القانون والمجتمع

بقلم
محمد أمين هبيري
فصل القول في التمييز بين مجتمع القانون ومجتمع اللا-قانون
 يُعرَّف القانون بكونه مجموعة القواعد النّاظمة لحياة الأفراد، التي تُنظّم علاقتهم فيما بينهم، وعلاقتهم مع الدّولة ومختلف أجهزتها، كما يُحدِّد القانون العقوبات الرّادعة لأولئك الذين يتجاوزون الحدود الموضوعة لهم، أو لأولئك الذين لا يلتزمون بتأدية ما عليهم من واجبات تجاه محيطهم. فللقانون إذًا وظائف متنوّعة، منها الوظيفة التّنظيميّة (تنظيم حياة الأفراد في علاقتهم بالأفراد وفي علاقتهم بأجهزة الدّولة) والوظيفة الزّجريّة الرّدعيّة (القوانين الجزائيّة). يشرّع القانون من طرف المجلس التّشريعي المنتخب من قبل الشّعب -صاحب السّيادة- ممّا يكسي القانون طابع الشّرعيّة.  
أمّا المجتمع، فيعرّف على أنّه مجموعة الأفراد التي تتشابه بالأفكار والمعتقدات والآراء واللّغة والتّقاليد والأعراف، ويعيشون داخل منطقة جغرافيّة محدّدة، كما تربطهم علاقات اجتماعيّة تولّد عمليّات التّفاعل الإنسانيّ، حيث لكلّ فرد دور أو وظيفة معيّنة، تعمل على بناء الهيكل الاجتماعيّ الشامل. فللمجتمع إذن ركائز متعدّدة منها الرّكائز المادّية كالسّكان والإقليم الجغرافي، ومنها الرّكائز المعنويّة كالرّوابط الاجتماعيّة والثّقافيّة.
تُعتبر القوانين من أهم الوسائل التي تمكّن الدّولة من مكافحة الفوضى في المجتمع والحدّ منها، وتستمدّ القوانين أساساً ممّا يحكم المجتمعات من عادات، وتقاليد، وثقافة، وتعاليم دينيّة، وفلسفة معاصرة وغير ذلك؛ فكلّ هذه الأمور تُسهم في إثراء القوانين، وجعلها أقرب إلى الوعي الجمعي للمجتمع الإنساني ممّا يسهّل فرضها واحترامها. 
تكمن أهمّية القانون بالنّسبة للمجتمع في حفظ الاستقرار فيه، وحمايته من الفوضى التي قد تحدث نتيجة لتصرّفات الأفراد الذين لديهم قابلية الانحراف والشّذوذ، والذين لا يراعون إلّا المصالح الشّخصيّة، بغضّ النّظر عن مدى تضرّر الآخرين. وكذلك يسعى القانون إلى توفير البيئة المناسبة للقيام بالأنشطة الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثّقافيّة، والسّياحيّة المختلفة وذلك عبر تقنين المجالات المتنوّعة وإكسائها صبغة المشروعيّة. وقد يعمل القانون على فضّ النّزاعات التي قد تحدث بين الأفراد، أو بين المؤسّسات، أو بين الأفراد والمؤسّسات، وبطريقة تحفظ حقوق الجميع، ولا تُضيّعها. 
يتمّ تطبيق القانون في المجتمع من خلال الجهات المختصّة التي تمتلك الصّلاحيّات لذلك، وعادة ما تكون إمّا أجهزة الدّولة أو أشخاص ينزلون منزلة الدّولة(1)، ولعلَّ أبرز ما يجب مراعاته عند تطبيق القوانين المختلفة مبدأ قانوني يعرف بمبدأ المساواة أمام القانون؛ بحيث يكون جميع الأفراد في المجتمع خاضعين للمساءلة القانونيّة، وللعقوبات إن صدرت عنهم إساءة ما، أمّا إن وجدت فئة ما فوق القانون أو من يتدخّل لسنّ قوانين على المقاس، فهذا يخلق الاضطرابات، وتنامي حالة الفوضى التي من شأنها إعاقة سير الحياة بالشّكل الأمثل، وحينها يتحوّل القانون من وسيلة لتحقيق العدالة بين الغنيّ والفقير إلى وسيلة بيد الطّبقة المتنفّذة داخل دواليب الدّولة وهياكلها لتحقيق مصالحها الخاصّة، ويحكم حينها قانون الغاب داخل المجتمع (2).
