لمسة وفاء

بقلم
أ.د.احميده النيفر
المنصف ونّاس: في مسيرة التميّز الشُهوديّ
 * في صيف 2013 دعونا الدّكتور المنصف ونّاس بمناسبة انطلاق نشاط جمعيّتنا الثقافية(1)، ليقدّم كتابه المشهور «الشّخصيّة التّونسيّة: محاولة في فهم الشّخصيّة العربيّة».
 اتجه اختيارنا لدعوة المؤلّف لندشّن معاً نشاطَ جمعيّتنا النّاشئة، لما رأينا في إجادته الأكاديميّة والبحثيّة مِن تَعَيُّن معنى المثقّف الوطني الذي يُكسبه التّميز المشهود له به في مجاله المعرفي شرعيّةَ إعلان مواقف سياسيّة أو اجتماعيّة أو أخلاقيّة تهمّ الشّأن العام.
تعبّر هذه القيمة الأولى لشهادة الرّاحل عن أنّ مسيرته البحثيّة وإحكامه المنهجي لا تنفصل عن مواقفه الفكريّة والسّياسيّة ومسلكه الثّقافي -الخُلقي. لهذا رأينا في مشاركته معنا التّعبيرَ الأفضل المجسّد لإسهام جمعيّتنا الثّقافيّة في إعادة بناء الذّات بتجديد مقومات الخصوصيّة الوطنيّة في سياق تاريخي وإنساني، وأنّ هذا التّوجه لا يفصل بين المعرفة ومستلزمات التّموقع المجتمعي والقيمي.
* المعنى الآخر الماثل في مسيرة الرّاحل يتعلّق تحديدا باختصاصه في علم الاجتماع السّياسي والثّقافي. لقد تمكّن أن يُحدث في هذا المجال نقلة نوعيّة مقارنة بما كان يرزح تحته علم الاجتماع عموما وعلم الاجتماع الثّقافي والدّيني خصوصا في الجامعة التّونسيّة.
كان الدّكتور ونّاس منخرطا، مع قلّة من جيل جامعي جديد، في تَمَشٍ معرفي ومنهجي واعٍ بما يعتمل في الواقع من حراك متمثّل لديناميات المجتمع الذي ما انفكّ، في حيويته الجَمْعيّة المتواصلة، يرفض السّكونيّة والإذعان. 
تتمثّل أهمّية هذه المقاربة الأكاديميّة في تجاوزها الخطاب الإيديولوجي المُضَلِّلَ الذي تعتمده النّخب المستهينة بالمعنى العلمي للمجتمع، حيث لا ترى فيه إلاّ شتاتا من الأفراد والتّجمعات الفاقدة للذّكاء والإرادة والجاهلة بمصالحها والعاجزة عن التّغيير المستقبلي. 
مقابل هذا جاء اهتمام الدّكتور الرّاحل بالدّلالة العلميّة للمجتمع باعتباره المَعيشَ الحيَّ صاحبَ القدرات الذّاتية على الفعل والتشكُّل بما يتيحه من مُعطيات استراتيجيّة لمن أدرك خصائصه وآليّاته. أفضل تعبير عن هذا المعنى نجده واضحا في شهاداته التّحليليّة الدّراسيّة للشّخصيّة التّونسيّة والشّخصيّة اللّيبيّة.
* بهذا المكسب الجامعي - المعرفي تتأكّد قيمة الباحث المثقّف في أنّ حصافة شهادته وسداد موقفه لا يجعله داعية مسالما في جوهره، ولا داعيّة اتفاق الآراء. مسيرة الدّكتور ونّاس تلتقي، في ذلك، مع ما اهتم به «إدوارد سعيد» في كتابه «المثقّف والسّلطة» حيث اعتبر أن المثقّف هو الذي «يخاطر بكيانه كلّه باتخاذ مواقفه الحسّاسة، وهو موقف الإصرار على رفض الصّيغ السّهلة والأقوال الجاهزة المبتذلة». 
مؤدّى ذلك أنّ شهوديّة الباحث المثقّف هي في جوهرها رهانٌ اجتماعيّ سياسيّ يسعى خاصّة لتجاوز مقولة «الطّليعيّة» التي تؤكّد على القيمة الاستثنائيّة للنّخب القائدة للشّعوب والمهندسة لمصيرها. هو الولوجُ لمسلك مغاير لمطلق الأولويّة للدّولة ولسياساتها وخططها ومسؤولياتها في كلّ المستويات الحيويّة المتعلّقة بالفرد وبالمجتمع كِلَيْهما.
* حصيلة هذه القيم تضيء مسيرة الباحث والأكاديمي « المنصف ونّاس» الذي غادر أهله وأصدقاءه وزملاءه وتلاميذه، وكلّ محبّيه حَزانى إلى عالَم الرّحمة الواسعة.
صميم وطنية تلك المسيرة تدلّ على أنّه لا يمكن أن تقتصر على الرّفض السّلبي، بل إنّها تتضمّن الاستعداد للإعلان عن ذلك الرّفض على الملأ علميّا وفكريّا وثقافيّا واستراتيجيّا.
رحم اللّه الفقيد لكلّ ما قدّمه للوطن القريب والكبير في انكبابه على «عبقريّة» المجتمع لما رأى فيه من أنّه: الكلُّ البشريُّ الذي تندمج فيه حياة كلّ إنسان والقادر باستقلاليته على التّغيير وفق آليّات فاعلة وديناميّة كبيرة للانتظام والإبداع. 
تلك حقيقة مسيرة الرّاحل التي تعرّف بقيمه وجهوده في معانيها الشّهوديّة المستقبليّة.
الهوامش
(1) الجمعية هي رابطة تونس للثقافة والتعدد التي انطلقت في أعمالها منذ جانفي 2013 والتي اعتبرت أن اتجاهها الوطنيّ في الانتماء إلى مسار ثقافي جامع وقيم تضامن قديمة وحديثة «أكسبت مجتمعنا كفاءة تاريخية مشهودة يتعين استلهام روحها الأصيلة وتطويرها في سياق مستقبلي بجهد تربوي وفكري إبداعي».