في الصميم

بقلم
محمد الطرابلسي
عقل المسلم: بين دعاة غربة الزمان ودعاة غربة المكان
 بالرّغم من أنّ اعتماد العقل في فهم الدّين ضمانة لحيويّته وجدواه في الحياة الإنسانيّة، وضمانة لتطوّر التّفكير عبر الزّمان والمكان، إلاّ أنّ إستقطاب العقل المسلم من قبل مدرستي: دعاة غربة الزّمان ودعاة غربة المكان، زاد في ضياع عقل المسلم واضطرابه واغترابه وهذا من أبرز أسباب انحطاط المجتمعات الإسلاميّة.
أمّا مدرسة دعاة غربة الزّمان، فهي مدرسة تتشبّث بالسّلف وبالماضي، دون تجديد للفكر وتحريره من قيود هذا الماضي، وأمّا مدرسة دعاة غربة المكان، فهي تعمل على نقل كلّ ما توصّل إليه الغرب -كماهو- دون مراعاة للخصوصيّة الحضاريّة لمجتمعاتنا الإسلاميّة.
ورغم تزعّم المدرستين وسيطرتهما على الواقع الإسلامي، إلّا أنّ الأمل في الخلاص من هذا الإستقطاب الثّنائي لا يزال قائما، فقد تأسّست مدرسة ثالثة ترفض الإغتراب بشكليه المختلفين، تتعامل مع الواقع بمنهج السّلف لا بعيونهم، وترى في الإسلام مشروعا حضاريّا مستقلاّ، ونسقا فكريّا متكاملا يحترم المناهج الأخرى، ويفتح تفكيره للتّفاعل والتّلاقح مع الجميع ويرفض التّبعيّة لأيّ طرف آخر.
لكن عندما نتأمّل في واقع المسلم، نلاحظ أنّ أداء هذه المدرسة الثّالثة لا يزال ضعيفا، ونتائجها دون المأمول: فعقل المسلم يعيش حالة إغتراب مطلق، من أبرز أسبابها انتشار مظاهر الجهل والأمّية التي تفسّرها ضعف منظومة التّربية والتّعليم. الأمر الذي دفع العديد من المفكّرين إلى طرح الأسئلة التّالية: 
هل نحن مسلمون أم سلفيّون؟ هل هي قلّة عقل أم قلّة دين؟ هل الأولى النّظر في أهوال الدّنيا أم في أهوال الآخرة؟ هل الأولى الهجرة إلى عالم الغيب أم الهجرة إلى المستقبل؟ 
وممّا زاد الطّين بلّة، سيطرة دعاة غربة الزّمان ودعاة غربة المكان على الفضاء الإفتراضي بما يحتويه من منصّات للتّواصل الاجتماعي عن بعد، جاعلين منه منصّة لإنطلاق دعوتهم لشيطنة البعض وتنزيه البعض الآخر. وفي ظلّ غياب شبه كلّي للمدرسة الثالثة التي تدعو إلى التجذر في التاريخ والانفتاح على المستقبل، فقد فسح هذا الفضاء الإفتراضي المجال على مصراعيه إلى ما سمّيته في البداية الإستقطاب الثّنائي، ممّا زاد في اغتراب عقل المسلم. 
لا أدري إذا كان هذا المقال قد يفلح في إستدعاء عقل المسلم لقلب الواقع بمتغيّراته أم لا يفلح في ذلك، لكنّي أرى أنّ هذا الإستدعاء يستوجب أمثلة من الواقع، وأدلّة عن ضياع عقل المسلم بين دعاة غربة الزّمان ودعاة غربة المكان، وفي مايلي بعض من هذه الأدلّة، لعلّنا نحدث رجّة في هذا العقل التّائه:
(أ) 
هناك مظاهر عديدة في أوساط المتديّنين أدت إلى تدهور المجتمع وانهيار العائلة: فكثير من الرّجال طلّقوا زوجاتهم لسبب رفضهنّ ارتداء النّقاب، وآخرون لسبب رفضهنّ ارتداء الحجاب، والبعض الآخر يمنعون أهاليهم من حضور الحفلات، ومن مشاهدة التّلفاز، لأنّ ذلك بالنّسبة لهم رجس من عمل الشّيطان، لا بدّ من اجتنابه. ويعود الأمر هنا إلى سيطرة العاطفة على العقل، وانفصال العلم عن الفقه، وكثرة الحافظين وقلّة الواعين. فالمشكلة التي تسبّبت في تفكّك العائلة ليس قلّة الدّين بقدر ماهي قلّة الوعي بمصلحة العائلة والمجتمع، وقد ذهب في ذلك وبكلّ تفصيل المفكّر «فهمي هويدي» في كتابه «أزمة الوعي الدّيني». هذا التّطرف الذي أنهك المجتمعات ليس دليلا على سوء النّية وإنّما هو دليل على سوء الفهم وسوء التّصرّف، لأنّ هؤلاء لا يعلمون أنّ تشتيت الأسرة وتشرّدها أعظم عند اللّه من سفور الزّوجة. 
