حوارات

بقلم
أ.د.احميده النيفر
حوار مع الدكتور المنصف وناس رحمه الله
 (1) 
هل يمكن اعتبار مشكلة النخب مشكلة لا يمكن حسمها قطريا، وهل هي قضية مرتبطة بسياقات محلية كأزمة التعليم والهوية والثقافة أو تتجاوز هذا السياق المحلي؟
لا يمكن أن نختلف اليوم في أننا إزاء نخب عربية في مختلف المجتمعات العربية تبحث لنفسها عن دور وعن موقع، ولكن حينما نتحدث عن هذا الدور يجدر بنا من ناحية التاريخ الفكري وتاريخ الأفكار أن نشير إلى أن في أغلب المجتمعات العربية تشكلت بيئة غير مشجعة على ظهور نخب بالمعنى الحديث والمعاصر للمفردة وللمفهوم؛ فعلى امتداد عقود، أي منذ الاستقلال، لم يتم استثمار في إنتاج هذه النخب. لقد ظلت الأوضاع الاجتماعية متردية، والأوضاع الاقتصادية والسياسية أكثر سوءا وانغلاقا، واستمر قمع النخب، إلى غير ذلك من المعطيات... كما لم تتوفر الحرية الضرورية لكي تبرز هذه النخب وتتشكل وتصبح شريكة في الشأن العام، أي في شأن المدينة. لذلك عرفت المجتمعات العربية، بما فيها المجتمع التونسي، تعبيرات أيديولوجية سياسية ولم تعرف تعبيرات نخبوية. كل هذه المعطيات عطّلت بناء النخب وعطلت في الآن نفسه أي دور إيجابي لها ولم تسمح لها فعلا بأن تكون مشاركة في القرار السياسي والتنموي ولا حتى في الشأن العام. 
أنا أعتقد أن النخب تُبنى تدرجيا ولا تنشأ مكتملة، لا بل يُستثمر في إنتاجها وفي إعطائها الدور المطلوب؛ فهي تملك الموارد والقدرات الفكرية والتحليلية، ولكن على البيئة أن تسمح باستثمار هذه القدرات والموارد. يبدو لي أنه حصل عندنا تعطل كبير في المشروع الثقافي بعد الاستقلال خاصة من حيث إكرام النخب والسماح لها بدور إيجابي في كل المستويات. أنا لا أريد أن أضرب مثلا مأخوذا من مجتمعات أخرى لكني سأفعل لأننا لا نملك أمثلة كثيرة من مجتمعاتنا: في سنة 1957 حينما أوقفت وزارة الداخلية الفرنسية جان بول سارتر وهو بصدد توزيع كتيّب صغير عنوانه «المأساة الجزائرية» تبنى فيه قضية الشعب الجزائري في التحرر والانعتاق والاستقلال الوطني، قال الجنرال ديغول لوزير داخليته: «ليس لنا أن نوقف فولتير»، انظر هذا الإكرام لمثقف وفيلسوف. إنه احترام لشخص ينتمي بالضرورة إلى النخبة، أيا كان اختلافنا معه. لذلك يبدو لي أنه قد حصل عندنا نوع من التعاضد بين معطيين حاسمين عطّّلا دور النخب ولم يسمحا لها بأن تشارك في الشأن العام، ولا أن تكون فاعلة، ولا حتى أن تنبه إلى المخاطر وإلى ما يمكن أن تصل إليه. عنصر الأزمة الأول هو التالي: دول الاستقلال، بما فيها تونس، خلقت بيئة ثقافية وسياسية وأخلاقية طاردة لدور النخب ومساهماتها لا أقول في صناعة القرار العام ولكن حتى في الاهتمام بالشأن العام. أما العنصر الثاني ـ وهو طبيعي ومتولد عن العنصر الأول، فيتمثل في أن النخب ذات الموارد الفكرية والثقافية وذات القدرات الفهميّة والتحليلية انكمشت وعطلت إراديا نفسها ولم تعد ترغب في المشاركة. تضافرُ هذين العاملين لم يسمح للنخبة بأن تتمكن من اكتساب هامش من الاستقلالية والمناورة والمشاركة في حياة المجتمع. لذلك عطلت النظم قدرتها على الاستفادة من النخب، وتعطلت النخب جراء هذه البيئة الطاردة، فوجدنا أنفسنا إزاء عائلات سياسية متعددة المشارب والهويات الأيديولوجية، لكنها غير فاعلة، فخسرنا خسارة مضاعفة: إذ لم نستفد من النخب، ولم تتمكن التيارات السياسية متعددة المرجعيات والمشارب من أن تؤثر في الحياة السياسية وأن تدفع في اتجاه الدمقرطة والمشاركة العامة وتقليص موارد القوة والتسلط والحد مما أسميه «قوة القوة». 
