في العمق

بقلم
نجم الدّين غربال
اقتحام العقبة الجزء الثّاني: الكيفيّة
 حدَّدنا في الجزء الأول من اهتمامنا بـ «اقتحام العقبة»(1) أهمّ مُتطلِّبات عمليّة الاقتحام، خاصّة فكَّ الرّقاب عبر تحريرها ذاتيًّا وحضاريًّا، مع إبراز المُواصفات التي بدونها لا يُمكن اقتحام العقبة التي تحول دون تيسير حياة الأفراد والمجتمع.
ومن هذه المواصفات التّحرّر من  النّوازع النّفسية، سواء تلك التي تدعو الى توظيف المُستوى العلمي لتلبية الجشع الذي يُراود النُّفُوس، أو إرادة العلوِّ في الأرض لديها والفساد فيها، أو تلك التي تجعل مَن يُفترض أن يكونُوا أهل الاقتحام، من عُلماء وحُكماء، مُتعلُّقِين بالآني الظّرفي الذّاتي أو الفئوي، بدَلَ الاهتمام بالاستراتيجي الإنساني، أو أن يكونوا خَدَمًا لصُنّاع القرار السّياسي عِوَضَ أن يكُونُوا قادة لهم في عملية الاقتحام.
ولاقتحام العقبات الظّاهرة، من دُيون تجاوز حجمها القُدرة على سدادها، وبطالة هيكليّة، وفقر مُتعدّد الأبعاد، وأوبئة وتلوث بيئي، لا بُدَّ من اقتحام العقبات الباطنيّة أوّلا، خاصّة مع  تتالي الأزمات مُتعدِّدَة الأوجه، وتعقّدها، واضطراب مناخ الأعمال والاستثمار، وكذلك تردّي نوعيّة حياة النّاس وتراجع مُستوى عيشهم الاقتصادي والاجتماعي وكذلك البيئي، فغدا العمل نادرا، وإِن وُجد للبعض فإنّه لا يُوفِّرُ لهم مقدرة شرائيّة تُلبّي حاجياتهم؛ كما بات الفقر والمرض ينهش فئات عريضة من المجتمع، ما فتئت دائرتها تتمدّدُ وتتوسّعُ، وتدهورت كذلك شروط الحياة بتلوث البيئة والمحيط، إلى أن وصلنا إلى ظهور وباء استعصت مُعالجته.
فكيف تتحقّق عمليّة اقتحام العقبات الباطنة، وما هي الآليّات المُساعدة على القيام باقتحام العقبات الظّاهرة للوصول الى تيسير حياة الأفراد والمجتمعات؟
كيفية الاقتحام
تبدأ عمليّة اقتحام العقبات الظّاهرة أوّلا، باقتحام العقبات الباطنة من تصوّرات ومنطلقات ومشاعر، خاصّة حين تكون تلك التّصورات السّائدة عن الوُجود والحياة والإنسان مُنبتّة ومشبوهة، وتكون المُنطلقات المعتمدة في منهج معرفة أحوال النّاس خاصّة الاقتصاديّة منها والاجتماعيّة مُضِلّة ووضعيّة، ويكون الشّعور الغالب تُجاه المال شعور الملكيّة المطلقة له، وما يُنتجه من سياسات وممارسات ماليّة مُنحرفة إيرادا وإنفاقا، سواء على مستوى الفرد أو وحدات الإنتاج أو الدّولة وتنظيماتها السّياسيّة والإدارية والماليّة والنّقديّة. 
وقد عملت المنظومة السّياسيّة والتّعليميّة والإعلاميّــة والثّقافيّــة الطّاغية لعقود من الزّمــن، على توطين تلك التّصورات والمناهج في العُقول وعلى ترسيخ شعور الميل للمال وملكيته ملكية مُطلقة، فغدا الإنسان غير معني بإمعان النّظر في الوّجود ودلالاته، وأصبحت الحياة في تصوّر «النّخب» والنّاس عَيش لا غير، فبات تلبية الحاجات الاستهلاكيّة هدفَ الحياة، ولتحقيق ذلك تمحورت حياتهم حول الحصول على المال بشتّى الوسائل المشروعة منها وغير المشروعة، الى أن أصبح امتلاك المال غاية في حدّ ذاته، فأضحت الاهتمامات المعيشيّة الدّنيويّة أكبر همٍّ للإنسان وَمَبْلَغَ علمه، وباتت الاهتمامات الحياتِيَّـة آخر اهتماماته، وأصبح العلم أداة لتلبية جشع الإنسان، وبُنِيَ لهذا العلم منهج وضعيّ من خلال الاعتماد على مُسلّمات تعكس جشع الإنسان كمُسلمة أّن «احتياجات الإنسان لامحـدودة» أو مُسلّمة «النُدرة» التي وَفَّرَت مُبرّرا لكثير من المظالم في حقّ أغلب أفراد البشريّة، وقد عَمِلَ المُترفون على تكريس تلك المسلّمات بهدف أسر صُنّاع القرار السّياسـي والاقتصـادي في العالم، مِمَّا عسّر حياة الافراد والمُجتمعات.    
