نقاط على الحروف

بقلم
د.عبدالسلام الحمدي
مدخل إلى تحليل الخطاب القرآنيّ (3/3) المحور الثالث: سياق التّخاطب القرآنيّ
 (1) مقدّمة نظريّة منهجيّة
آن أوان الإجابة عن التّساؤل التّأسيسيّ للبحث: هل القرآن كلام أو نصّ أو خطاب؟ لقد أسفر نظرنا في المدوّنات التّفسيريّة القديمة عن كون القرآن ذا قابليّة لخيارات منهجيّة متعدّدة على صعيد التّطرّق إلى تناوله بالتّحليل والتّفكيك، فهو على صلاحيّة لأن يُنظَر فيه من زوايا مختلفة، إذ يمكن أن يُؤخَذ على محمل الخطاب، كما يمكن أن يُحمَل على مأخذ النّصّ، فضلا عن إمكان دراسته بصفته كلاما. إذن نجد أنفسنا أمام إمكانات متنوّعة، لكلّ منها اعتباراتها الوجيهة. ولنا في هذا المقال أن نبني تحليلنا للقرآن على أحدها وفق غاياتنا المعرفيّة المرسومة ومكتسباتنا المنهجيّة المستفادة من الفتوحات المتعلّقة بدراسة الظّواهر اللّغويّة.
نرتئي أن نتناول القرآن باعتباره خطابا، وليس اصطفاؤنا لهذا الخيار أمرا اعتباطيّا، وإنّما هو صادر عن أفق انتظار لموقف معرفيّ يقدّر أنّ توظيف مفهوم الخطاب في الدّراسات القرآنيّة يمكن أن يكون مخرجا من مأزق وقوع المسلمين بين مطرقة نظرتهم إلى الوحي وسندان متطلّبات راهنهم الحضاريّ. فهذا وجه من دواعي خيارنا المنهجيّ. ووجه آخر أنّه مؤسَّس على أصل اعتقاديّ، ذلك أنّ المتكلّم (اللّه) منزه عن العبثيّة، فلا بدّ أن يكون كلامه موجَّها إلى مخاطَب، ولا شكّ في أنّه يقصد إفهامه، وقد فرط أن تبيّن كون قصد الإفهام ركنا من أركان تعريف الخطاب لدى الأصوليّين. وعلى هذا تُعتبَر بلا معنى كلّ دعوة إلى تجنّب البحث في معاني الآيات المتشابهة، ولا اعتبار لأحكام من جنس الأثر الشّهير المنسوب إلى مالك: «الاستواء معلوم، والكيفيّة مجهولة، والإيمان به واجب، والسّؤال عنه بدعة»(1).
يتطلّب مختارُنا من الإمكانات المنهجيّة الاهتمامَ النّسقيّ بالسّياق، إذ يحيل عليه مفهوم الخطاب من جهة كونه مقابلا لمفهوم النّصّ (الخطاب = النّصّ + السّياق)، وينطوي عليه من ناحية أنّه مقابل للكلام (الخطاب = كلام موجّه إلى الغير لإفادته). ولئن غاب الإجماع في تحديد ما يتكوّن منه السّياق، فإنّ ثمّة عناصر اتُّفِقَ على أنّها مقوّماته، وهي: المشاركون، والإطار الزّمكانيّ، والغاية(2). والمراد بالمشاركين المخاطِب والمخاطَب، ويستوجب الخطاب علاقة بينهما، فلا يمكن لأيّ رجل، مثلا، أن يقول لأيّة امرأة: «أنت طالق»، إذ لا بدّ من وجود عقد زواج يربطهما ويسوّغ لأحدهما أن يوجّه إلى الآخر خطابا من ذلك القبيل.
ولكنّ المتّفَق عليه من عناصر السّياق لا تستوعب كلّ ما يجدر بأن نصرف إليه النّظر في مواجهتنا للخطاب القرآنيّ، فهو لا يتضمّن القناة، وهي بالنّسبة إلى هذا الخطاب عنصر على غاية من الأهمّيّة لمن يتطلّع إلى البحث في طبيعة القرآن، ولذلك نأخذه بعين الحسبان في ما يأتي من فقرات المقال ضمن محور يتفرّع إلى ثلاثيّة سياقيّة أساسيّة لا يمكن أن يكون التّخاطب بدونها، زيادة على الخطاب ذاته الّذي سنحاول أن نستجلي هويّته وخصائصها، والثّلاثيّة هي:
* المخاطِب والمخاطَب
* القناة
* الإطار الزّمكانيّ
أمّا عنصر الغاية، فالتّطرّق إليه مندرج على وجه الضّرورة في تحليلنا لما بين المشاركين من علاقات تواصليّة، لارتباطه الوثيق بالمخاطِب والمخاطَب.