هؤلاء هم أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أوصياء على الدّين، وما يقومون به هو من باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ومنهم من انقطع عن التّعليم للتّفرّغ للعبادة وللدّعوة، لأنّهم لا يعلمون أنّ «طلب العلم فريضة إسلاميّة». هؤلاء ليسوا مجرمين أو أعداء للمجتمع، كما يراهم الكارهون للإسلام والحاقدون عليه، لكنّهم يفتقدون إلى العقل الذي يمنحهم الحصانة ويحميهم من غربة الزّمان.
هذا الأمر ليس جديدا عن مجتمعاتنا، بل هو قديم تحدّث عنه «أحمد أمين» في كتابه «فجر الإسلام»، فحدّثنا عن بعض الجماعات الإسلاميّة وعن مدى إقبال المنتمين إليها على العبادة وتفانيهم فيها، لكنّ هؤلاء العابدين السّاجدين، كانوا من أكثر النّاس عداء لمخالفيهم من المسلمين، ووصل بهم الأمر إلى تكفيرهم، ونسوا ما قاله شيخ الإسلام بن تيمية: «لا يكفّر أحد من الملّة إلاّ بالشّرك». 
(ب)
«إنّ التّاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق»، هذه المقولة موجّهة إلى دعاة غربة المكان، أولئك الذين يدعون إلى إتباع الغرب وتقليده تقليدا أعمى، واستنسخوا التّجارب الغربيّة وأصبحوا أكثر تطرّفا من الغربيين أنفسهم، فعمدوا إلى تغيير ثقافة مجتمعاتهم ومحاربة هويّتها، عبر فرض قوانين وسلوكيّات مستوردة، فأصبح النّاس غرباء عن المكان، نظرا لإنتشار الفاحشة بينهم وتفشّي السّرقة والفساد الأخلاقي، في الأسرة والشّارع والمجتمع. 
لنعد قليلا إلى التّاريخ للإستدلال، فقد أخذت الدّولة العثمانيّة منذ القرن الثّامن عشر على عاتقها تقليد الأجنبي الأوروبي، واعتبرت ذلك التّقليد سبيلها الوحيد إلى الإصلاح، وقد كان ذلك على يد السّلطان «سليم الثّالث» الذي أقبل على نقل التّجارب الأوروبيّة بطريقة عمياء دون تقييم. فكان التّعليم في زمانه تعليما أوروبيّا خالصا، وانتشرت الثّقافة الأوروبيّة في أرجاء الدّولة، واستمرت هذه الخطّة زمن السّلطان «عبد الحميد الثّاني»، لكن تلك الخطّة و ذلك الأسلوب في المحاكاة لم يفلحا في تحقيق النّهضة، إذ استمر تقهقر القوّة العثمانيّة مقابل استمرار نمو القوة الأوروبيّة، وتواصل هذا الأسلوب في المحاكاة مع «مصطفى كمال أتاتورك» وأصبح المثقّف التّركي يدعو إلى إصلاحات إجتماعيّة وسياسيّة على النّمط الأوروبي، وانتهت هذه الدّعوات بهزيمة نكراء للدّولة العثمانيّة لم يسبق لها مثيل في تاريخها، نتج عنها سقوط الباب العالي على يد القوى الإستعماريّة الأوروبيّة، التي كانت بالنّسبة لجزء كبير من المثقفين والسياسيين الأتراك نموذجا للإصلاح والتّجديد والتّحديث. وأصبح على إثر ذلك، المجتمع التركي مجتمعا أوروبيّا وأجبر الشّعب على ارتداء الملابس الأوروبيّة وفُرض على النّساء خلع الحجاب، وألغيت جميع التّشريعات الإسلاميّة وأقيمت مكانها قوانين أوروبيّة، فتدهورت ثقافة المجتمع وانتشرت مظاهر الإنحطاط والتّبعيّة المطلقة. 