إن تصوّرات بهذه المضامين حول الوُجود والحياة والانسان لا يُمكن أن تُساعد حاملها على اقتحام العقبة، ولكن لماذا؟ وأيّ مضامين بديلة عن تلك التّصورات لِبلورة إطار معرفي أمثل لكيفيّة الاقتحام؟ وما المنهج البديل لمعرفة سليمة بأحوال النّاس اقتصاديّا واجتماعيّا، خاصّة وأنّ المعرفة السّليمة جزء من الحلّ؟ وأيُّ علاقة بديلة بالمال تُعيد له دوره المحوري في خدمة النّاس وتحقيق النّفع لهم بَدَلَ أن يكون المال محور حياة النّاس وكلّهم خَدَمًا لجمعه؟
- تصوّرات بمضامين موصولة وحيّة
ليس بالتّصورات ذات المضمون المُنبت عن أصل الأشياء أو الجامد، جُمود مخزون فلسفي وإيديولوجي مُستعلٍ على الحقِّ، نتمكّن من اقتحام العقبات التي تحُول دُون تيسير حياة الأفراد والمجتمع.
• فعلى مُستوى الوجود، لا تستحضر التّصورات السّائدة فعل الخلق الذي شمِل الوجود ذاته والنّظام الذي هو فيه وما يعنيه من انضباط وانسجام وتكامل، وكذلك تسخير ما فيه من سماوات وأرض كعطاء مستمر للبشريّة جمعاء وما يُوحي ذلك كلّه من أنّ الوجود وأَلَقَهُ يتوقّف على قيم النّظام لا التّسيّب، والعطاء لا الأخذ أوالمطلبيّة، وبالقياس فإنّ حياة الأفراد والمُجتمعات وتيسير حياتهم، تتوقّف على مدى سلامة نظامهم ودرجة كلّ من انضباطهم وانسجامهم، وتكامل أدوارهم وكذلك على مُستوى عطائهم.
 وكذلك جعل اللّيل والنّهار «خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا»(2) وما يعنيه ذلك الجعل من أنّ الوُجُود بعيد كلّ البُعد عن العبثية، ممّا يستوجب الاهتمام به تفكُّرا مُبدعا خلاَّقا لما ينفع النّاس وتفاعلا وجدانيّا عميقا لتعميق الاحساس بإنسانية الإنسان وغائيّة وجوده لا عبثيَّتِه، وأنّ خَلْقَهُ كان لحكمة مُحاصرة النّسيان لدى الإنسان والغفلة عن الرّازق الغنيّ من جهة، ولتوفير فُرص له ليعمل عملا حسنا شكرا لله من جهة ثانية وذلك من خلال نفعه للنّاس، لما في ذلك من تيسير لحياة الأفراد والمُجتمعات.
• وعلى مستوى الحياة، لا يُمكن اقتحام العقبة من طرف من لهم تصوّرات، تستبعد فعل الخلق الذي شمل الحياة والموت وتجهل أو تُنكر أنّ الخلق إنّمَا تَمَّ لِيَبْلُوَ الخالق كلّ أفراد الإنسانيّة أيُّهُمْ أحسنُ عملا، وذلك في تفاعل مع دورات الخير والشرّ التي تتناوب طيلة عمر الإنسان.
وتبعا لما تقدّم، يُعلي تصوّر الحياة الموصول بخالقها  قيمة حُسن العمل وما يعنيه من إتقان النّشاط في جميع مجالات حياة النّاس، وجمال مُخرجاته وما يُحقِّقُه من أمن وطمأنينة ووفرة في الإنتاج وسلامته، ومن جهة أخرى يجعل هذا التّصور للحياة حُسنَ العمل الفَيْصَل بين الجميع لا غير وما تحمله من رسالة للعالمين مفادها «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسُ المُتَنَافِسُون» وكل ذلك روافد لتيسير حياة الأفراد والمجتمع.