(2) المخاطِب والمخاطَب
من أظهر ما يميّز سياق التّخاطب القرآنيّ أنّ المتكلّم المخاطِب غير مرئيّ للمخاطَب المتلقّي، إذ يتوجّه إليه بالكلام عبر وساطة النّبوّة في غياب للمواجهة البصَريّة المباشرة، فسياق التّخاطب القرآنيّ، إذن، سياق ميتاطبيعيّ (فوق الطّبيعة)، من خصائصه احتجاب المستوى الميتالغويّ من الخطاب (ما يساعد على فهم الكلام من ملامح المخاطِب وحركاته الجسميّة الّتي يوظّفها في توضيح مقاصده)، وهذا عائق تواصليّ تنجرّ عنه صعوبات في مستوى التّلقّي، ويدفع إلى التّساؤل الآتي: لماذا يخاطب اللّه عباده من وراء حجاب وهو القادر على التّجلّي الذّاتيّ لهم بحيث يحصل اليقين لديهم؟
من زاوية النّظر المبنيّة على الإيمان يبدو أنّ وراء الخطاب القرآنيّ رهانا، وهو أن يعتقد المخاطَب وجود المتكلّم دون أن يراه رأي العين، وما تكلّم اللّه إلاّ ليراه المخلوق في صفاته المتجلّية الدّالّة على ذاته، وقد تعرّف في مفتتح خطابه إلى المتلقّي ببيان نوعيّة العلاقة الّتي تجمعهما، موضّحا أنّها ذات ثلاثة أبعاد، أحدها بعد روحيّ يتمثّل في الرّبوبيّة (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)، وثانيها بعد وجوديّ تجسّد بالخلق (الَّذِي خَلَقَ)، وثالثها بعد معرفيّ هو العلم (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ). وتُكسِب هذه الأبعاد الثّلاثة الخطاب القرآنيّ قداسته وتحدّد شكله ومحتواه، ذلك أنّه لولا ربوبيّة المخاطِب لما وسعه أن يتوجّه إلى المخاطَب بطلب على وجه الاستعلاء، مثلا، كما في الصّيغة الإنشائيّة الآتية: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ».
تظهر إشكاليّة سياق التّخاطب القرآنيّ في شأن المخاطَب أيضا، نظرا لتعقّد وضعيّة التّلقّي، فإنّ لهذه الوضعيّة بعديْن: بعدا آنيّا منقضيا هو زمن التّنزيل، وبعدا تعاقبيّا متجدّدا هو زمن ما بعد التّنزيل. وفي المنظور التّعاقبيّ لا يستقرّ المخاطَب على حالة واحدة من المكتسبات المعرفيّة والملابسات الاجتماعيّة، ويمكن تصنيفه على أساس زمنيّ إلى المخاطَب الآنيّ الّذي واكب سياق التّنزيل، والمخاطَب الزّمانيّ وهو المتلقّي للخطاب الإلهيّ من التّابعين وتابعي التّابعين إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.
ويثير هذا التّصنيف تساؤلات مقلقة تتعلّق بفهم الخطاب القرآنيّ، منها أنّه إذا كان الرّسول ﷺ في زمن الدّعوة يتولّى توجيه الفهم بحسب مقتضيات الأحوال، هل نستطيع أن نتحدّث عن فهم توقيفيّ لا يمكن الحياد عنه، هو ما يمكن أن نعبّر عنه بالفهم النّاتج في سياق التّنزيل (فهم المخاطَب الآنيّ = فهم الصّحابة) بمستوياته الثّلاثة: الظّرفيّ الحدثيّ (أسباب التّنزيل) والطّوريّ (ما قبل الهجرة وما بعدها) والثّقافيّ (جماع الذّهنيّات والمعتقدات والأعراف ...)؟ وبعبارة أخرى: إلى أيّ حدّ تساهم سياقات التّلقّي عبر المخاطَب في إنتاج المعنى مقارنة بسياق التّنزيل والسّياق اللّغويّ؟
(3) القناة
القناة هي واسطة نقل الكلام من منتِجه إلى متلقّيه، ولا تعدو في أصل التّواصل اللّغويّ البشريّ كونها مادّة فيزيائيّة من الذّبذبات الصّوتيّة، لأنّ ذلك الأصل يقوم على نظام من الدّلائل الصّوتيّة، وأساسه الإرسال بآلة النّطق (اللّسان) من جهة المتكلّم والاستقبال بأداة السّمع (الأذن) من ناحية المتلقّي، ولكنّه يُمثَّل بأنظمة صناعيّة، أبرزها نظام الكتابة(3)، وفي هذه الحالة تكون قناة الإرسال على خلاف طبيعتها السّمعيّة الّتي تختصّ بها وضعيّة التّواصل الشّفويّ، إذ تستحيل بصَريّة، مثلا، عندما يكون التّواصل عبر التّدوين (الورقيّ / الإلكترونيّ) أو عن طريق نظام الإشارة الخاصّ بالبُكْمِ أو أيّ وسيط تواصليّ آخر مُدرَكه البصر لا السّمع.