فإلى أي مدى ساهمت الدّولة عبر جهازها التّشريعي في بناء منظومة قانونيّة متكاملة ومتوافقة مع مقتضيات الزّمان والمكان، تتلاءم مع الوعي الجمعي للمجتمع العربي عامّة وللمجتمع التّونسي خاصّة في ظلّ ظروف اقتصاديّة واجتماعيّة صعبة وخانقة؟ 
الجزء الأول: مجتمع القانون؛ تأثّر القانون بالمجتمع
«مجتمع القانون» هو المجتمع الذي يسنّ القانون عن طريق ممثّليه في المجلس التّشريعي، ويكون موافقا لاحتياجات المجتمع ومحقّقا للمصلحة العليا العامّة ومكرّسا للعدالتين الاجتماعيّة والقضائية، وهو المجتمع الذّي تشرّب روح القانون وأضحى في الوعي الجمعي لمختلف أطيافه، بحيث أنّ مخالفته تصبح من قبيل الشّذوذ الموجب لأشدّ أنواع العقاب.
العنصر الأول: تكريس القانون للعدالة الاجتماعية:
من بين أهم وظائف القانون تحقيق العدالة الاجتماعيّة، بماهي نظام اقتصادي واجتماعي يهدف إلى إزالة الفوارق الاقتصاديّة الكبيرة بين طبقات المجتمع. تتمثّل العدالة الاجتماعيّة في النّفعيّة الاقتصاديّة، وإعادة توزيع الدّخل القومي أو الثّروة، وتكافؤ الفرص بين جميع الأفراد على مختلف الفئات الاجتماعيّة. من أبرز الدّلالات التي يثيرها مفهوم العدالة الاجتماعيّة ثلاث قضايا رئيسية، أولها قضية المساواة وعدم التمييز والتي تتفرّع عنها مسألة تكافؤ الفرص، وثانيها قضيّة الضّمان الاجتماعي، وثالثها قضيّة التّوزيع العادل للموارد.
1. المساواة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص:
ساهم العديد من المفكّرين في بناء نظريّات العدالة الاجتماعيّة المرتكزة أساسا على المساواة، من بينها نظرية «جون رولز» حول تطبيق العدالة الاجتماعيّة، حيث قدّم رولز طرحاً لنوعي المساواة الاجتماعيّة والاقتصاديّة بما يضمن انتفاع أفراد المجتمع، ويضمن فى الوقت نفسه إمكانيّة الالتحاق بالوظائف والمواقع المختلفة فى إطار من المساواة المنصفة فى الفرص. ومن أجل إقامة العدالة الاجتماعيّة وجب تكريس ذلك في قوانين الدّولة، ولعلّ القانون عدد 112 لسنة 1983 المؤرخ في 12 ديسمبر 1983، يتعلّق بضبط النّظام الأساسي العام لأعوان الدّولة والجماعات المحليّة والمؤسّسات العموميّة ذات الصيغة الإداريّة، أكّد على ضرورة المساواة بين مختلف المواطنين من دون تمييز على أساس الجنس أو الجهة أو العرق أو الدّين.
2. الضمان الاجتماعي:
يُعدّ الضّمان الاجتماعي من أبرز السّمات التى تتميّز بها معظم نظم الحكم الموجودة فى عالم اليوم، ويُعتبر أحد الأركان الأساسيّة للعدالة الإجتماعيّة، ويشمل الضّمان الإجتماعى الحقّ فى الحصول على استحقاقات أو ضمانات مادّية وغير ذلك، وفلسفة ذلك هو محاولة ربط نسيج الشّعب وتقليل الفجوات الطّبقيّة بين مختلف شرائح المجتمع دون تمييز، إضافة إلى ذلك نجد تقديم مساعدات ماليّة الى الأفراد الأكثر احتياجاً فى المجتمع، تقديم رعاية صحيّة جيّدة لكلّ طبقات المجتمع، كفالة أفراد العائلات الفقيرة وتمكينهم من تعليم فعّال وعمل لائق، وهو ما كرّسته الدّول الاسكندنافيّة في تشريعاتها حتّى أضحت نموذجا للمدينة الفاضلة المطبّقة للعدالة الاجتماعيّة.
