تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صرخة في صخب صامت (3)
 الغرفة فسيحة، تتسع إلى أربعة أسرّة ولا توجد إلاّ مريضة واحدة يبدو أنّها وضعت وبدأت تتعافى ولم يبطئ التّأكد من ذلك، إذ أقبل أهلها قبل أن يتمّ التّعرف عليها، فاحضروا وليدها وغادروا في فرح وسرور.
بقيت الشّابة «بسمة» وحدها بالقاعة، بعد أن تركها الأهل على أمل الرّجوع إليها إن شاء اللّه بعد الخلاص. لم يكن خروجهم سهلا، وكانت بسمة تنتظر مغادرتهم بفارغ الصّبر حتّى يتسنى لها الاستفراد بنفسها، لترتب أفكارها المزدحمة، لعلّها تجيب عن الأسئلة الحارقة التي فرضت نفسها عليها. استلقت على السّرير استجابة لرغبة كم هي أكيدة، وتشابكت أصابع يديها محتضنة أسفل بطنها. هل تحتضن مولودها قبل الوضع وهل تتحسّسه بين يديها شوقا؟ وسرعان ما عاد السّؤال إليها وأعيد عليها من جديد. «هل سيكون لديها ولد غدا أم بنت؟». أجل، إلى حدّ تلك السّاعة، لا علم لها ولا طبيب من العشرة الذين تداولوا على فحصها وكشفوا عنها واستكشفوا جنينها -ممّا جعلها لم تعد تنزعج من كشف أنوثتها للطّاقم الطّبي المختصّ في أمراض النّساء أو غير المختص ولا فرق رجالا كانوا أو نساء – لا أحد منهم أكّد لها جنس جنينها. جميعهم على نفس الكلمة قالوا لها «غير متأكّد. وضع الجنين غير ملائم». 
مؤمنة بقضاء اللّه وقدره وما كتبه لها، أذعنت «بسمة» وامتثلت للصبر تنتظر ساعة الميلاد. «المهم أن يكون لي مولود بعد هذا العقم الطّويل، وسيكون وليدها رجلا بمفهوم الرّجولة وإن كان بنتا. هذا ما عوّدت نفسها عليه لتخفّف من ضغط السّؤال، وتتجاوز حيرتها مؤقّتا إلى موعد طال انتظاره وتأخّر كثيرا. 
إنّ بعد العسر يسرا. والتّرقب أفضل من التّمنّي. وهي الآن تترقّب ولا تتمنّى، لأنّها حسمت أمرها منذ سنيّ القحط «المهم أن يكون لي مولود. ولا فرق أن يكون ولدا أو بنتا». ولا يهمّ أن يكون فيما بعد رجلا أو تكون امرأة. لقد كرهت هذا التّمييز المغلوط وكفرت به. وقد عرفت لدى أصدقائها ومحاوريها في النّدوات الفكريّة التي لا تبخل عليها بالحضور والإعداد لها. ولعلّها لتشغل نفسها وتملأ الفراغ الذي في داخلها، كانت شديدة الحرص على إعداد مداخلاتها كتابيّا حتّى تتمكّن من إقناع الحاضرين معها بفكرها، وتستنجد في كثير من الأحيان ببعض البحوث والتّأملات، لتثري مداخلاتها وتؤثّثها باستدلالات وبراهين. 
وتذكّرت اليوم وهي على باب ولادة وشوشة صديقاتها وغمزاتهن حين كانت ذات يوم تلقي كلمتها على الحاضرين وقد قرأت في عيونهن الاستنكار والتّعالي، لا لشيء إلّا لأنّها لم تحبل ولم يكن لها أولاد حتى تتفقّه في الفوارق الجنسيّة وتعطي دروسا للآخرين.  واستدركت وكأنّها تستحضرهن أمامها ببسمة موجّهة إليهن، فيها لوم وتأنيب وهي الآن على عتبة أن تكون أمّا، وأن تربي مولودها على الرّجولة وإن كان بنتا. وتذكّرت «بسمة» ما ألقته عليهن يومها من كلام حفظته عن ظهر قلب وباندفاع وبراءة الطّفل أعادت مداخلتها بحضور جميع المشاركين في النّدوة ذلك اليوم، ولكنّها اختارت في هذه السّاعة أن تخاطب صديقاتها بصفة خاصّة وأن تنظر في أعينهن قائلة:  
«سئمت كلّ المعاجم العربيّة التي راكمت وكدست منذ عهود بعيدة معاني لكلمات ومصطلحات لا مكان لها اليوم، وأغلقت الأبواب على معاني جديدة بقيت دون مسمّيات تناسبها. بحثت في معجم المعاني الجامع عن معنى كلمة رجولة فأجابني : هو شعور مبالغ فيه بالصّفات الرجوليّة، كالشّجاعة والقوّة والسّيطرة على النّساء. وفي تعريف آخر هي: أن يكون الرّجل في أفضل صفاته، وأن يحارب من أجل الحياة الفاضلة، والأخلاق، والشّرف، والعزّ في كلّ مناحي الحياة، وأن يقوم بدوره كرجل بشكل كامل سواء كأب أو كأخ أو كزوج أو كصديق أو كمواطن». 