ومن الملاحَظ أنّ مصطلح القناة قلّما استُعمل في تحليل الخطاب، وإذا استُخدِم ففي سياق التّطرّق إلى ظروف التّواصل المادّيّة على اعتبار أنّ الرّسالة تتأثّر بخصائص الحامل الفيزيائيّ للكلام، إذ تختلف طريقة التّبليغ الكتابيّة عن الطّريقة الشّفويّة، كما تختلف هذه عن طريقة التّواصل بالحركات اليدويّة ...إلخ(4). ولهذا السّبب يُحْوِجُ مقالنا إلى الاهتمام بقناة التّواصل القرآنيّ، فهو عنصر إشكاليّ بحكم كونه مركّبا تبعا لخصوصيّة العمليّة التّواصليّة الإلهيّة الإنسانيّة الّتي يتواجه فيها متكلّم ومخاطَب ليسا من طبيعة واحدة، وإنّما هما متمايزان على قدر تفاوت مرتبتيهما الوجوديّتين، بوصف المرسَل إليه جنسا من خلق المرسِل.
من التّساؤلات الّتي تنقدح بالتّفكير في كيفيّة تنزيل الخطاب القرآنيّ ما يثيره تعدّد أطوار رحلته بين التّلقّي الملَكيّ والتّلقّي البشريّ، ويحملنا عليه ما ثبت من تأثّر الرّسالة بخصائص القناة الّتي توصلها إلى المخاطَب، فهذا مدعاة إلى التّساؤل عن مدى ما تفعل كلّ صورة من تشكّلات الوحي – أثناء عمليّة التّنزيل – في معاني القرآن ومقاصده، إذ يقتضي أيُّ تشكّلٍ قناةً تناسب طبيعته. ويؤول بنا طرح هذه الإشكاليّة إلى تفريعات استفهاميّة لا بدّ لنا من مواجهتها إن رمنا تحصيل ثمرة نافعة في استجلاء حقيقة الرّسالة الإلهيّة، وأخطر تلك التّفريعاتِ الأسئلةُ الآتية: كيف تلقّى جبريل الرّسالة عن المخاطِب الأصيل؟ وعلى أيّ وجه استقبله النّبيّ عن الملَك؟ وما هي ملابسات تشكّله في اللّسان العربيّ؟
ليست هذه الاستفسارات ضربا من التّرف الفكريّ، بل هي خطوة منهجيّة ضروريّة في سبيل اجتراح مقاربة للخطاب القرآنيّ تستوعب كلّ الملابسات الّتي يُحتمَل كونها راكمت عليه من آثارها ما يستوجب أخذه بعين الاعتبار، وليس يهمّنا في ذلك الوصول إلى إجابة عن حقيقة القناة ذاتها، وإنّما يعنينا تأسيس التّأويل والفهم، الآن وهنا، على إدراك عميق لما في عمليّة التّخاطب القرآنيّ من تعقيد تمثّل إشكاليّة الوسائط أحد أبعاده الكبرى، إذ يفتح الوعي بهذه الإشكاليّة بابا شارعا على إمكان قراءة نقديّة لأنظمة التّفسير الموروثة تسفر عن إنتاج نظام في التّأويل يرتقي إلى مستوى التّحدّيات الرّاهنة الّتي وضعتنا إزاءها الفتوحات المعرفيّة المعاصرة.