3. التوزيع العادل للموارد:
تعني العدالة الاجتماعيّة التّوزيع العادل للموارد من خلال نظام الأجور والدّعم، ودعم الخدمات العامّة كالخدمات الصّحيّة والتّعليميّة،وإصلاح هيكل الأجور الذي يتمّ من خلاله تحديد المستوى المعيشي للعاملين، ويعكس بصورة أو بأخرى توزيع القيمة المضافة المتحقّقة في العمليّة الإنتاجيّة بين أرباب العمل والعاملين لديهم. ويعتبر إصلاح النّظام الضّريبى المتمثّل فى توزيع الأعباء الضّريبيّة على كافّة شرائح المجتمع دون تمييز من بين أهمّ تمظهرات التّوزيع العادل للموارد، إذ يحقّق الدّعم السّلعى لبعض المنتجات والخدمات، وهو بالأساس موجّه للفقراء.
وتتجلّى دستوريّة التّشريع الضّريبي في فرض الضّريبة على كافة أفراد المجتمع المقيمين على أساس مبدأ المساواة القانونيّة والاقتصاديّة دون استثناء أو إعفاء، إلاّ في حدود ما يقرّره المشرّع على ضوء مبدأ شخصيّة الضّريبة، والقدرة التّكليفيّة للمكلف على ضوء الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة المحيطة بمستوي الدّخل والأجور والأسعار، والأعباء على أساس مبدأ أنّ على الجميع أن يتحمّل التكاليف العمومية كلّ قدر استطاعته.
العنصر الثاني: تكريس القانون للعدالة القضائية:
لا تتحقّق العدالة القضائيّة في جوهرها إلّا من خلال الفصل بين السّلطة القضائيّة والسّلطة التنفيذيّة والتّشريعيّة، وذلك لتطبيق القانون الذي وضعته السّلطة التّشريعيّة دون تدخّل من السّلطة التّنفيذيّة، وهذا مبدأ دستوري يعرف بمبدأ الفصل بين السّلطات وقد عرفها مونتسكيو «هو أحد مبادِئ الدّيمقراطيّة، فهو نموذج للحكم الدّيمقراطي للدّول».
أمّا الاستقلاليّة، فتفهم على وجهين، الأول استقلالية وظيفيّة، فلا يكون على القاضي من سلطان إلّا للقانون ولضميره. وبهذا المعنى يفيد التذكير أنّ الاستقلال لا يكون فقط استقلالا عن السّلطة التّنفيذية بل وكذلك عن كلّ المؤثّرات الماليّة والسّياسيّة والعلاقات الاجتماعيّة. أما الثاني فهو الاستقلال من النّاحية الهيكليّة، بحيث يكون القضاء مستقلا مادّيّا وتنظيميّا عن السّلطة التّنفيذيّة والسّلطة التّشريعيّة. ويتمثّل في أن يقع الإشراف على القضاء من قبل هيكل مستقل مادّيا وبشريّا وإداريّا عن السّلطة التّنفيذية. 
تضمن استقلاليّة القضاء العدالة القضائيّة، وتكمن وظيفة المشرّع في تكريس هذه العدالة من خلال سنّ قوانين تضمن هذه الاستقلاليّة ابتداء، مثل القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤِرخ في 28 أفريل 2016 الذي يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، وهي مؤسّسة دستوريّة ضامنة، في نطاق صلاحياتها، حسن سير القضاء واستقلاليّة السّلطة القضائيّة حسب مقتضيات الفصل الأول منه.
الجزء الثاني: مجتمع اللاّ قانون؛ تأثر المجتمع بالقانون
لئن لم يكن هنالك مفهوم واضح لمجتمع اللاّ-قانون، فإنه يمكن القول بأنه المجتمع البشري الذي تمّ فيه إقرار مجموعة من القوانين عن طريق ممثلي النّظام الاستبدادي أو الطّبقة النّافذة في المجلس التّشريعي، ويكون متناغما مع احتياجات المنظومة الاستبداديّة ومحقّقا لمصلحتها، فالقانون فيه أداة بيد «الأوليغارشيّة»(3) من جهة، وسيف مسلّط على المجتمع من جهة أخرى، والذّي تشرّب مرارة القانون وأضحى يعبّر عن غطرسة المنظومة وجشعها، بحيث أنّ مخالفته تصبح من قبيل النّضال الموجب لأشدّ أنواع الانتفاض.