انظر إلى ما بعد العقود الستة من الاستقلال فلا ترى دورا إيجابيا لليسار بكل عائلاته، ولا العائلات القومية، والإسلامية. قد نستغرب من كون الواقع العربي والتونسي لم يتغير على امتداد عقود ستة، في حين أن شعوبا أخرى قريبة منا من حيث الموارد والإمكانيات، مثل كوريا الجنوبية واليابان، حققت معجزات اقتصادية وتنموية ماديا وبشريا، مع العلم أننا في النصف الثاني من الخمسينات انطلقنا وإياهم بموارد تكاد تكون متقاربة.
(2) 
أنت أشرت إلى أن ديغول قال لا يمكن أن نوقف فولتير، هل المشكلة أيضا في أن المرجعية الثقافية التي تأسست عليها الدول العربية لم نبلغ بعد في أن نبني معالمها، من هو فولتير العربي مثلا؟ من هو فولتير المغاربي؟ أنا أحسب أن هناك مشكلا في تأسيس عقد اجتماعي جديد يمكن أن يحيل عليه الحاكم. هذا غير متوفر. نحن نشتغل دون مستند ثقافي مرجعي، فكيف يمكن معالجة هذا المشكل؟
نحن اليوم، فيما يبدو لي، بحاجة إلى أن نراجع العقود الخمسة أو الستة من الاستقلالات العربية. لا شك أن الاستقلال الوطني مرحلة مهمة وضرورية لشعوبنا ويجب أن ننظر إلى هذه المرحلة بإيجابية نسبية على الرغم من كل القراءات التي تؤكد وجود التبعية، والجيل الجديد من الاستعمار ومن الرأسمالية الجديدة... هذا كلام أيديولوجي. لكن اليوم بعد عقود ستة من استقلالاتنا الوطنية يجب أن ننظر إلى هذه المرحلة بإيجابية نسبية وبمقبوليّة معقولة. 
فالاستقلال أنتج ثلاثة مشاكل عويصة: أولا الاستقلال الوطني في المغرب العربي وفي المنطقة العربية وفي تونس لم ينتج عَقْدا اجتماعيا سياسيا أخلاقيا ينظم علاقة الدولة بالمجتمع من جهة، وعلاقة المجتمع السياسي بالمجتمع المدني، وعلاقة الدولة بالنخب. المشكل الثاني: أن الاستقلال الوطني مجسدا في النظم المنبثقة عنه لم يسمح بأي دور، حتى وإن كان ضئيلا، للكفاءات الفكرية حتى تعدّل وتشير إلى الاخفاقات وإلى المساوئ والأشياء التي يجب أن تُصلَح، وأن «تقوّم» كما يقول العلامة ابن خلدون، والمشكل الثالث: هو شمولية النظام السياسي، وكليانية الدولة وإستفرادية الحكام. 
أنا أتساءل اليوم: هذه النظم كانت تملك مؤسسة الجيش بالكامل والمؤسسة الأمنية بشكل كامل والمال والموارد الاقتصادية المختلفة والبنك المركزي فما الذي كان يضيرها أن تسمح بهامش ضئيل لمن يقوّم أداءها ويشير إلى النقاط السالبة فيه ويشخص بموضوعية وصدق مستويات الإخفاق والفشل إلخ...؟ هذا التقسيم للشأن السياسي والتقسيم للعمل السياسي المتصل بالشأن السياسي لم يحصل في مجتمعاتنا. فاللافت للانتباه أن الحاكم بعد الاستقلال استحوذ على صفة الحاكم السياسي المطلق، وعلى صفة مالك موارد البلاد ـ فهو الذي يهبها لمن يشاء ويحرم منها من يشاء ـ وعلى صفة المفكر المعلم والمتعلم الأوحد، والقائد الأوحد... 
