المدن والأحياء والقرى الى أن دخل السّياسي وأفسد أمره، وأوّل من أفسد أمر الثّورة التّونسيّة هي «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثّورة والإصلاح السّياسي والانتقال الدّيمقراطي» والتي أسّست لنظام انتخابي سبّب حالة من التّأزّم السّياسي لمدّة عشر سنوات ولا يزال. ذلك النّظام الذي يعتمد على العتبة، فيُمكّن نائبا من الفوز بـ 30 ألف صوت مقابل نائب آخر يفوز بـ 2500 صوت فقط، وهو ما يخلق دائما حالة «موزايكيّة» داخل البرلمان، فلا أحد يمتلك الأغلبيّة ليتحمّل مسؤوليّة إدارة البلاد ومن ثمّ يحاسبه الشّعب على ذلك، وهو ما يفتح الباب أمام التّحالفات البرلمانيّة المشبوهة على حدّ ظنّ فئة كبيرة من الشّعب، خاصّة وأنّ مسار العمليّة التّنمويّة شبه معطّل وأحيانا يسير بالسّالب. فما الذي يجعل مسار النّمو الاقتصادي معطّلا بعد ثورة قامت من أجل الكرامة؟
-1 منظومة الأحزاب، غريزة البقاء قبل الإصلاح.
منذ الثّورة انتهجت الأحزاب سياسة التّحالفات الحزبيّة السّياسيّة والإديولوجيّة الضّيقة مهمّلة تماما المطالب الشّعبيّة ومستجيبة للوبيات الدّاخلية والقوى الخارجيّة التي تمدّها بالدّعم اللّوجستي أثناء المؤتمرات والانتخابات. فتقرير دائرة المحاسبات يأتي سنويّا محمّلا بحزمة من الخروقات التي ترتكبها الأحزاب، خاصّة فيما يتعلّق بتمويلها من الخارج، الاّ أنّ تلك الملفّات تظلّ في رفوف محكمة المحاسبات، وحتّى الملفّات التي تجد طريقا للمحاكم، تصبح هناك نسيا منسيّا أمام ضعف وهشاشة المنظومة القضائيّة التي أصبحت بيد بعض الشّخصيّات النّافذة، والأحزاب السّياسيّة، والكتل البرلمانيّة التي وجدت نفسها طوعا أو كرها في خدمة عصابات داخليّة ودوليّة.
الغريب في الأمر أنّ الكتل البرلمانيّة صارت تتقاذف التّهم فيما بينها على مرآى ومسمع من انتخبهم، فمنهم من يتّهم أطرافا بخدمة أجندات خليجيّة، ومنهم من يتّهم أطرافا أخرى بخدمة أجندات فرنسيّة، وآخر بخدمة مصالح تركيّة، والكلّ يدرأ عن نفسه تلك التّهم. تُهَمٌ تتأكّد للشّعب بما لا يدع مجالا للشّك من خلال حزمة القوانين المصادق عليها والمرفوضة من قبل البرلمان، فعلى سبيل الذّكر لا الحصر نجد البرلمان يُسقط اتفاقيّة التّجارة الحرّة مع الدّول الإفريقيّة، مقابل ذلك يرفض المصادقة على قانون منح تأشيرة بمبلغ رمزي للسّياح القادمين من أوروبا، فيتأكّد للشّعب أنّها قوانين دُبّرت بليل لاتخدمه بل تخدم دول الاتحاد الأوروبي وشعوبها. في ذات الوقت تتلكّأ الحكومات المتعاقبة في إعطاء الصّين مشاريع استثماريّة في عموم البلاد، كالميناء العميق بجرجيس وجسر جزيرة جربة، فتتأكّد لدى الشعب خدمة الحكومات التّونسيّة لأجندات فرنسيّة. 
بالإضافة إلى ذلك يرفض البرلمان المصادقة على قوانين تتعلّق بالتّرفيع في منح الطّبقات الهشّة من 180د الى 250د، وإعطاء منح للعاطلين إلى حين حصولهم على وظائف، كما ترفض إسقاط ديون صغار الفلاّحين. مقابل ذلك يصادق على إسقاط ديون كبار رجال الأعمال والتّخفيض في الضّريبة على «اليخوت» التي يمتلكها الأثرياء، فيتأكّد مجدّدا للشّعب أنّ تلك الأحزاب التي تمتلك كتل برلمانيّة قويّة جاءت لخدمة رؤوس الأموال وإهمال الطّبقات الضّعيفة والمتوسّطة، وهنا ظهر نوع من التّصادم بين الشّعب والأحزاب تمظهر بأشكال متنوعة:
1.1.  إنتخاب رئيس مستقل.