(4) الإطار الزّمكانيّ
ليس الزّمان والمكان بالنّسبة إلى الخطاب مجرّد معطيين فيزيائيّين محايدين، وإنّما هما عاملان فاعلان فيه من جهة المتلقّي على صعيد الفهم والتّأويل، فضلا عن كونهما موجّهين لأساليبه ومحتوياته، عبر منتجِه، بدرجات تختلف من وضعيّة تواصليّة إلى أخرى على مقتضى دواعيه ومقاصده. وتأتي فاعليّتهما على الوجهين من أبعاد ثلاثة منطوية فيهما، أحدها ظرفيّ والثّاني طوريّ والثّالث ثقافيّ. فأمّا البعد الظّرفيّ، فيتمثّل في نسق الأحداث الّتي يُنجَز الخطاب على وقعها، سواء أكانت سابقة له أم مزامنة أم لاحقة. وأمّا البعد الطّوريّ، فأحوال المخاطِب والمخاطَب في ارتباط بمرحلة تاريخيّة تتميّز بخصائص يعكسها نسيج الكلام ومحتوى الرّسالة. وأمّا البعد الثّقافيّ فما يحكم بيئة الخطاب ويعبّر عنه نظام تقاليدها وعاداتها من رؤية كيانها الجمعيّ لذاتها ومغايريها والكون والمصير.
لا يؤتي النّظر في الخطاب القرآني أكلَه المعرفيّ الدّقيق ما لم يُحِط بأطره الزّمانيّة والمكانيّة ويستوعب مختلف أبعادها الظّرفيّة والطّوريّة والثّقافيّة، وهي أطر على غاية من التّعقيد لتداخل العوالم فيها وتنوّع الظّرفيّات، فمنها الغيبيّ والشّهوديّ، والأرضيّ والسّمائيّ، والمكّيّ والمدنيّ، والصّيفيّ والشّتويّ، والحضريّ والسّفريّ، والنّهاريّ واللّيليّ، والفراشيّ والنّوميّ(5)، وكلّ وضعيّة تواصليّة جزئيّة من هذه الأطر تملي أحوالُها على المتكلّم والمخاطَب ما ينعكس في أساليب المخاطبة ومفرداتها وتراكيبها، ولهذا لا مناص لمن يروم الوقوف على المغزى التّداوليّ لآية أو مجموعة آيات، أن يُلمّ بمختلف حيثيّات نزولها، نعني سياقه بمختلف أبعاده، في تقيّدها الزّمنيّ وتحيّزها المكانيّ، لا سببه أو مناسبته فقط.
وغنيّ عن البيان أنّ تركيبة المصحف ليست ممّا ييسّر مقاربة الدّلالة القرآنيّة بكيفيّة تندرج فيها الاعتبارات السّياقيّة الزّمكانيّة على المعنى المشار إليه أعلاه، إذ غير خَافٍ أنّ تنسيق السّور والآيات فيه لم يخضع لمعيار من تلك الاعتبارات. إذن، يُحْوِج الأمر إلى إعادة ترتيب لمكوّنات القرآن الكبرى (السّور) والصّغرى (الآيات) على أساس كرونولوجيّ، وما هو بالعمل الهيّن، فقد بُذِلَت فيه جهود واستُفرغَت طاقات دون الوصول إلى نتيجة حاسمة، فضلا عن أنّ الإلمام بمختلف سياقات نزول الآيات في جزئيّاتها الدّقيقة يكاد يكون من المستحيلات لانعدام مادّة إخباريّة توفّر كافّة التّفصيلات الّتي يحتاجها مدخل سياقيّ كهذا.
بيد أنّ تعذّر الإحاطة بما يساعد على إجراء المقاربة السّياقيّة من دقائق المعطيات الزّمكانيّة لا يمنع حصول الفائدة إذا وعينا أهمّيّة الظّرفيّات في توجيه الدّلالة القرآنيّة، فإنّ الوعي بها ضروريّ لاجتراح منهج في قراءة القرآن مثمر من جهة التّفاعل مع تساؤلات واقعنا المحيّرة وقضاياه الحارقة ومشكلاته المعقّدة، لأنّ هذا الواقع لا يعدو كونه مركّبا ظرفيّا من عوامل مرتبطة باللّحظة الحضاريّة الرّاهنة في خضمّها العولميّ العابر لحدود الأمكنة على محوريْ المعرفة والاجتماع، وليس من الوجاهة في شيء أن نتجاهل متطلّباتها ومقتضياتها عند مساءلتنا للخطاب القرآنيّ.