هذه المستويات شكلت الأضلع الثلاثة لبناء سياسي اجتماعي قيمي أخلاقي لا تلعب فيه النخب دور المشاركة، وأنتجت كل تلك الانزلاقات السياسية والثقافية والقيمية في المجتمعات العربية التي أدت إلى تعطّلات كثيرة؛ بينما لم يكن يضير الحاكم في شيء أن يستمع إلى قراءة مختلفة في مجال التنمية ومجال توزيع الثروة... لهذا أنا أسأل: هل سُمح لأساتذة الاقتصاد البارزين في الجامعة التونسية بأن يُبدوا آراءهم في المخططات التنموية؟ هل سمح لهم بأن يفكروا مع النظام القائم في التنمية الجهوية؟ هل سمح لهم بأن يقوموا بمبادرات في مجال العمل على إيجاد نوع من التوزيع العادل للثروات الوطنية؟ وأسطر تحت كلمة «نوع». ما كنا لنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم من صعوبات اقتصادية وتنموية وسياسية جمة لو سمح لأساتذة الاقتصاد وعلم الاجتماع والحقوق أن يفكروا بصوت مرتفع في كيفية ممارسة التنمية الجهوية والتوزيع شبه المعقول للموارد. هل من المعقول أن يظل بلد مثل تونس يعاني إلى اليوم من صعوبات عديدة في مجال بناء منوال تنموي فيه اقتراب من العدالة ومن حسن توظيف الموارد واستثمارها في التنمية الجهوية والمحلية للحد من التفاوت؟ حينما يتعطل أداء المثقفين، وخاصة النخب، في المعاضدة في التقويم والتعديل والتجريح كما يقول ابن خلدون نصل إلى إخفاقات عديدة. إن تعاضد هذه العناصر هو، في رأيي، الذي أنتج كل الإخفاقات التي نراها اليوم في مجتمعاتنا.
(3) 
هل تتفق مع فكرة أن سبب انهيار النخبة العربية هو ظهور الدولة الوطنية، والدليل على ذلك أن النخب البورجوازية في الشام ومصر قبل الاستقلال كان لها دور في النهوض بعجلة الاقتصاد وحتى بالشأن الفكري، وكانت تجمع بين كونها نخبا تقنية وسياسية وثقافية ودينية وأدبية، هل يعني ذلك أن جزْءا من المشكل هو ظهور الدولة الوطنية التي جمدت فاعلية تلك النخب أو أن المشكلة راجعة للاستعمار؟ 
بالنسبة إلي الدولة الوطنية، أنا أنظر إليها نظرة إيجابية نسبية ومعدلة، بمعنى أنني لا أنظر إليها باعتبارها إيجابية خالصة. هي ظاهرة سياسيّة واجتماعيّة إيجابيّة إلى حد ما قياسا بالاحتلال. لكن يبدو لي أن المشكلة ليست في جهاز الدولة. فالدولة ضرورة اجتماعية لا مهرب منها ولا يوجد أي مجتمع في العالم متوازن ومستقر من دون دولة متوازنة ومستقلة إلى حد ما، والمجتمعات التي انهارت فيها الدولة أو أُلغيت، مثل ليبيا، تعاني اليوم تبعات تلك الدرامية المأساوية. أنا يوميا أستمع لليبيين بشكل مباشر، وعلى بيّنة بما يعيشونه من دمار شامل. ولكن يبدو لي أن المشكلة تكمن في مناويل التحديث في فترة ما بعد الاستقلال فبغض النظر عما إذا كانت هذه المناويل ليبرالية أو «ثورية» (بين ظفرين)، فإنها تلتقي جميعها عند نقطة مفصلية جوهرية لافتة للانتباه وهي: إلغاء الماضي بكامله. فقد انبنت تجارب التحديث التي أنجزتها الدول الوطنية ما بعد الاستقلال على إلغاء كل ما سبق وعلى البناء من جديد. لكن مناويل التحديث غالبا ما أفضت إلى إلغاء القديم دون بديل.
 ففي تونس وفي الجزائر وفي ليبيا وفي مصر وفي العراق وحتى في سوريا، تم إلغاء بنية اجتماعية قديمة ممثلة في نسيج المجتمع الأهلي وجمعيات قديمة تضطلع بأعباء اجتماعية معينة ولكن لم تتمكن دولة الاستقلال بأن تقوم بكل الأعباء. نحن لم نحافظ على الماضي حتى وإن كان مؤطرا ومنظما، ولم نبن بدائل عملية مقنعة. ولنا أدلة واضحة على ذلك: فقد عوضت الدولةُ في تونس بآلية التضامن الاجتماعي نسيجَ جمعيات أهلية قديمة طوعية خيرية، لكن التضامن الاجتماعي لم يقدر على أن يقاوم الفقر بجدية، وأن يلغي التفاوت الاقتصادي بين الجهات والفئات، ولم يتمكن من تحصين المجتمع من الفاقة. هذه الظواهر الاجتماعية لا تقاوَم بآلية حكومية فقط بل لا بد من المعاضدة، لو أبقيت على الجمعيات القديمة وتم تحديثها وتطويرها لساعدت دولةَ الاستقلال في مجابهة أزمات ظواهر اجتماعية سلبية. 