في أكتوبر 2019 نفض الشّعب عن نفسه غبار الإيديولوجيا الحزبيّة وانتخب رئيسا مستقلاّ للبلاد، وهو ما اعتبر ضربا شعبيّا قويّا للمنظومة الحزبيّة برمّتها، والتي شعرت بالتّهديد في وجودها واستمراريتها. تدعّم هذا التّهديد بفشل الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانيّة في تشكيل حكومته، وعجزه عن تجميع حلف يضمن المصادقة على تلك الحكومة، وهو ما أعطى الرّئيس الذي ضرب المنظومة الحزبيّة فرصة ذهبيّة في تعيين رئيس حكومة، فعيّن واحدا من خارج المنظومة الحزبيّة الفائزة في الانتخابات البرلمانيّة وهو ما عزّز مزيدا من الخوف لدى تلك الأحزاب التي ستجد نفسها مجبرة على التّعامل مع رئيس مستقلّ يرى في الأحزاب شكلا من أشكال الفساد السّياسي، ورئيس حكومة من خارج اُطرها الضّيقة يستمدّ قوّته من ذلك الرّئيس.
حسب بعض المحلّلين تأكّد خوف الأحزاب من مخرجات انتخابات 2019 عندما لعبت حكومة الرّئيس ملف الأموال المنهوبة من قبل الرّئيس وأصهاره، وأشهرهم ملف «مروان المبروك»، وكذلك ملف تمويل الأحزاب. عندئذ قرّر البرلمان إسقاط تلك الحكومة التي يمتلك الحزب الأغلبي فيها 6 وزراء، فقام رئيس الحكومة بتقديم استقالته لرئيس الجمهوريّة كردّ فعل على ما أتته منظومة الأحزاب.
1.2. الحرب الإعلامية على الرئيس المنتخب.
بمجرد وصوله للحكم، قام الرّئيس بعقد ذلك الاجتماع المشهود بمناسبة إحياء ذكرى الثّورة في مدينة سيدي بوزيد أين أخذ في مهاجمة الأحزاب السّياسيّة التي نعتها بالأحزاب الفاسدة والتي كان يمثلها دائما بالجراد في قولته المشهورة «أيرجى بالجراد إصلاح وقد جبل الجراد على الفساد»، وقد دعا الرّئيس وقتها إلى ضرورة تفعيل ما يسمّى بالحكم المحلّي، فتعالت أصوات الأحزاب في وسائل التّواصل الاجتماعي بأنّ الرّئيس يريده حكما شعبيّا شبيها باللّجان الشّعبيّة التي ميّزت بعض الدّول الاستبداديّة. ذلك الاجتماع عقبه اجتماع ثان بمجلس الأمن القومي بحضور رئيس البرلمان، أين توجّه له رئيس الجمهورية بترسانة من الأسئلة في شكل اتهامات غير مباشرة حول الأموال المنهوبة، واجتماع ثالث بقيادات الجيش وذلك الخطاب التّهديدي للأحزاب واتهامها بالتّغطية على الفساد، وتركها عنوة لملف التّنمية الاجتماعية. تلك التّحركات للرّئيس مثّلت فرصة سانحة للأحزاب للتّهجم عليه، وتشويه صورته لدى الرّأي العام في وسائل التّواصل الاجتماعي، واتهامه بالرئيس المنقلب على الشّرعيّة والدّاعي للانقلاب العسكري وتقويض التّجربة الدّيمقراطية التّونسيّة.
1.3. دعوة أنصار الرئيس لحلّ البرلمان.
منذ انتخابه على رأس الدّولة، أصبح أنصار الرّئيس يرون في البرلمان حامي لمصالح الفاسدين من خلال ما يسمّونه بالتّحالفات المشبوهة، كما أنّه أكبر معطّل للعمليّة التّنمويّة من خلال التّشريعات التي لا تتوافق مع الواقع الاجتماعي للفقراء والعاطلين. لذلك تتالت الدّعوات مؤخرا من قبل أنصار الرّئيس إلى حلّ البرلمان، لأنّهم يرون في ذلك ضربا لوكر من أوكار الفساد، تحاك فيه الدّسائس ضدّ الفئات الضّعيفة من الشّعب، في ذات الوقت يبقي موقف الرّئيس غامضا بخصوص تلك الدّعوات، فلم يثبت مثلا في تصريح له أنّه يوافق أنصاره في حلّ البرلمان كما لم يثبت عليه أنّه ردّ عليهم بأنّ ذلك عبث أو ضرب للمسار الدّيمقراطي في تونس، وهو ما طرح جدلا واسعا حول التّماهي في الأفكار بين الرّئيس وأنصاره خاصّة وأن بعض الكتل البرلمانيّة و الأحزاب تدعم الرّئيس وأتباعه كحركة الشّعب مثلا و بعض القيادات في التّيار الديمقراطي وكذلك بعض المستقلين.