(5) الخطاب
إنّ القرآن في ما يبدو خطاب ميتالغويّ في مبدئه لأنّ المتكلّم ذات مطلقة فوق اللّغة، وقد تنزّل عبر قناة مركّبة (ملَكيّة نبويّة إنسانيّة) في نسيج لغويّ من جهاز تواصليّ بشريّ خاصّ بجماعة اجتماعيّة محدّدة، فأمّا الجهاز التّواصليّ فاللّسان العربيّ، وأمّا الجماعة الاجتماعيّة فأهل مكّة ومجاوروهم من سكّان شبه الجزيرة العربيّة. وليس اللّسان مجرّد أداة تبليغ، وإنّما هو محمل لثقافة مجتمع بما هي رؤية للذّات الجمعيّة وللعالَم، وعلى هذا اكتسب الخطاب الإلهيّ بتنزّله فيه الخصائص الجوهريّة للكلام البشريّ، وبعبارة أدقّ: تأنسن ذلك الخطاب، أي تقيّد بقيود البشريّة، إذ صار قابلا لتلقّ حسّيّ عبر حاسّة السّمع عن طريق المشافهة أو بوساطة البصر بعد تدوينه بين دفّتي كتاب.
نحن إزاء خطاب مطلق في قالب نسبيّ تعتريه سمات البشر من التّلفّظ والتّقيّد بالأمكنة والأزمنة وسائر أبعاد التّأنسن. ومن انعكاسات تأنسنه إشكاليّةُ نوعيْن من الآيات على الأقلّ: أحدهما آيات الصّفات الموهمة للنّقص كالاستواء على العرش واليدين والعين ...، وثانيهما آيات الأحكام ذات الصّلة بآليّات تنظيم الاجتماع. وفي ذلك مكمن الإشكال المعرفيّ المنهجيّ: كيف يمكن فهم المطلَق المنسّب؟ وكيف تتجسّد إجرائيّا صلاحيّة الخطاب الإلهيّ المؤنسَن لكلّ زمان ومكان؟ ويضعنا هذا الإشكال في مواجهة رهان لا مفرّ لنا منه إن تعلّقت همّتنا بتفعيل دلالة القرآن على مقتضى واقعنا، ويحسُن أن نعبّر عنه بالصّيغة الاستفهاميّة الآتية: كيف يمكن بناء نظام فهم للخطاب القرآنيّ يراعي طبيعته المزدوجة؟
تنطوي هذه التّساؤلات المنهجيّة على إحراج ناجم عن موروثنا العقديّ في القرآن، وهو ما يقف حائلا حتّى اللّحظة دون طرحها على بساط الدّرس في المنتديات العامّة، ولا يعفينا تصلّب النّاس في تصدّيهم لكلّ جديد من مسؤوليّتنا المعرفيّة الّتي تستوجب أن نتطرّق إلى القضايا التّأسيسيّة الحارقة، لأنّ تجاهلها والاكتفاء بطرح مسائل فرعيّة يجعلنا كمن يدور في حلقة مفرغة لا تنتهي إلى ساحل. وليس الطّرح الجذريّ لإشكاليّة الخطاب القرآنيّ، في تقديرنا، ممّا يُسقِط قدسيّتَه، كما لا يمنع تقديسه من وضع تمثّلاتنا على محكّ المناهج المعاصرة عسى أن تنفتح آفاق معرفيّة مؤدّية إلى ردم الهوّة الماثلة بين النّصّ والواقع.
فتح آفاق
يسعنا في خاتمة هذا المقال أن نقترح مشروع مقاربة للإشكالات الّتي أثرناها خلال وقفاتنا السّابقة، ويهمّنا منها في الأساس ما يتعلّق بطبيعة الخطاب القرآنيّ، والحقيقة أنّ ملاحظاتنا الّتي فرط أن أبديناها في هذا الخصوص تحيلنا على عبارة تراثيّة مهجورة لمّا يُلتفَت إليها، رغم أنّها يمكن أن تخرجنا من مأزق معرفيّ وثيق الصّلة بموضوعنا، وهي قول ابن عربي في كتابه الفتوحات إنّ كلام اللّه «محدث بالإتيان، قديم بالعين»(6)، إذ نستطيع أن نستخلص منه، بغضّ النّظر عن مقصد صاحبه، أنّ القرآن كلام قديم على اعتبار أنّه موجود في علم اللّه أزلا، ومحدث منذ استحالته خطابا إلى الخلق.
