بهدوء

بقلم
عبدالرحمان بنويس
مدخل إلى تنزيل مناهج التعليم في الظروف الطارئة: كورونا أنموذجا (1)
 لا يكون النّظر في هذا الموضوع مكتملا إلّا إذا قيس من زاوية تدرس علاقة التّأثير والتّأثّر الحاصلة في مجال التّعليم والتّربية والتّكوين بالأمراض والأوبئة الطّارئة كحالة «وباء كورونا COVID19» الذي لم يقتصر في تأثيره على الاقتصاد والصّحة فحسب، بل شمل أيضا مجال الفكر والإنتاج العلمي، والاجتماع البشري، فقامت له قيامةُ البحث بإعادة النّظر في الكثير من مسلّمات السّياسة والاقتصاد والاجتماع، ونحسب أنّ مجال التّعليم من بين الأقطاب التي يجب إعادة النّظر في إشكاليّة تنزيلها، وإعادة تصريفها إلى المستهدفين منها وفي أعمدة كثيرة منها. لمقاربة هذا المدخل في فقه تنزيل المناهج التّعليميّة على الواقع، سنعرض محاور فرعيّة ستّة لتبسيط الإشكالات والرّؤى المنهجيّة المعترضة لهذا المجال الفنّي.
أولا: أهمية العلم والتعليم في الظروف الطارئة بين الفهم والجهل
لا أحد ينفي أهمّية التّعليم في إنقاذ الأمم من الأزمات والأوبئة، فهو صمّام الأمان وإليه الملجأ في حالة الشّدة بالبحث والتّنقيب عن مختلف الحلول العمليّة التّطبيقيّة للخروج من الأزمة، وفي حالة الرّخاء بتذكر نعم اللّه على الإنسان ومنحه الآلة الفكريّة التي تجعله يتذكّر نعمه الخفيّة من الأمن والأمان...
والزّاوية التي ينبغي التّركيز عليها في هذا القطب الاجتماعي الإصلاحي هي المناهج الـمُدرَّسة في العالم العربي عامّة والمغربي خاصّة، سواء من حيث مصدريّتها وأهدافها، والعمليّات التي تتبنّاها والمرجعيّات البيداغوجيّة التي تشتغل بها والأنساق المعرفيّة المرغوب الوصول إليها، أو من حيث المخرجات التّطبيقيّة المتوصّل إليها، والصّفات الفئويّة التي ينبغي التّركيز عليها، والمجالات المصاحبة للتّربيّة والتّكوين المرتكز حولها. ولبيان الرّؤى في هذه الإشكالات سأعتمد المنهج الوصفي التّحليلي قصد تقريب مسلك الموضوع وتقصير طوله وسبر أغواره.
ثانيا: رؤى وإشكالات الفهم في أزمة كورونا
إنّ إدراك هذه الحقيقة المهمّة قد توقع الإنسانيّة في كدمات لا ينفع معها حلٌ أو ترقيع، وهو ما برز مع امتحان كورونا، بحيث إنّ بعض ممّن منحه اللّه العقل لجأ إلى حلول بدائيّة كالتّداوي – بحسب العادات – ببعض «الأدوية البدويّة» التي لا تثبتها تجربة ولا ينصح بها عالم، وإنّما توارثتها الأجيال والأعراف، فشهدوا لها بالجودة والمعقوليّة. والبعض الآخر اعتمد «الحجر الصّحي» و«التّباعد الجسدي والاجتماعي» و«إقفال المؤسّسات» كحدّ وقائي صارم للخروج من الأزمة، في حين ربط البعض الآخر مجال التّعليم بمجالات الصّحّة والسّياسة والاقتصاد، فَكَفَرَ بجميع المجهودات المبذولة للقضاء على هذا المرض، وأسرع إلى اعتماد سياسة إقفال المدارس والجامعات والجوامع ريثما يهدأ المرض أو يزول كما زالت الأمراض السّابقة، والحال أنّ هذا الوباء يهدأ بسكون النّاس في منازلهم، وما إن تتحرّك أقدامهم حتّى يسري فيهم سَرْيَ النّار في الهشيم، ممّا يجعلنا نفكّر في عرض بعض الإشكالات العلميّة التي تخصّ أهمّية المناهج التّعليميّة في بناء الفكر الوقائي ضد الأزمات والأمراض الخطيرة، وكذا أهمّية العلم على الوجه العام الذي أرسى الوحي ظلاله على الإنسان بقصد الاستخلاف والاستعمار، كما نتطلّع في ثنايا الموضوع إلى التّفكير بعمق في النّظر المآلي لعالمنا العربي؛ أي هل يفكّر العرب في هذه الأهمّية التّعليميّة أم أنّهم يرون أنّ الاقتصاد هو الذي يسيّر البلاد والعباد وبالتالي يُعتبر العلم عالة ينبغي التّقليل من أهمّيته والتّقليص من ميزانيته، ومحاولة تغيير مناهجه لتوافق الغرب على ما فيه من إيجابيّات وسلبيّات، والتّطلّع إلى ما عنده من تقدّم مادّي وعمران حضاري؟ وكيف تعاملت بعض دول العالم مع العلم في أزمنة الأوبئة؟ وهل استطاع وباء كورونا أن يعطي الدّروس والعبر لمن أعلوا من قيمة التّفاهة وأخرسوا النّزاهة العلميّة؟ وما الواجب الأخلاقي والعملي للرّفع من قيمة العلم في المناهج التّدريسيّة؟ وما المنهجيّة التّطبيقيّة لتوظيف العلم في إزالة الأوبئة والأمراض الفيروسيّة؟
ثالثا: المناهج التّعليميّة بين خلل الفهم التّجريدي والتّطبيق المنهجي الواقعي
المناهج التّعليميّة هي خبرات تعليميّة فكريّة وتطبيقيّة يحكمها مبدأ التّراكم المعرفي المنهجي النّاتج عن إدامة النّظر في المادّة التّأليفيّة العلميّة، وكذا في مناهج تفكير علمائها، وفي تصريفها في التّنزيل التّطبيقي بحسب الزّمان والمكان والحال، وهي تستمد سندها من خصوصيّة الواقع والشّرع والوضع البشري، واحتياجات التّلميذ والطّالب ومتطلّبات الواقع الاجتماعي، واعتمادها في الاختيار التّربوي للدّرس العلمي.
وهي من بين الاختيارات التي ترتكز على قوميّة الأوطان والدّول، وبواسطتها يتمّ تصريف الأهداف العامّة والمبادئ الكبرى لسياسة الدّولة ومقتضياتها ورغباتها ومخرجاتها إلى المتعلّمين، كما تتضمّن أحيانا جانبا من تاريخها وعلاقاتها السّياسيّة مع الدّول الحليفة أو غيرها. باختصار، إنّها الصّورة الحقيقيّة لسياسة النّظام الحاكم في البلاد، ومتى أعطيت لها المكانة القويّة كانت الدّولة متقدّمة بحسب عطائها، وإن أهملت ومُكِّنَت لأشخاص غير أكفاء تكون المخرجات على حسب ذلك.
رابعا: المناهج المعتمدة في التّربية والتّكوين
والمناهج التّربوية المعتمدة في تدريس العلوم الإنسانيّة والشّرعيّة والقانونيّة على السّواء في أي نظام تربوي «تتوزّعها ثلاثة اتجاهات عامّة في التّربية:
- اتجاه يتّخذ المتعلّم أساسا لبناء النّظريّة التّربويّة، حيث ينطلق من احتياجات التّلميذ وميولاته، ويُراعي قدراته العقليّة واستعداداته الفطريّة...
- واتجاه ثانٍ ينطلق من المعرفة المنظّمة تنظيما منطقيّاً، فيحاول تلقينها للمتعلّمين مراعياً منطقها الدّاخلي، والتّدرّج في اكتسابها من المفرد إلى المركب، ومن الجزئي إلى العام...
- واتجاه ثالث ينطلق من المجتمع وحاجاته ومتطلّباته، ويحاول تهيئة الطّلاب للتكيّف مع الواقع، ومعالجة قضاياه ومشاكله بمختلف أدوات البحث والدّراسة، فتكون المعرفة المكتسبة منبثقة من الواقع المعيش... ولا يمكن تفضيل أحد هذه الاتجاهات على غيرها، وإنّما يمكن الاختيار منها وفق الحاجة أو الجمع بينها لتحقيق أهداف التّدريس»(1) .
- ونضيف اتجاها رابعا يتعلّق بسياسة الدّولة المتحكّمة في الفرد والمواطن، وفي توضيح العلاقة المبنيّة على حسن التّدبير والتّقدير بين الحاكم والمحكوم، وهذه قليلة في الأنظمة التّربوية نظرا لحصول الانعكاسات في هذا الاتجاه واختلاف الرّؤى والفلسفات البنائيّة في تصريفه.
ولذلك تقلّ الحاجة إلى الاتجاه الأول لكون الدّرس العلمي مبني على المادّة المعرفيّة، خاصّة إذا تجاوز المكتسبات المعرفيّة الضّروريّة التي تصرف مراحل التّعليميّة الابتدائيّة والإعداديّة، كما يمكن الاستعانة برأي الاتجاه الثّالث لما عُلم عنه من خبرة ميدانيّة في توظيف الاتجاه الأول، وما من شكّ أنّ الفقهاء -واللّه أعلم - كانوا واعين تطبيقيّا بهذه المناهج، فوظّفوها فتخرّج على أيديهم علماء متمكّنين.