وبعد توقّف مدروس يعتمد في فنّ الإلقاء، بحثت «بسمة» في أعينهن لتقرأ مدى تأثيرها فيهن، وحتى تحثّهن على مزيد الاهتمام بما ستقوله. ثمّ سألت سؤالها الذي أرادت به أن تكون الحدث في هذه النّدوة وتسلُّط عليها الأضواء:«وإن توفّرت كل هذه الصّفات في المرأة، فماذا نسميها؟» 
وواصلت:«أين النحويّون من حجم سيبويه، ليفتونا في مصطلح يجمع بين هذه الخصائص ويشتقّ من كلمة «امرأة»؟  إن لم يكن توقّف علم النّحو منذ ذلك الزّمان، فاعلموا أنّه لم يتقدّم، أي أنّه بقي يتحرّك في نفس المكان.»
نعم. لقد تلقّت إشارات الرّضا التي كانت تنتظرها، وبان الفرح على وجهها المحمّر من أثر المخاض. وبنشوة المنتصر أضافت «بسمة» على الحاضرين الغياب:«على كلّ، سأترك كلّ المعاجم وسأتبع أيميلي نوثومب في تعريفها للأشياء ببساطتها المغرية. ...» 
وهنا توقّفت فجأة بوجود مستمع حقيقي دخل يستكشف من يحاور المريضة في ساعة متأخّرة من اللّيل. وكانت المفاجأة أنّ القادمة التقطت الجملة الأخيرة وأعادتها عليها : «من أيميلي نوثومب؟». أجابتها «بسمة» بنفس الحماس الذي كانت عليه:
«هي كاتبة بلجيكيّة توصّلت إلى تحديد تعريف للأشياء بطريقة سهلة للغاية. فهي تدّعي أنّ الطّبيعة البشريّة هي ما يقوم به البشر وأنّ الرّياضيات هي ما يقوم به علماء الرّياضيات والرّجولة ما يفعله الرّجال. وبما أنّ الرّجال يحاربون فالحرب إذا جزء من طبيعة الرّجولة. أمّا الحقيقة الصّادمة التي توصّلت إليها الكاتبة البلجيكيّة هو أنّ النّساء يقمن بكلّ ما يفعله الرّجال حتّى الحرب، وحربها على لسان الكاتبة أسوأ، فهي المعاناة الحقّة صادمة ولا تترك أيّ حظ للبطولة. (*) ...».
استشعرت «بسمة» الاهتمام بل الذّهول من الحضور المفرد إلاّ أنّ شيئا قطع نشوتها وجعلها تعود إلى واقعها ومعاناتها بعودة أوجاع الطّلق التي أصبحت أكثر عنفا ممّا كانت عليه من قبل، والتي تسارعت وتيرتها إلى أن أصبحت دون انقطاع، فاشتد صياحها مستعطفة الممرّضة التي بحضرتها للتّدخل. أسرعت الممرّضة التي لم تستوعب ولم تفقه شيئا من تلابيب المحاضرة، وفي حيرتها قالت وهي منصرفة لاستعجال الطّبيبة المباشرة «ها هي المعاناة التي لا تترك حظّا للبطولة».
لدى «بسمة» ما يغنيها عن التّفكير، ولا يهمّها الآن إلاّ أن تزول عنها هذه الآلام التي لم تعد تقوى على تحمّلها، والتي كانت فيما قبل محلّ شفقة. على السّرير المتحرّك يقودونها إلى قاعة العمليّات وعلى رأس الوجع يأتي السّؤال «طفل أم بنت؟»   
طال شقاء «بسمة» وهي ملقاة على ظهرها. فوضع الوليد ليس على ما يرام ممّا عسّر خروجه سالما. تسرّب في جسمها المخدّر، فغابت الأوجاع، وارتاحت أخيرا لتترك للطّبيب الجرّاح إجراء العمليّة القيصريّة وإخراج الوليد سالما.