-2 دور النقابات
لا يكاد يختلف اثنان على أنّ النّقابات عطّلت بشكل كبير العمليّة التّنمويّة في عموم البلاد عن طريق الإضرابات والاعتصامات والمطالبات المشطّة في المنح والزّيادة في الأجور. سبب ذلك مجموعة من المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة كإجبار الدّولة على الاقتراض لسداد الأجور، ومن ثمّ عجزها عن انتداب العاطلين وكذلك ارتفاع نسبة التضخم مما تسبب في ارتفاع مشط للأسعار وانهيار القدرة الشرائية خاصة للطبقة المتوسّطة والضّعيفة وهو ما ساهم في ارتفاع نسب الفقر خاصّة في المناطق الدّاخلية المهمّشة.
-3 وعي الشّباب
سيطر أرباب الأموال على مفاصل الدّولة من باب المال الفاسد وسطت النّقابات على كافة المؤسّسات الحكوميّة، ممّّا خلق لدى الشّباب العاطل وعيا مُماهيا لما تمارسه اللّوبيات والنّقابات، فتحوّل دور الشّباب العاطل من مُحفّز للتّنمية وفاعل فيها الى معطّل لها. فما تأخذه لوبيّات المال بالرّشاوي والمحسوبيّة والتّمويلات المشبوهة، وما تأخذه النّقابات بقوّة الإضرابات، يريد أن يأخذه الشّباب العاطل «بالشّرعية الثّوريّة»، فنجده يغلق الطّرقات ومناطق الإنتاج، ويعطّل الصّالح العام لإجبار الحكومات على تلبية مطالبه، فتضطر الحكومات إلى الاستجابة طوعا وغالبا كرها، فيتمّ انتدابهم في قطاعات مستنزفة للمال العام وغير منتجة كشركة البيئة والغراسة وشركات البستنة... إلخ، وبذلك تحوّل الشّباب من شباب عاطل بلا راتب الى شباب عاطل براتب.
-4 البيروقراطية والخوف من التغيير.
لم تنخرط تونس كبقيّة دول العالم فيما يعرف بالحوكمة من خلال المنصّات الحكوميّة الرّقميّة أو ما يعرف بالإدارة الرّقميّة لتسهيل الخدمات العموميّة على المواطنين من ناحية ولتشجيع رؤوس الأموال الأجنبيّة على الاستثمار في البلاد، وخلق ديناميّة اقتصادية تتماشى بنفس الوتيرة مع بقيّة الدّول التي تتعامل معها، وهذا ما عطّل عديد المشاريع التي كانت من الممكن أن تدخل البلاد. ففي عديد الدّول القريبة منّا اقتصاديّا واجتماعيّا، تمّ إلغاء التّعامل الورقي فيها وأصبحت كلّ الوثائق المطلوبة من المستثمرين لإنشاء الشّركات والانتصاب فيها إلكترونيّة ومتاحة في المواقع الالكترونيّة للوزارات، ولا يحتاج المستثمر للوقوف ساعات طويلة في طوابير البلديّات لاستخراج وثيقة ما أو للتّعريف بالإمضاء على وثيقة أخرى مثلما هو الحال في تونس. كلّ هذا يصبّ في خانة الابتزاز والمحسوبيّة من ناحية، ومن ناحية أخرى يعتبر مرضي ومجدي لبعض العائلات المتنفّذة التي تجاوزت موضوع البيروقراطيّة عن طريق الرّشاوي والوساطات حتى أصبحت لا تحتاج الى منصّات رقميّة، بل أضحت ترى في رقمنة الإدارة ضربا لمصالحها ومشجّعا على الاستثمار في تونس، وربّما خلق منافسين في عديد القطاعات التي تهمّها وهو ما تخشاه. في ظلّ ذلك تأبى الحكومات رقمنة الإدارة التّونسيّة خوفا من اللّوبيات المستفيدة وخوفا من التّغيير، لأنّها ترى في التّغيير ربّما أبوابا ثانية للفساد.
ختاما، من الخطأ إلقاء المسؤوليّة على الحكومات التي لم تحارب الفساد لأنّ أغلبها قد وضع موطأ قدم في ذلك، ومن الخطأ كذلك تحميل كافة المسؤولية للوبيّات المال والنّقابات، فمنهم من ساهم ولو بالقليل في إنجاح المسار، كما أنّه من الشّين الكبير تحميل المسؤوليّة للشّعب في عدم حماية مساره واتهامه بتعطيل مصالح الدّولة أحيانا، فالشّعب لا يزال يعقد آمالا كبيرة في ثورته وهو العين السّاهرة عليها، وإنّما هي في النّهاية عقليّة وثقافة التّونسي التي تشكّلت منذ عقود وخلقت منه بحكّامه ومحكوميه، أغنياء وفقراء... شعبا يميل للثّبات ويتوجّس خيفة من التّغيير، وإنّما نحن نتاج تاريخنا وثقافتنا.