خامسا: الوظائف المقصودة من المناهج التّعليميّة:
ودارس مناهج العلوم الشّرعية في باب السّياسة الشّرعية يدرك قيمة هذا، أو المطلع على نظريّات الفكر التّربوي يعرف مقدار اهتمام الفقه بثالوث يتجلّى في:‌ وظيفيّة المعرفة المنتقاة وجودتها، وطبيعة الفرد الذي يتشرّب هذه المعرفة وقيمة المجتمع الذي ينبغي أن يستثمر فيه هذا الفرد تلك المعرفة المكتسبة.
لذلك، فالحديث في هذه الإشكالية يدفعنا إلى التساؤل عن الفهم الوظيفي لغايات المنهاج، هل وضعت لتأطير الفرد أو تعليميه أو تأهيله؟ وهل التطبيق ينصب على كل سالِك لمجالي التربية والتكوين، أم الأمر تشترك فيه الأمهات والآباء بما يدرسونه في محو الأمّية وما يستهلكونه في وسائل الإعلام؟
سادسا: تحديات صناعة المناهج التعليمية
إننا أمام تحديات معضلة، والمحور فيها يرجع إلى بنية الفهم، فالمناهج التعليمية سبق أن قلنا هي خبرات توجيهية وبنائية للفرد كيفما كان نوعه وتلقينه معارف ومكتسبات توافق سنه وزمانه وتلبي إشباعه المعرفي، وهذا من المبادئ التي ينطلق منها المنهاج التربوي المغربي في تنظيراته وتجريداته، وهي من الناحية الشّكلية مكتملة الأركان تامة البنيان، غير أن التحدي في الجانب التطبيقي، إذ البيئة الواقعية مختلفة عما هو موجود في الأوراق، فبنية العقل التي تسعى إلى تنزيل هذا المنهاج في غموض مستمر، إذ قدراته تظل قاصرة عن استيعاب مرامي المناهج وتعجز أحيانا عن تصريف مضامينه في الوقت والزمن المخصص لها، مما ينتج فردا ناقصا في عقله منحازا في اختياراته، وكلها عوامل ومسببات تجعل هذا الفرد إما متأثرا بواقعه غير مؤثر فيه، أو مؤثر فيه ويفتقد إلى آليات التأثر.
وضع المنهاج الدراسي من أجل تحقيق غايات، أهمّها جانب التّعليم، وذلك بتصرف المحتوى المعرفي والخطاب الرّسمي للدّولة في المقرّرات والبرامج وفي وسائل الإعلام، والغاية الثانية تأطير المستهدف وتقوية مهاراته وقدراته العقلية على حلّ المشكلات والتدرب على المستجدة منها، والثالثة تأهيل وتخريج الأطر القادرة على استيعاب مختلف الأزمات والقضايا المجتمعيّة والسّياسيّة، وابتكار حلول ناجعة للخروج منها بأقل الخسائر، ولذلك فالتّطبيق يشمل كلّ سالك أو مشترك أو مهتم بمجال التّربية والتّعليم والتّكوين في جانبه الفلسفي، فالكلّ مسؤول بدون استثناء في فهم طبيعة المنهاج المرغوب فيه وطبيعة الأفكار المعرفيّة الواجب تصريفها إلى المتعلّمين. وأمّا الآباء والأمهات الذين لم يسعفهم الحظّ في النّهل من أحواض المدرسة والجامعة، فواجبهم متابعة التّأطير والتّكوين الذي تصرفه قنوات الإعلام الهادفة والمساعدة في التّربية وفي تقريب المسالك إلى تحقيق أهداف ومبادئ المنهاج في المتعلمين.
لذلك نرى بأنّ الخلل في فهم صياغة المناهج التّعليميّة لاختلاف الآراء وتضاربها من جهة التّشريع القانوني، أو في منهج تطبيقها على أرض الواقع، مع ما اعتراها من فراغ فلسفي في تطبيقها في البيئات المختلفة في نفس البلد، وعدم استحضار طبيعة المرونة والاستقلاليّة في قرارات إصلاحيّة فوقيّة، ولهذا نجد مذكّرات تتناثر يوما بعد يوم على الهيئة التّربوية والإداريّة في شبه غياب للوسائل المساعدة من الحدّ من انتشار كورونا بالمدارس والجامعات، اللّهم ما ظهر من اجتهادات شخصيّة لا تفي بالغرض، لأنّ العقليّة السّائدة هي دفع القرار واعتبار المسؤوليّة بمثابة لعبة يتقاذفها المسؤولون فيما بينهم، والحلقة الأضعف تُساءل وتحاكم.
الهوامش
(1) أساسيات منهج تدريس فقه القضايا المعاصرة من خلال ثلاثة مداخل تربوية لمصطفى صادقي، الندوة الدولية: تدريس فقه القضايا المعاصرة في الجامعات السعودية المنظمة بمركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية يوم 26 و27 شتنبر 2011م الطبعة الأولى 1433هـ -2011م 3/1020-1021.