نأخذ مثالا ثانيا من الجزائر: ليس خافيا على أحد أن حركة التحرير الوطني في الجزائر استندت إلى نسيج من الجمعيات الأهلية المحلية لمؤازرة المجاهدين ودعم صمودهم وتحصين عائلاتهم. بعد الاستقلال وقع إلغاء كل ذلك ولم تتمكن آليات الدولة من تعويضه لأنها آليات رسمية حكومية ومعتمدة على ميزانيات الدولة، فجاء الانفجار المدمّر في 5 أكتوبر 1988، وفتح الجزائر على المجهول، إذ أنتج العشرية السوداء أو الحمراء ـ ولنا أن نختار من الألوان ما نشاء ـ بكل ما خلّفته (أكثر من 220 ألف جزائري قتيل). المستفاد من ذلك أن المجتمعات تتحمل وتتقبل الأوضاع الصعبة، ولكن حينما تحين المناسبة فإنها تنفجر، على نحو ما رأينا في ليبيا، ومصر، والجزائر في 1988، وحتى في تونس اليوم. أهم معنى من معاني انتفاضة 2011 هو أن نراجع محصول الاستقلال؛ ففيه إيجابيات لا ننكرها ولكن فيه إخفاقات عديدة تؤثر اليوم على أدائنا. أختم إجابتي بتساؤل مؤرّق: هل من المعقول أن تظل بلادنا ستة عقود من الاستقلال تعاني من التفاوت البالغ بين الجهات والفئات؟ 
(4) 
قد نرى أنه يوجد فرق بين دول الاستقلال التي كانت تقوم على أجهزة عسكرية والدول التي تبدو مدنية أو على الأقل مطبوعة بطابع مدني، ومع ذلك الاختلاف، كان الهوس يكمن في أن الدولة «تهندس المجتمع» وتفرض كل شيء؛ فسواء أكنت عسكريا أو مدنيا، أدرست في الخارج أو في ثكنة، دائما هناك فكرة أن المجتمع لا قيمة له وأن الدولة هي التي يجب أن ترشده... كيف تفسر الهوس بالدولة؟  
صحيح هنالك اختلافات في هوية دول الاستقلالات فثمة دول ذات طبيعة عسكرية ولكن دول أخرى قليلة جدا ذات طبيعة مدنية بالأساس ولكنها تلتقي جميعها على اختلاف هوياتها ومشاربها عند سد منافذ المشاركة وإلغاء دور النخب والتحكم في كل مؤسسات المجتمع، أي إنجاز ما نسميه «دولنة المجتمع» بحيث يُحرم المجتمع من كل فرص التعبير وإمكانيات المشاركة حتى بالفكرة، وليس ضرورة بالتغيير، والدليل أنه بإمكان الدول ذات الهوية المدنية أو العسكرية أن تسمح بوجود برلمانات فيها حد أدنى من التعبير، وأن تسمح بحياة جمعياتية معقولة، ومنابر سياسية مستقلة نسبيا ذات قدرة على التعديل طالما أنها تملك المؤسستين الحاسمتين في المجتمع، أي الجيش والأمن، بالإضافة إلى الموارد الاقتصادية والمالية والتنمية والمخططات التنموية. وإذن فإنه لا يضيرها ذلك، طالما أن بنية الدولة استفرادية والأداء السياسي مشخصن وأنه لا يسمح البتة بأن توجد أي مشاركة. هذه الدول، بغض النظر عن هويتها، انبنت على نقطة مشتركة أساسية وهي نسف أية منافسة فكرية أو سياسية. وحينما يشخصن الأداء تغيب المشاركة. 
حتى أُوضح هذه المسألة أسوق الواقعة التالية: في شهر أفريل من سنة 2010 زرت شخصا (هو الآن متوفى رحمه الله) كان شغل وزيرا أولَ في عهد بورقيبة، لأجري معه مقابلة. أردت أن أراجع معه أداءه طيلة ست سنوات، مهما اختلفنا في القراءة، فقال لي: «لم أكن إلا موظفا بسيطا أتلقى التعليمات بالهاتف، ومن حقك أن تلومني على أنني لم أستقل». هذه الإشارة تمثل شهادة على أن حتى السياسي في صلب الدولة لم يكن مشاركا في صناعة القرار؛ فبنية صناعة القرار في مجتمعاتنا هي بنية استفرادية ومشخصنة إلى حد كبير، الأمر الذي شكّل بيئة طاردة لدور النخب ولظهور مجتمع مدني أو حتى، في الحد الأدنى، ظهور جمعيات ثقافية اجتماعية متنورة. 
