في العمق

بقلم
نجم الدّين غربال
اقتحام العقبة الحلقة الأولى: المفهوم والمُتطلِّبات
 توصلنا في مقال أوّل الى رسم نَمُوذج للواقع البشري من خلال تدبّر «سورة اللّيل» في القرآن الكريم يحتوي مسارين لِسَعْي الإنسان، الأول مُؤدّي الى يُسر حياة الأفراد والمُجتمعات، والثّاني الى عُسرها(1) ثمّ اختبرنا في مقال ثان دقّة هذا النّموذج وفاعليته، أين توصّلنا الى تحديد ضمانات ثلاث لتيسير حياة الإنسان والمجتمعات، وهي العطاء مُتعدّد الأوجه والتّقوى والتّصديق بيوم المُكاشفة والمُساءلة، فالجزاء(2)، إِلاَّ أن عقبات حقيقيّة ظاهرة وباطنة تعترض السّاعي الى اكتساب تلك الضّمانات، فما هي تلك العقبات وما الكيفية التي يُمكن من خلالها اقتحامها، حتّى يكون عطاء الإنسان مُتجدّدا وتقواه راسخة وتصديقه بيوم الحساب مُتَجَدِّدا وذلك حفاظٍا على حرّية الافراد والمجتمعات وكرامتهم وتحقيقٍا ليُسر حياتهم؟
I. العقبات الظّاهرة
من العقبات الظّاهرة الّتي تجعل حياة الأفراد والمجتمعات ، بما فيها حياة مجتمعنا التّونسي، عسيرة والتي قد تُؤدّي بهم الى الهلاك، ما يلي:
- الدّيون إذا تجاوزت القُدرة على سدادها، لأنّها تجعل القرار الوطني للدّول المدينة مُرتهنا للدّوائر والجهات الدّائنة، كما أنّها تُساهم في تعرّض المجتمعات الى صدمات اقتصاديّة، ومن جهة أخرى لأنّها تستضعف الأفراد تحت وطأتها بجعلهم مهمومين باللّيل، أشقياء بالنّهار وواقعا، قد تجاوزت الدّيون الوافدة تدفّقــات الاستثمــارات الوافدة في جميع مناطـق العالم عام 2018(3)، ولم تزل في ازدياد من سنة الى أخرى.
- البطالة الهيكليّة، لأنّها تُشكِّلُ نزيفا مُتواصلا للطّاقة التّشغيليّة للمجتمعات، فهي بطالة طويلة الأمد وتمسّ فئات عريضة من القادرين على العمل  في المجتمع، بسبب عدم توافق مهاراتهم مع المهارات المطلوبة في مجال الأعمال والفرص الوظيفيّة المتاحة، أو بسبب الرّكود الطويل في بيئة الأعمال. 
- الفقر إذا تعدّدت أبعاده، لأنّه يستهدف وُجود الإنسان وكرامته، وبالتّالي يستهدف عماد المجتمع وقوامه؛ وقد تحدّث البنك الدّولي أنّه لأوّل مرّة يزداد معدّل الفقر بسبب كورونا منذ عام 1998 نتيجة  الأزمة الماليّة الآسيويّة آنذاك،ويتوقّع أن يدفع فيروس كورونا 115 مليون شخص إضافي الى دائرة الفقر(4)  
- الأوبئة، التي تفتك بالعنصر البشري والبيئة الملوّثة، لأنّها تُخِلُّ بشروط الحياة الصّحيّة وغيرها، فتكلفة البيئة المُلوّثة، حسب تقديرات منظّمة الصّحة العالميّة وفاة مليون وسبع مائة ألف طفل سنويّا(5)، أمّا موتى وباء «كورونا» فقد وصل عددهم إلى أكثر من المليون ومائتين وخمس وسبعين ضحيّـة(6)  الـى حدود نهاية شهر أكتوبر الماضي.