• أمّا التّصوّرات عن الإنسان، فقد طغى عليها الاختلاف والتّغير، بحكم اختلاف الإيديولوجيّات والنّظريات والفلسفات وتصارعها، فلم تزد تلك التّصوّرات حياة الأفراد والمُجتمع الاّ تعسيرا، فكلّها تنظر للإنسان لا من حيث أنّه قيمة بل من حيث أنّه بضاعة تُباع أو تُشترى في سوق السّياسة، أو أنّه مورد من موارد الإنتاج بكُلفته ومردوديّته في سوق الاقتصاد، وهي تصوّرَات تتجاهل قيمة الإنسان التي منحها خالقه له منذ أن سوّاه ونفخ فيه من روحه، وعلّمه الأسماء كلّها، وما خصّه من تكريمٍ وحملٍ في البرّ والبحر، وكذلك من رزقٍ من الطّيبات ومن تفضيلٍ على كثير ممّن خلق تفضيلا، ولن تتيسّر حياة الأفراد والمُجتمعات ما لم يُعْلُوا قيمة الإنسان، وتتمحور كلّ السّياسات حول تلك القيمة.
من جهة أخرى، فإنّ التّصورات السّائدة تُعتبر عبثية لأنّها لا تستحضر حمل الإنسان للأمانة التي عرضها اللّه سبحانه على السّماوات والأرض، فَأَبَيْنَ أن يحملنها وحملها هو، وما تتطلّبه تلك الأمانة لحملها من علم وعدم ظلم مما يُوحي بأنّ تيسر حياة الافراد والمجتمع يتوقّف على قيم العلم والعدل والانصاف.
- منهج لمعرفة الواقع بمُسلمات قرآنية
ننظر للقرآن والوُجود البشري والطّبيعي على أنّهما كتابان لمُبدع واحد هو اللّه الخالق الرّازق والحاكم، الأول كتاب مُنْزَل من عِنده ومُرَتّـلٌ، والثّاني كتاب واقع ومقروء، والاختلاف بين البشر يكمن في قراءة الواقع خاصّة الاقتصادي والاجتماعي والبيئي منه، قراءة تُحدّد الى حدّ كبير نوعيّة حياة الأفراد والمُجتمعات يُسرا أم عُسرا، وذلك من خلال فهمها للظّواهر الاجتماعيّة واستكشاف حقائقها وما تطرحه من حلول يتمّ ترجمتها من خلال سياسات تُحدّد نتائج تطبيقها نوعيّة حياة الأفراد والمجتمع يُسرا أم عُسرا.
وإن كانت قراءة العالم الفيزيائي أو البيولوجي ولكيفيّة عمله قراءة لا يختلف فيها إثنان مع اختلاف الدّوافع والاستفادة منها، فإنّ قراءة الواقع الاجتماعي تختلف باختلاف إطار التّحليل المُتّبع للفهم ومكوناته من أصول وقيم وأحكام.
ولا يزال المُنشغلون بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أسرى قراءة تعتمد منهج ينطلق من مُسلّمات وضعيّة لتحليل ظواهر هذا الواقع وإشكالياته، ضمن إطار من القيم المادّية، وتبحث على تفسير له من خلال وضع نظريّات «علميّة»  كمنظومة من القوانين المفسّرة للظّواهر الإنسانيّة وذلك بردّها إلى العلاقات الحتميّة أو الاحتماليّة التي تحكم سيرورتها ويُعتمد عليها لرسم واقع حياة الأفراد والمجتمع من خلال وضع مجموعة من السّياسات. 
وبالنّظر للواقع وأزماته المُتعاقبة وظواهره التي بات الانسان ضحيّة لها وأصبحت حياته عسيرة يُمكن الإقرار بأنّ تلك النّظريات أضحت مُنفصلة عن الواقع، أي عاجزة عن الاضطلاع بتيسير حياة الأفراد والمجتمعات، وهي بالتّالي عقيمة، أي أنّ مسلماتها الوضعيّة غير سليمة ممّا يدفعنا الى اعتماد مُسلّمات مُستوحاة من القرآن باعتباره كتاب هداية يخبر الإنسان عن أصله ومصيره وما المطلوب منه ليحيى حياة طيّبة  تفتح أمامه بركات (خيرات) من السّماء والأرض(3).