العنصر الأول: القانون كأداة بيد الأوليغارشية:
تمثل الديكتاتورية إحدى تمظهرات «الأوليغارشية»، سواء كانت حكم فرد (الأنظمة المستبدة نموذجا) أو عائلة (الأنظمة الملكيّة نموذجا) أو حزبا (النّظام الصيني نموذجا)، كما أنّ الدّيمقراطية، التي عادة ما تكون ناشئة، يمكن أن تتحوّل إلى ديمقراطيّة مزيّفة تتحكّم بها الأقلّية تحت غطاء سرديّة الانتقال الدّيمقراطي وحقوق الإنسان، وهي أشدّ خطرا من الدّيكتاتورية. إذ تتحكّم من خلالها الطّبقة النّافذة في دواليب الدّولة وأجهزتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة وتفرض سيطرتها على الاقتصاد والثّقافة والإعلام وغيره ...
يعمل القانون على تنفيذ إرادة «الأوليغارشيّة»، فمن خلال اللّوبيّات الموجودة داخل الجهاز التّشريعي للدّولة، يتمّ سنّ القوانين على مقاس أرباب المال والأعمال حتّى يكون متوافقا مع مصالحهم الشّخصيّة الخاصّة، وهنا يصبح «حكم الأكثريّة» مسرحيّة سيئة الإخراج لاتكترث بحاجيات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية ولا بالمصلحة العليا للدّولة.  ومتى وجدت مثل هذه العوامل في مجتمع، يتفشّى فيه الفساد ممّا ينتج إضرارا للأرض (أصل الكساد) وظلما للإنسان (معطّل للإعمار) فتكون النتيجة مجتمع اللّا-قانون، أو مجتمع الفوضى.
العنصر الثاني: القانون كسيف مسلّط على المستضعفين: 
في مجتمع اللّا-قانون، يكون القانون سيفا مسلّطا على رقاب المستضعفين، بحيث لا يتوافق مع جملة الظّروف والمعطيات التي تحكم المجتمع الإنساني في سياق زمني وتاريخي معيّن، ويكون فيه القانون صارما على المخالفين الذّين لا يملكون نفوذا داخل أجهزة الدّولة، وهم في الواقع أكثريّة أفراد الشّعب، مع انتهاك صارخ لمفهوم المواطنة كمقوم من مقومات الدّولة الوطنيّة، ما ينتج عن ذلك في آخر المطاف أن الكيان السّياسي الذي يؤطّر مجتمع اللاّ-قانون يصبح أقرب إلى القرية بالمنطوق القرآني(4) وبالعصبيّة القبليّة بالمنطوق الخلدوني. 
في هذه الحالة، لا يعبّر القانون عن مستضعفي المجتمع (الأكثريّة) بقدر ما يعبّر عن جشع اللّوبيات أو الأوليغارشيّة (الأقليّة) وحينها يعمّ الفساد وتكثر الخلافات وينتشر الظّلم تحت غطاء القانون، ممّا يجعل الرّعيّة خائفة تترقّب ظلم الرّاعي الذي يمثّل نظاما فوقيّا لا يحقق مصالح أرباب المال والأعمال فقط، بل يسعى إلى نشر ثقافة فوقيّة قوامها ثقافة الرّاعي والرّعيّة، السّيد والعبد، وغير ذلك من المفردات المتعلّقة بالسّيادة من جهة والاستضعاف من جهة ثانية. 
ختاما، جُعل القانون لحماية الأفراد من خلال مبدأ المساواة أمامه، لكن باستقواء فئة من المجتمع على فئة أخرى، يموت «المستضعف» داخل كشك مخالف للقانون في دولة تدّعي تطبيق القانون بينما يعيش «المتنفّذ» داخل عمارة مخالفة للقانون. هذا حال المجتمع والقانون في بلدي !!!
الهوامش
(1) أشخاص ينزلون منزلة الدولة : هم أشخاص طبيعيون يتصرفون في الملك العمومي للدولة مع منحهم إمتيازات السلطة العامة
(2) مقال بعنوان القانون والمجتمع، متاح على الرابط https://mawdoo3.com ركن: القانون والمجتمع
(3) الأوليغارشية Oligarchy أو أحيانا الأوليغاركية أو حكم الأقلية، هي شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية
(4) في القرآن الكريم لم تذكر كلمة القرية في آية إلا ذكر معها الهلاك والدمار وغيره من عوامل انهيار الدول وعدم انتظامها في كيان سياسي موحّد كقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ  ﴿4 الأعراف﴾ أو كقوله تعالى: وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴿102 هود﴾