الكاتب عز الدين المدني نشر ذات مرة نصا عنوانه «الإنسان الصفر» وفيه نوع من التقييم الرمزي الذكيّ لتجربة التعاضد، وقد صدر هذا النص في «مجلة الفكر» التابعة لمسؤول قيادي في الدولة التونسية. في نفس يوم الإصدار تولت المصالح الأمنية المختصة جمعها من كامل البلاد، لأنه فُهم من النص أنه نقد مبطن للتعاضد الذي هو خيار أساسي من خيارات الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة. حتى في صلب النظم لا يُسمح بأي اختلاف في الرؤية والفهم، فما بالك بخارج النظم. إذن كيف سيصبح هناك دور للنخب وللمجتمعات المدنية وللمثقفين؟
(5) 
لماذا لا تستعمل كلمة ثورة وتعوضها بانتفاضة؟ 
لأنها لم تنتج نخبا ولا مشاريع ولا برامج. فقد عاد الماضي القديم، أنا أعتبر أن أبرز عنصر إخفاق يتمثل في عودة المنظومة القديمة من جديد.
بعد الثورة أو الانتفاضة تكونت مجموعات شبابية من المدونين في فضاء التواصل الاجتماعي غير موجودين في الواقع، ولكنهم موجودون في الفضاء الافتراضي والرقمي التواصلي، ولهم فاعلية بل هم أشبه بقادة للرأي العام. هذه النوعية الجديدة من النخب التي تختلف عن نخب القرن العشرين هم مجرد أفراد يعيشون على قصص صغرى وقضايا، مثل القضايا البيئية؛ أعني أنه لم يعد يوجد نخب بالمعنى الكلاسيكي حاملين لهمّ فكري وطلائعي، وهذا النوع الجديد من النخب الافتراضية متنوع ومتعدد، ويشتغل في شكل مجموعات صغيرة قد تكون أحيانا غير منظمة، كل هذا كيف يمكننا تحليله وتفهّمه؟ 
هناك ظاهرتان متكاملتان برزتا منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين الأولى: ظهور شكل جديد من أشكال النظام وهو النظام الأنترناتي أو الافتراضي، فالناس صاروا يناضلون من أجل قضايا متعددة في إطار الأنترنات، ولكنه نضال يقف بمجرد أن تغلق الزر وينتهي هذا النظام. الظاهرة الثانية: أن من علامات قوة الرأسمالية أنها خلقت تشبيكا كبيرا في مستوى المواقع الاجتماعية. وهذا فيه إيجابيات، ولكن فيه أيضا سلبيات. تتمثل الإيجابيات في مضاعفة المجهود ومضاعفة التعبئة. مثلا عندما تتعرض حكومة فينزويلا لمشاكل مع أمريكا يتعاطف معها مئات الآلاف من المناضلين الأنترناتيين أو الافتراضيين، وهذا إيجابي، لكنه لا يُحدث تغييرات كبيرة. أما السلبيات فهي قدرة التوظيف: فلا شك أن الذي حصل في ليبيا وتونس، وبدرجة أقل في العراق، هو حصيلة ونتيجة من نتائج الأنترنات. أمس كنت أتابع قضية «وثائق ويكيليكس» مسربة أُخذت من بريد السيدة هيلاري كلينتون. كانت كلها تبيّن الدور الأجنبي في الثورات العربية وبالضبط في ليبيا. شيء غريب: كيف أعد لهذه المسائل باستعمال الأنترنات والأدوات التكنولوجية المتطورة والشبكات في خلق تعبئة لأجل الانتفاض، ولكن صاحب المصلحة النهائية والأخيرة ليس الشعب وإنما أطراف خارجية. وثائق ويكيليكس تشير إلى أن المستفيد الوحيد من أزمة ليبيا هي فرنسا. فهي قد وضعت يدها على بحيرة من الغاز في الجنوب الليبي وتُهَيِّئُ لانفصاله. وتشير هذه الوثائق أيضا إلى أنّ جزْءا من الأزمة في سوريا مرتبط بمن سيسيطر على الغاز السوري...
نحن اليوم في حاجة ماسة إلى أن نستمع لقراءات جديدة غير قراءات الحكومة في مجال التنمية. لماذا وصلنا إلى هذه الدرجة من الإخفاق؟ لماذا فشلت سياسات الدولة التونسية من 1956 إلى اليوم في مجال تأطير الشباب؟ والنتيجة أننا اليوم إزاء شباب يلقي بنفسه في كل الجبهات الغامضة والمشبوهة، ويضحي بنفسه في قضايا غير مفهومة بالقدر الكافي، ويتصدر الصفوف الأولى في إنتاج الانتحاريين والانغماسيين. من المؤكد أن دور النخب اليوم في المراجعات العميقة ضروري. وأنا أرى أن النخب وحدها هي التي تضطلع بهذا الدور.