مُسلّمات نبني عليها نظريّاتنا لمعرفة الواقع، ونبلور من خلالها سياسات لتيسير حياة الأفراد والمجتمعات، مُسلمات نستوحيها من خلال قراءتنا للقرآن والواقع على حد سواء، قراءة استهل الله سبحانه تنزيله بتوجيهنا إليها من خلال رسوله الكريم بالآية «إقرأ باسم ربك الذي خلق»(4)، قراءة دعانا لإقرانها بإسمه الدّال على ربوبيته واستحضار خلقه للإنسان مع تذكيرنا بأنّه الأكرم للإنسان باستعمال الألف واللاّم، قراءة تهدف التّعلم للحصول على المعرفة العلميّة التي لا شكّ فيها والتي تعكس حقيقة الأشياء لا تخمينات حولها هاديا الى منهج علمي بالقلم، فريد من نوعه. 
- المال مال الله لا دُولَة بين الاغنياء 
من العقبات التي عسّرت حياة النّاس الشّعور المُنبت تُجاه المال عن صاحبه الأصلي وهو اللّه سُبحانه، شعور ولّد شعورا بالملكيّة المُطلقة للمال، ممّا سمح لمن يدّعي ملكيته حقّ التّصرف المُطلق فيه إيرادا وإنفاقا، ليبدأ معه مسار العبث بالمال وما يُنتجه من ظواهر البطالة والفقر والمرض. وأضحى المال دولة بين الأغنياء من النّاس، إذ تُقدّر الدّوائر المختصّة أنّ نصف ثروات العالم في حوزة 1 % فقط من سكانه(5)، حوز للمال يتراوح التّصرف فيه بين الإسراف والتّقتير، ولم يكن بين ذلك قواما، فتعسّرت حياة الأفراد والمجتمع ككل، وعكس ذلك التّصرف قلّة الاستثمارات وما ولَّدته من تنامي عدد العاطلين عن العمل وتراجع اقتصادي دفع الى زيادة التّداين من جهة، ومن جهة أخرى تنامي ظاهرة الفقر والتي زادتها جائحة كورونا تفاقما.
على أنقاض التّصورات التي تسبّبت في عسر حياة الأفراد والمجتمعات، بلورنا في هذا المقال إطارا معرفيّا أمثل لكيفيّة الاقتحام وذلك من خلال توضيح التّصوّرات عن الوجود والحياة والإنسان ومضامينها الموصولة بخالقهم والحيّة لتيسير حياة النّاس، وعدَّدنا القيم المستوحاة من تلك المضامين لتيسير حياتهم من علم وإنصاف وعطاء ضمن نظام مجتمعي يُشيعُ انضباط أفراده، وانسجاما كاملا بينهم وتكامل أدوار بعضهم بعضا.
ثُمَّ عرضنا منهجا لمعرفة سليمة بأحوال النّاس، اقتصاديّا واجتماعيّا، انطلاقا من مسلّمات قرآنيّة وما تُنتِجُهُ من نظريّات يتمّ الاعتماد عليها لوضع سياسات تتمحور حول كرامة الإنسان وقيمته المطلقة كرافد آخر من روافد تيسير حياة النّاس.
وختمنا بتصحيح التّصور السّائد للمال، حين قلنا أنّه للّه ولا يجوز أن يكون دولة بين الأغنياء ليعود له دوره المحوري في خدمة النّاس وتحقيق النّفع لهم بَدَلَ أن يكون المال محور حياة النّاس وخَدَمًا لجمعه. بعد كلّ ذلك، نخوض في الجزء الثّالث القادم إن شاء اللّه، من «اقتحام العقبة» آليات الاقتحام والتي نجمعها في ثلاث، وأوّل تلك الآليّات رؤية استراتيجيّة وسياسات بديلة، وثانيها تمكين إداري ومؤسّسات نوعيّة وثالثها آليّات تمويل جديدة، فإلى عدد قادم من مجلة «الاصلاح الالكترونيّة» بإذن اللّه.
الهوامش
(1) راجع مجلة «الإصلاح» الالكترونية عدد 161 عبر الرابط http://alislahmag.com
(2) سورة الفرقان -  الآية 62 
(2) تدبر الآية 97 من سورة النحل / القرآن الكريم
(3)  تدبر الآية 96 من سورة الأعراف / القرآن الكريم
(4)  تدبر آيات سورة العلق كاملة / القرآن الكريم
(5)  www.aljazeera.net