ويصبّ في مجرى هذه الخلاصة حاصِل محطّاتنا الّتي اجتزناها طوال بحثنا، بما توفّر من المعطيات النّظريّة وتيسّر من الأشغال المسيَّرة، وأهمّ ما فيه أنّ القرآن خطاب ثلاثيّ الأطوار، فهو أصلاً كلامٌ غير لفظيّ (الطّور الأوّل) تشكّل في قالب لفظيّ (الطّور الثّاني) وثُبِّتَ بوضعه بين دفّتيْ كتاب (الطّور الثّالث). وأخطر ما انتهت إليه جهودنا التّحليليّة للأطوار الثّلاثة أنّ القرآن خطاب إلهيّ متأنسن، وقد عنَيْنَا بذلك أنّه خطاب مطلق منسَّب، إذ تجسّد في نسيج لغويّ من الأصوات وتلبّس بظرفيّات زمكانيّة وترجمته الأقلام على الألواح والأوراق.
ويفضي بنا البحث في نتائجه تلك إلى التّساؤل الآتي: كيف يمكن فهم خطاب مطلق منسَّب كالقرآن؟ فهذا السّؤال يسفر عن رهان لا مهرب منه لمن يريد تفعيل الرّسالة الإلهيّة على إيقاع العصر، وهو إنشاء نظام فهم يراعي الطّبيعة المزدوجة للخطاب القرآنيّ، وقد أضاء لنا البحث ثلاثة مداخل إلى الفهم:
1) فأمّا المدخل الأوّل فسياق التّنزيل، ويتّسم بالانقضاء، وهو ذو ثلاثة أبعاد: أحدها بعد ظرفيّ (حيثيّات النّزول)، وثانيها طوريّ (المكيّ والمدنيّ)، وبعد ثقافيّ (ثقافة شبه الجزيرة العربيّة)؛
2) وأمّا المدخل الثّاني فالسّياق اللّغويّ، ويتّصف بالثّبات، ويقوم على مستويات مختلفة معجميّة وصرفيّة وتركيبيّة؛
3) وأمّا المدخل الثّالث فسياقات التّلقّي، وتختصّ بسمة التّجدّد على ثلاثة مستويات: المستوى الحدثيّ بتعاقبه السّريع، والمستوى الطّوريّ بتغيّراته البطيئة، والمستوى الثّقافيّ بثباته النّسبيّ، إذ تُقدَّر صيرورة التّحوّلات فيه زمنيّا بالقرون.
لا يعدو هذا المقال كونه مسعى إلى التّنبيه على أنّ العامل الأساسيّ في توسيع الفجوة بين النّصّ القرآنيّ والواقع الحاليّ هو إهمال السّياقات، ولاسيّما سياقات التّلقّي، ولعلّه وُفِّق في توسّله إلى ذلك بمفهوم الخطاب، فهذا المفهوم ذو إنتاجيّة عالية من حيث أنّه يزيل السّتار عن إشكاليّات قادحة للتّفكير في المسلّمات العقائديّة الّتي سيّجت القرآن بما يعيق المبادرة إلى العمل على تحيين دلالاته، وفي غياب مبادرات متجاوزة للسّائد والمألوف تتعطّل قدرة الرّسالة الإلهيّة على مواكبة نسق الحياة الّتي يكابد إنسان الحاضر تعقّداتها.
الهوامش
(1)   الشّهرستانيّ، أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم (ت548هـ)، الملل والنّحل، تح. عبد العزيز محمّد الوكيل، دار الفكر، بيروت، (د.ت)، ص93.
(2) مانغونو، م.س، صص27-28.
(3)  يؤكّد فردينا ندي سوسير مؤسّس علم اللّسانيّات أنّ الكتابة ليست سوى تمثيل للّغة (دي سوسير، فردينان، دروس في الألسنيّة العامّة، تع. صالح القرمادي ومحمّد الشّاوش ومحمّد عجينة، الدّار العربيّة للكتاب، طرابلس/تونس، 1985، ص49.
(4) شارودو، باتريك و منغنو، دومينيك (إشراف)، معجم تحليل الخطاب، تر. عبد القادر المهيري وحمّادي صمّود، دار سيناترا والمركز الوطنيّ للتّرجمة، تونس، 2008، ص93.
(5)  يُنظَر: السّيوطيّ، م.س، صص31-60.
(6) ابن عربي، م.س، ج6، ص132.