من وحي الحدث

بقلم
فؤاد بوعلي
الهوية....خطاب أزمة
 حين كتبنا قبل ثلاثة أسابيع، عن الدّستور الجزائري الجديد، ووصفناه بأنّه استنساخ للدّستور المغربي، اعتقد الكثير ممّن انتقد رؤيتنا بأنّنا نتّهم إخوتنا في الدّين والإقليم والهوية بعدم القدرة على إبداع نصّ يؤطّر حياتهم السّياسيّة والمجتمعيّة. والواقع أنّ قضيتنا أعمق من هذه القراءة الاختزاليّة، لأنّنا ركّزنا على التّماثل بين النّصين الدّستوريين في توجيه النّقاش العمومي نحو قضايا الهويّة والانتماء واللّغة، ممّا سيديم الاصطفاف والتّجاذب بين الأطياف الإيديولوجيّة والمجتمعيّة، ولن يحلّ الإشكال الهويّاتي كما يتصوّر بعض المنافحين عن النّسخة الجديدة. ولنا في دستور 2011 خير الأمثلة. 
فبالرّغم من حرص المشرّع على الإشارة إلى الهويّات السّبعة في الدّيباجة، وإدراج الأمازيغيّة لغة رسميّة إلى جانب العربيّة، والحديث عن الحسانيّة والتّعبيرات الثّقافيّة ولغات الانفتاح، لم يتوقّف النّقاش العمومي حول قضايا الهويّة وإشكالات الانتماء الوطني للمغرب، ممّا يجعلنا نسائل النّص الدستوري في جوهره في الحالتين المغربيّة والجزائريّة على السّواء: هل استطاع تقديم إجابات عن إشكالات حقيقيّة أم عن أسئلة افتراضيّة وهميّة في أذهان لجان التّعديل؟ وهل قدّم النّصّ الدّستوري رسما للهويّة الوطنيّة القائمة على المفهوم الدّيمقراطي للمواطنة، في إطار المصالحة مع الذّات أم رَسَمَ معالم هويّة جديدة؟ وهل جواب الدّولة عموما من خلال التّدبير الدّيمقراطي يحلّ الإشكال الهويّاتي المراكم داخل المجتمع، أم هو ترسيخ لاضمحلال المجتمع مقابل الحضور القويّ للدّولة؟ وهل ما نشهده الآن من نقاشات هوياتيّة وخلخلة ثقافيّة، تصحيح لنتائج الاستقلال الوطني؟ أم هو ترسيخ لأخطاء تاريخيّة وشرعنة لها؟ وهل نحن متّفقون على مسمّى «الهويّة الوطنيّة»، أم أنّ الاصطلاح هو «وهم» للتّغطية على الفشل التّاريخي لمسمّى الوطن؟ أم الأمر يتعلّق بنقاش كوني يراد منه تراجع منطق المواطنة لصالح الخرائط الهوياتيّة التي سترسم العالم الجديد في أفق سايس بيكو جديدة ؟..... 
هذه جملة من الأسئلة التي ينبغي طرحها في نقاشات النخبة المثقفة قبل البحث عن موقع للتميز الهوياتي. فمسألة الهويّة، سواء كانت دينيّة أم عرقيّة أم لغويّة، هي جواب عن قضيّة المرجعيّات والثّوابت التي فقدت وتفتقد لعنصر التّوافق حول مقتضياتها. فبعد عقود من سيادة النّموذج الأحادي الشّمولي في التّدبير السّياسي والثّقافي وتلازمهما في المخيال الجماعي، حيث ارتبطت وحدة الذّات الجماعيّة بالأمن السّياسي والفكري، غدت الثّورة على الاستبداد التي عمّت ساحات الرّبيع العربي، توازي مراجعة القيم الوحدويّة وإعادة النّظر في دور المكوّنات الإثنيّة والدّينيّة واللّغويّة داخل الدّولة الدّيمقراطيّة المنشودة، حيث اصطبغت المظاهرات، في أحيان كثيرة، المطالبة بالكرامة والحقّ في الحياة بألوان ثقافيّة وإثنيّة. وهذا ما فرض على النّخبة التّعامل مع المطالبات الهوياتيّة بنوع من البراغماتيّة القسرية. 
لذا كانت الهويّة وما تناسل منها من قضايا من أهمّ عناصر التّعبئة والحشد الإيديولوجيّين، وتعاملت معها النّخب العربيّة ليس باعتبارها عناصر تثبيت المشترك الجمعي، وإنّما كأدوات إيديولوجيّة وسياسيّة في مسار التّنافس الحزبي والاجتماعي. ممّا يدفعنا إلى القول، إنّ رؤية النّخبة إلى المسألة عموما يطبعها منطق الأزمة والتّناول الصّدامي الذي يصل في أحيان كثيرة إلى المواجهة. وخير الأمثلة ما تعيشه المنتديات الجزائريّة بين مؤيّد لترسيم الأمازيغيّة باعتبارها جاءت لصدّ محاولات ضرب وحدة الأمّة الجزائريّة، ومعارض يرى أنّ اللّغة العربيّة اللّغة الرّسميّة الوحيدة المعترف بها، ولا ينبغي تقسيم المجتمع الجزائري. 
كما أنّ منطق الأزمة هو الذي يحكم خيارات السّلطة في تناول المسألة الهوياتيّة ممّا جعلها مطبوعة بالبحث عن الحلول والتّوازنات الاجتماعيّة. أي أنّ القراءة السّلطويّة لم تنبع من تفكير عميق حول الحلّ الشّمولي لإشكال الهويّة وتركيبته والأسباب التّاريخيّة الفاعلة في تشكلّه مثل التّجزئة الاستعماريّة وصناعة الدّولة القطريّة التي غدت مشرعنة فكريّا وإيديولوجيّا، ومنظومة القيم المتداولة وطبيعة التّناقضات الدّاخليّة...، وإنّما اتجه البحث نحو الحلّ العرضي السّياسي، دون استحضار لقيم الانتماء وجدولتها الوظيفية. 
لذا، وبالرّغم من انفتاح النّصّ الدّستوري «الجديد» على مجموعة من المكوّنات الهوياتيّة، وفق رؤية حكمت مهندسي التّعديل في البلدين، فسيظلّ التّجاذب والصّراع بين الفاعلين المجتمعيين والسّياسيين هو عنوان مرحلة ما بعد التّعديل، لأنّ أهمّ مياسم النّقاش الهويّاتي في المغرب العربي كونه على الدّوام نقاش أزمة بالنّسبة للسّلطة والنّخبة على السّواء.