(6) 
من ناحية مفهومية ما الفرق بين المثقف والنخبة؟ 
هنالك فرق مهم: «النخبة» هي تلك التي تملك زادا معرفيا وتكوينيا واختصاصا متقدما في مجال من المجالات، وهو رأسمال مدرسي وثقافي وفكري يسمح لها بالتدخل أي بتصويب الاختيارات بالمشاركة في تصويب السياسات العمومية؛ فحينما نقول مثلا «نخب اقتصادية» نعني أن لها قدرة كبيرة على أن تناقش الاختيارات. ومن المفروض على الحكومات عندما تعدّ مخططا تنمويا أن تعرضه على النخبة الاقتصادية في البلاد وتأخذ رأيها. أعطيك مثالا آخر: عدد الحائزين على جائزة نوبل للفيزياء هم نخبة. 
أما «المثقف» فهو الذي ينتج الأفكار والتصورات وهو الذي يدلي بقراءاته وبآرائه ولكن لا يملك بالضرورة اختصاصا دقيقا. عندما نتحدث مثلا عن النخب في مجال الاستراتيجيا والتخطيط الجغراستراتيجي، فإننا نعني أن لها القدرة على التدخل، في حين أن المثقف غير مطالب بالتدخل ويساهم بالكتابة والأفكار والقراءات، بينما ينبغي للنخبة أن تكون مؤهلة لأن تتدخل في شؤون المدينة بالإضافات الفعلية. هناك الكثير من النخب المطموسة هل رأيتم من له خبرة وكفاءة يتكلمون في الإعلام التونسي؟ لدينا في تونس نخبة اقتصادية من أفضل ما هو موجود لم أجد أحدا منهم يشارك أو يستشار أو يتدخل!! 
(7) 
توجد في الفرنسية عبارة Les maitres à penser أي قادة الفكر؛ هؤلاء أكثر أهمية من المثقف ومن النخبة، وفي العالم العربي كأنما يوجد عطالة ما أو إعاقة في هذه المسألة: من في هذا القرن من له رؤية، إذا استثنينا في تونس مثلا الثعالبي أو بورقيبة؟ 
يوجد مثلا ابن أبي الضياف قائد فكر حقيقي. يقال أنه ليس متعلما، لا أعرف، ولكن كتابه بكل أجزائه فيه تفكير عميق لم يُنتَج ما يضاهيه قوة بعد الاستقلال. حين ترى وزير تنمية ـ وهو شخصية سياسية ـ يغلق على نفسه أبواب مكتبه ويستعين ببعض الإداريين لإنجاز مخطط تنموي، فإن هذا دليل على الإخفاق، لأن خطط التنمية ينبغي أن تنجزها النخب وليس الإداري والسياسي. لكن من 1956 ظل التخطيط التنموي في تونس عملا إداريا معزولا عن الواقع، ومن هنا جاءت كل هذه الإخفاقات والأزمات؛ فالتنمية ترسمها النخب التي لها التكوين الضروري. أذكر أن وزيرا سابقا كلّف بنكا فرنسيا خاصا ليعدّ مخططا، فماذا تنتظر!!!
(8) 
النخب التي تريد أن تقوم بدورها هل يكون شكل انتظامها في أحزاب أو مؤسسات دولة أو مؤسسات تعليمية، كيف تنتظم لتقود؟ 
على الدولة أن تعرف النخبة في بلدها وهذا غير واضح في تونس، وأدعو إلى تأسيس مجلس دولة فكري بين الدولة والنخبة للتشاور، بعد 2011 لم أر سياسيا يجلس مع نخبة. لقد انتهى عصر التنمية في المكاتب المغلقة؛ نحن في حاجة للنخب والمثقفين لرسم معالم التنمية، وفي حاجة أيضا لتشريك الكفاءات المحلية، وهذا لم يحصل بعد في تونس.
(9) 
تحدثتَ عن الاقتصاد لكن لم تتحدث عن التربية، أين موقعها في مقاربتكم؟ 
اليوم نحن في حاجة ماسّة إلى مراجعات عميقة في مجالين اثنين متكاملين مجال الثقافة ومجال التربية وهما يتكاملان إلى حد كبير، اليوم رغم كل وعود الإصلاح ومشاريعه، نحن لا نملك سياسة تربوية قادرة على مواجهة الصعوبات وإعادة بناء المدرسة التونسية. هناك قراءات مختلفة لهذا الموضوع ونحن في حاجة ماسّة إلى مراجعة للنظام التربوي والتعليمي التونسي بدرجة كبيرة. ويجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا وأن نشير إلى أن النظام التربوي التعليمي التونسي يمر بمشاكل بنيوية عميقة؛ فتونس مازالت تنتج نسبة عالية من التسرب المدرسي، وعدد المنقطعين عن التعليم لدينا مرتفع بنسبة عالية في المنطقة العربية (113 ألف سنويا). 