(ج)
هناك سؤال جوهريّ يفرض نفسه علينا : «لماذا يستدرجنا الغرب في كلّ مرّة إلى حروب وهميّة بين دعاة غربة الزّمان ودعاة غربة المكان؟»، والإجابة في إعتقادي واضحة، كي نظلّ نعيش في دوّامة المشاكل المفتعلة التي لا نعرف نهايتها، والتي تتجدّد في كلّ وقت وحين، مرّة بين التّيارات الإسلاميّة المختلفة ودعاة الحداثة واللّيبراليّة، ومرّة بين المثقّفين أنفسهم، ليصدعوا رؤوسنا بقضايا قديمة لا تنتهي، كالعلاقة بين العروبة والإسلام، وبين القوميّة والوطنيّة، وبين التّراث والحداثة، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الشّورى والدّيمقراطية، وبين الإسلام والعلمانيّة...يريد الغرب منّا أن نتقاتل باستمرار، وأن نتصارع باستمرار، لتتوفّر لديه القابليّة لاستعمارنا واستغلال ثرواتنا، وتدميرنا نهائيّا، حتّى يضمن تبعيّتنا له ثقافيّا وحضاريّا واقتصاديّا، وبذلك نبقى غرباء عن الزّمان وعن المكان أبد الدّهر.
هذه المعارك الوهميّة وهذه الصّراعات، من شأنها أن تزيد في القطيعة بين السّياسيين والمثقفين من جهة والشّعب من جهة أخرى، وسيتحمّل السياسيّون والمثقّفون في هذه الوضعيّة المسؤوليّة كاملة، بإعتبار أنّ السّياسة التي تجهل قواعد الإجتماع وأسسه تستطيع فقط بناء دولة تقوم على العاطفة في تدبير شؤونها، وتستعين بالكلمات الجوفاء في تأسيس سلطانها، وتذهب معها جهود الإصلاح هباء منثورا، كأنّها لم تكن.
لقد أصبحت أمّتنا تتجاذبها تيّارات وجماعات وأحزاب مختلفة، تارة تجرّها نحو الماضي بإيجابيّاته وسلبيّاته، فيجعلون الناس غرباء في زمانهم، وطورا تجرّها نحو ثقافات ما وراء البحار ليجعلوا من الشّعوب غرباء عن المكان. فما هو الحلّ لتجاوز هذا الواقع المرّ؟ وكيف السبيل إلى كسر غربة الزّمان والمكان في آن؟ 
(د)
قد يبدو الحلّ الذي سأقدمه غريبا وصعب التحقيق على أرض الواقع بالنّسبة للبعض، لكنّنا نراه ضرورة ملحّة، وغاية على الجميع أن يعمل لتحقيقها والوصول إليها برغم صعوبتها. يتمثّل هذا الحلّ في توحيد المذاهب والجماعات والتّيارات الفكريّة تحت راية إسلام واحد يتعايش مع الجميع، إسلام يقوم على قاعدة نبذ العنف والتّسلّط والهيمنة مقابل الدّعوة إلى قيم العدل والحرّية والمساواة. وهذا يتطلّب من النّخب الدّينيّة والثّقافيّة أن تدعو النّاس إلى تغليب الإنتماء إلى هذه الأمّة على غيره من الإنتماءات الطّائفية أو المذهبيّة أو الحزبيّة.
ليس في هذا الأمر غرابة، فمبادئ وقواعد وشروط النّهضة متوفّرة في الكتاب والسّنة، ومقاصد الشّريعة لا خلاف حولها. ولكنّ المشاكل لاتنتهي، فما علينا إلاّ أن نجتهد مثلما اجتهد غيرنا، ونستخلص الحلول مثل غيرنا وتلك مسؤوليّة أهل الاختصاص والخبرة، ثم يأتي بعدهم دور الفقهاء وأهل الإجتهاد. «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...» (سورة الرعد - الآية 11).
المصادر والمراجع:
(1)  بن نبي مالك: شروط النهضة، دار الفكر، دمشق، سورية، الطبعة الرابعة 1992، 175 صفحة.
(2) هويدي فهمي: أزمة الوعي الديني ، دار الحكمة، صنعاء ، اليمن، 1988 ، 368صفحة . 
(3) أبو سليمان عبد الحميد أحمد: أزمة العقل المسلم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 274 صفحة.
(4) عثمان محمد علي محمد: الحروب الدينية في أوروبا على مشارف العصر الحديث، مجلة التفاهم 2013، العدد 42 ، سلطنة عمان، مسقط، ص ص 97 ـ 130 .
(5) العودات حسين : المثقف العربي و الحاكم، دار الساقي، بيروت 2012 .
(6) بلقزيز عبد الإله: نهاية الداعية، الممكن و الممتنع في أدوار المثقفين، ط 2 ، بيروت، الشبكة العربية لأبحاث النشر ، 2010 .
(7) الطهطاوي، رفاعة رافع، مناهج الألباب المصريّة، في الأعمال الكاملة، تحقيق محمّد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1973م.
(8) التونسي، خير الدين، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، بيت الحكمة، تونس، ط1، 1991م.
(9) ابن أبي الضياف، أحمد، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، الدار التونسيّة للنشر، تونس، ط2، 1976م.