فواصل

بقلم
النوري بريّك
بلاغة الصمت وفصاحة السكون..
 أحيانا أجد نفسي أبحث عن السّكون متسلّحا بالصّمت، وأحيانا أخرى أجد السّكون هو الذي يبحث عنّي، فأخاطبه صامتا، وفي كلتا الحالتين أشعر أنّه هو المعلّم وأنا التّلميذ، هو النّاطق وأنا الأبكم، هو الفصيح وأنا العييّ؛ 
السّكون يكشف لي سرّ الرّهبة التي تعتريني أمام الكائنات المعبّرة في صمت بليغ، إنّه صمت يرسم لي فاصلا عميقا بين أعمال الجسد وخفقات الرّوح، الصّمت قد يُسمعني دويّا هائلا يخرج من أعماق الآفاق، يلعلع بصوت لاتسمعه آذان السّائرين، وإنّما تتلقّفه أرواح الشّائقين، صمت الكائنات له ضجيج لا في الآذان وإنّما في العقول والأرواح.
تعلّمت من وحدتي أحيانا، أنّه عندما تسكن الأصوات، ينطق الصّمت، وقد تكون حالة الصّمت هي قمّة الإنفعال، لأنّه إذا كان في القول بعض الرّاحة، فإنّ في الصّمت كثيرا من الفضيلة؛ نعم قد يسمح الصّمت للعقول أن تثرثر في هدوء، ولكنّه لا يتركها حتّى تفضح نفسها، حيث يجعلها تضحك من بعض الأفكار، ثم تسقطها من حسابها..
هكذا أجد نفسي وأنا أتطلّع من كوّة بجدارالسّكون الى صمت ظهيرة خريفيّة تَصالَح فيها أو كاد نَبْلُ الشّمس وكَفُّ الظّل، ظهيرة لا يشقّها الاّ لحنُ ديك يستعرض وسامته وفحولته أمام بعض دجاجات ساكنات في استسلام. أخطو الى صلاة الظّهر بأفكار طائرة تجول في العالم على بساط الآمال، يَعْـبُق مَسْرَبِي برائحة «شعال الباقل» وتمْسَحُني بعضُ ليونة لنسمات عابرة مبشّرةٍ بمقدم فصل الخريف، فلا يحضرنـي إلاّ قــوّة وحيدة تستعبدنـي وتسيطر على كلّ كياني، إنّها ذكرى الرّجوع الى المدارس حتّى لأكاد أشمّ رائحة القاعة المضمّخة بالدّهن و«الفليتوكس»، وبقايا بعض الطّباشير، بل أكاد أرى أصحابي وصويحباتي من المدرسة الى المعهد الى الجامعة، ثمّ أرى صفوف الطّاولات تمتدّ أمامي، وعيون تلامذتي الغارقة في خلطة عجيبة، تجمع بين الرّجاء والخوف والتّطلـع والأمــل والرّهبـة والفرحــة، كلّها معا، وأرى نفسي :  مسؤولا، صاحب رسالــة، في عقلي أفكارٌ وفي قلبي محبّةٌ، أريد لو كنت قـادرا أن أمسحها على كلّ وجه وفي كلّ قلب أمامــي من تلك الأجسام الطّريّة المستقبِلة للحياة.
هذا السّكون جعلني أنطق في صمت، أحاور الكائنات أمامي وهي منحوتة على جنبات الطريق، أخاطب التّاريخ وهو لاشكّ سامعني، أصيح في المستقبل المتلفّع بالمجهول، مجهول يخيفني، يُلقيني في هوّة بلا قرار: آه يا للذّة التّمدرس، يا لحلاوة الفصل، القسم هو قدس الحياة. صمت ذكّرني بصوت معلّمي، وبسمة أستاذي، ووداد زميلتي الجميلة، وعبث صديقي البريء و«كرني» نتائجي، وبطاقة أعدادي، ووداع أصدقائي أيام شهر جوان، فرحة وأسى معا،  ثمّ سلامنا عند الرّجوع في سبتمبر بالفرحة نفسها وأمل مشوب برهبة.
أحيا فيَّ الصّمتُ أفكارا لا أريدها أن تموت، وإن كانت ذكراها تعذّبني، لأنّنا ضيّعنا الجوهر والشّكل وبقي التّمدرس مجرّد مرحلة بلا طعم؛ ويل لأمّة استهترت بتعليمها لأنّ التّعليم وظيفة الأنبياء، لكلّ هذا لجأت الى الصّمت لأستنطق السّكون، في هاجرة خريفيّة كل ّشيء فيها يثير فيّ الحنين الى القسم، ها أنّي أخطو الى المسجد والصّمت يحاورني من على رؤوس الكائنات، ورائحة الخريف تطوّح بي الى بعيد، السّفر والمحفظة والطّاولة والسّيد الذي أرى فيه كلّ العلم ومنتهى المعرفة.. ثمّ ها قد دقّ الجرس ولعلعت من الأقسام ضجّة بريئة، وأنا أسير جنب المدرسة بحيّي المتوسّد بقوس من النّخيل، ثمّ ها أنّي أضع قدمي الأولى في باب المسجد، وفي النّفس أفكار مترنّحة وآمال تطلب الرّحمة لأجيال تسير في درب فيه عتمة..
سنبقى نحتاج الى وصفة من الصّمت لنصفّي الشّوائب التي تهاجم أفكارنا تماما، كم ننظّف أسناننا بالفرشاة من بقايا الطّعام.. في الصّمت تنطق الكائنات، فلا تجامل ويُفصح السّكون فلا يُرائي..