اليوم هناك مدرستان: المدرسة العمومية والمدرسة النموذجية، وهما مدرستان متفاوتتان في السرعة والإنتاج والمردودية. ولدينا ظاهرة جديدة لم يعرفها البتة المجتمع التونسي وهي ظاهرة استهلاك المخدرات، وهي من أعلى النسب في العالم، فهي في بعض مناطق البلاد تصل إلى ثمانين بالمائة داخل المعاهد الثانوية والمدارس الإعدادية. هذا من دون ذكر مشاكل أخرى كالاستيعاب والنجاح. 
من الغريب أنه حتى اليوم بعد 2011 نحن لا نملك سياسة ثقافية تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات البلاد وتساهم في إيجاد فكر معتدل عقلاني حداثي منفتح على العصر ويعاضد المدرسة والسياسة التربوية، لأن مكافحة التشدد والتطرف تحتاج إلى تعاضد استراتيجي وجدلي بين الثقافة وبين التربية. من العناصر التي يجب الاشتغال عليها في هذا المجال هي كيفية تأطير التطرف والعمل على السيطرة عليه تدريجيا، وهذا يحتاج للتربية والثقافة والتنمية. لكن، في حدود ما أرى، لا يوجد تعاضد فعلي واستراتيجي بين التربية والثقافة والاقتصاد. في إحدى المناسبات صارحني مسؤول بارز في وزارة التربية قال لي: نحن لا ننسّق مع وزارة الثقافة، كيف لا يمكن التنسيق بينهما وهما يواجهان تقريبا نفس المشاكل؟
(10) 
كانت توجد نخبة طلائعية في فترة من الفترات، وهناك نخبة جديدة ليست بالضرورة طلائعية وتقدمية، بل قد نرى قسما من المجتمع يناقش النخبة بل ويتقدم أحيانا على نخبه، هل وعيه العام الجمعي أعلى من وعي النخبة الفكرية الفردية؟
مسألة قياس الوعي مسألة نسبية ولا توجد مقاييس دقيقة في تشخيص الوعي بشكل عام، لكن أنا لا أفضل أن أتحدث عن تفوق، وإنما عن تموقع يعني حينما لا تمتلك النخبة إمكانيات جدية للتموقع ولقراءة الأشياء قراءة موضوعية وللمساهمة في عملية التقويم تبدو غير مشاركة ومعطلة. إن التموقع نعني به المشاركة أي الحصول على موقع اعتباري وليس مؤسسيا: أنا مثلا، رغم أني لست مواكبا يوميا لمضامين الإعلام التونسي، لا أرى منزلة خاصة بالنخبة التونسية في الإعلام التونسي، في حين أرى وجوها كثيرة تفتي في كل شيء، ولا أحد يعرف مؤهلاتها وتجربتها الفكرية والسياسية أو الثقافية. ولي مثال بسيط يحيرني: مثلا أنا ـ دون ادعاء ـ أزعم أنني موجود في الساحة الفكرية والثقافية منذ ما يزيد على أربعة عقود، ما التقيت في يوم من الأيام بعشرات الأشخاص الذين نراهم اليوم في الإعلام لا في الجامعة ولا في الجمعيات ولا في الثقافة ولا في الفكر ولا حتى في السياسة. فالمشاركة في الشأن العام هو «رأس مال مدرسي» كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، ولكنها خبرة. فكيف سنحلل سياسة تنموية في المجال الجهوي والمحلي دون خبرة ودون تجربة ودون معاينة للواقع التونسي المعيش؟  
حينما نصر اليوم على أن يبقى الإعلام التونسي يشتغل بعديمي الخبرة والتجربة، فهذا يضر بالواقع التونسي ولا يسمح بقراءة من خارج هذه المنظومة قراءة تشارك فيها النخبة. انظر في الإعلام الأوروبي الفرنسي والإيطالي تجد فيه هامشا خاصا بالنخبة الاقتصادية والجمعياتية والسياسية والثقافية، وهذا مهم لأنها تقدم قراءة لا تتوفر عند المناضل أو المنتمي حزبيا.
(11) 
في العراق وسوريا واليمن وليبيا هناك موجات هجرة كبيرة نحو أوروبا وأمريكا، وهذا ما أفرز نوعا جديدا من النخب التي عاشت في المهجر وصار لها دور جديد. كيف ترى، ولو استشرافا، أن يكون مستقبل هذه النخب التي من الممكن أن ترجع إلى بلدانها؟ 
يبدو لي أننا بحاجة إلى بعض التوضيح والتدقيق: للأسف يجب أن نقول بموضوعية إن مجتمعات العراق وسوريا وليبيا، وبدرجة أقل اليمن، كانت دائما مجتمعات طاردة لنخبتها منذ الخمسينيات. ثمة جزء من تلك النخبة موجود في أوروبا، ولا يتعلق الأمر بالظروف الأخيرة. ولم تتشكل البيئة التي تحتضنهم. هذه المجتمعات منتجة دائما للهجرة، فالشاميون عبر التاريخ معروفون بالهجرة إلى لبنان ومصر، وإلى الأردن بدرجة أقل، سواء أكانوا تجارا أو متعلمين. لقد انضافت الحرب مع إسرائيل لتدعم العوامل التي شكلت بيئة طاردة لتلك النخب. 
من عناصر استقرار المجتمعات أن تكون نخبها مشاركة في المراجعات والتقويمات. أما إذا كنا مصرّين على عزل النخبة فإن هذا الوضع سيستمر. كانت هناك نخبة ليبية في المهاجر والشتات، وكان من المفروض أن تقع دعوتها للعودة إلى بلدها والمشاركة حتى بالرأي، لكن هذا لم يحصل البتة.
(12) 
منذ أن قرأت كتاب الشخصية التونسية وأنا قلق مما أسميته «المجتمعات الطاردة» التي لا تريد الاستفادة من نخبها. هل هذا مرتبط بالشخصية أم هي سياسات دولة، فالملاحَظ أنك تُحمّل الشخصية في كتابك أكثر من واقعها، مع أنها وليدة سياقات تاريخية وسياسية وليست تعاني من قصور ذاتي؟ 
هذا سؤال في غاية الأهمية والذكاء ولكن الإجابة عنه تحتاج إلى قراءة والقراءة مختلفة من شخص إلى آخر. يبدو لي أن المعطى الاستراتيجي والجيوسياسي مهم في صياغة الأزمة في مجتمعاتنا لكن الأهم هو هذا التواطؤ بين الاستبداد والقبول بالاستبداد بمعنى أن مجتمعاتنا قبلت بالاستبداد وتواطأت معه في حين كان بالإمكان الابتعاد عنه أو مقاومته، إلا أن المقاومة كانت في حدها الأدنى، هذه هي النقطة الأولى. 
أما النقطة الثانية فهي أن المستبد يصنعه المجتمع ولا يولد جاهزا. وقد رأينا ضمن تجارب عديدة في مجتمعات عربية كيف صنع الناس الحاكم المستبد وشجعوه على أن يستبد، وكيف وجد العنصر الخارجي طبعا بيئة محتضنة ومتقبلة. فحينما تساعد شعوب على توطيد أركان الاستبداد وتدعيم إنتاج المستبد، تنشأ بيئة حاضنة للاستبداد والمستبد. من المعلوم أن الحكام العرب في أغلبهم وجدوا هذه البيئة الحاضنة. وفي حين أن فرنسا قدمت مليون قتيل في معركة إنهاء الاستبداد واكتساب الحرية، ظلت مجتمعاتنا تتقبل الاستبداد. إن الشخصية القاعدية في مجتمعاتنا هي في رأيي عنصر مستبد ومشجع للاستبداد. هذا ما فهمته من دراسة تاريخ المجتمعات العربية.
(13) 
أشرتَ إلى وجود مجتمعات تشجع على الهجرة وطاردة لنخبها التي تجد نفسها في سياق خانق، أليست هجرة النخب علامة على انسداد مجتمعي؟ 
لكن في مقابل ذلك هناك من المثقفين من آزر الاستبداد ومن أفتى له قانونيا، واستنبط له الحيل ليستمر ومن المثقفين من ربط مصالحه بمصالح النظم، لماذا نذهب بعيدا ففي إحدى حكومات النظام السابق بلغ عدد الجامعيين أكثر من 12 جامعيا ولم يكونوا جامعيين عاديين بل كانوا من أفضل الجامعيين، وهذا يمثل ذكاء في استعمال النخبة لتأبيد السلطة وإعادة إنتاج الحاكم.
(14) 
هل كانت هذه النخب تؤمن بالمستبد المستنير؟
على كل حال لقد رأينا استبدادا ولم نر استنارة.