II. العقبات الباطنة
العَقَبَةُ بفتح العين والقاف والباء، جمع عقبات وعقاب، وهي الطّريق الصّعب في أعالي الجبال(7)والمعنى المحمول على كلمة «العقبة»  في القرآن الكريم هو الطّريق الصّعب في نظر غير المؤمنين برسالة الإسلام في الالتزام بمعالم الطّريق الى اللّه، طريق الحُرِّيَّة والكرامة ويُسْر حياة الأفراد والمُجتمعات. 
فالسّائر في طريق اللّه، هو ذلك السّائر في طريق حرّية وكرامة ويُسر حياة الأفراد والمجتمعات، وتلك هي رسالة الإسلام، والمُعادي لها، لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يقتحم العقبة الباطنة المستحكمة فيه على مُستويات ثلاث، مُستوى التّصورات التي يحملها عن الوجود والحياة والإنسان ومُستوى المنهج الذي يتّبعه ومُستوى السّلوك الإنفاقي، تصوّرات ومنهج وسلوك جعلته عاجزا عن القيام بعمليّة الاقتحام، كالذي لم يقدر على اقتحام العقبة وورد خبره في سورة البلد في القرآن الكريم، ولكن لماذا وكيف؟
إن التّصّورات للوجود والحياة والإنسان والتي تحكمها «الدّهرية»، إنّما هي تصوّرات ينطلق صاحبها من مقولة «ما يُهلكنا إلاّ الدّهر» أي أنّه لا يُصدّقُ ولا يستحضر الفعل الإلهي خلقا وفناء ونشورا للمحاسبة والجزاء، وبالتّالي هي تصورات لا تكبح جماح العبث بالوجود والحياة والإنسان، وما حجم الفساد الذي ظهر في البرّ والبحر الاّ شاهد على ذلك.
أمّا منهج الحياة المبني على مُسلّمات وضعيّة من أمثال مُسلّمة «نُدرة الموارد» و«حاجات البشر اللاّمحدودة» و«حُرّية رأس المال»، فقد دفع واضعي السّياسات الاقتصاديّة الدّوليّة والمعنيّة بخلق الثّروة والتّصرف فيها، ومِن ورائهم مُترفي العالم الى التّحكّم في موارد العالم وتقسيم العمل دوليّا لخلق الثّروة، ولكن ليس بهدف تلبية حاجات البشريّة وإنّما بهدف مُراكمة الأرباح خوفا من نُضوب المال، وكذلك لتلبية حاجاتهم التي يعتقدون أنّها لا محدودة وذلك باتباع أسلوب إهلاكي للمال على حدّ التّعبير القرآني في سورة «البلد»، ممّا ينقلنا الى المستوى الثّالث المتعلّق بسلوك الإنفاق الإهلاكي اللاّتعميري في الأرض.
فمن مؤشّرات ذلك أنّ ما يُخصّص من الإنفاق العالمي على الرّعاية الصّحيّة للبشريّة لا يكاد يُغطي نصف سكان العالم البالغ عددهم 7.7 مليار نسمة، ممّا لا يسمح بإعمار الأرض بشكل كامل وفي المقابل ووفقا لتقرير حديث لمعهد ستوكهولم للسّلام الدّولي (سيبري) فإنّ الإنفاق العسكري العالمي وصل الى أعلى مستوى له منذ ثلاثة عقود نتيجة زيادة معدل التّنافس على هذا النّوع من الإنفاق بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة والصّين أساسا واللّتان تعتبران الأوائل عالميّا في إنتاج الثّروة وفي التّصرف فيها أي في النّشاط الاقتصادي(8). 
وأمام هذه العقبات الظّاهرة منها و الباطنة، وارتباط استمراريّة وجود الأفراد والمجتمعات باقتحامها، أصبح توفير مُتطلبات عمليّة الاقتحام أكثر من حيوي، فما هي أهم تلك المُتطلِّبات؟
III. مُتطلّبات اقتحام العقبة: 
لن تتحقّق عمليّة الاقتحام بنجاح إلا بتوفّر مجموعة مُتطلّبات أهمها:
- أهل الاقتحام
ما من شكّ أنّ العقبات سابقة الذّكر أمور عظام، ومُعالجتها تتطلّب تبعا لذلك فعلا من نوعها، عظيما عظمة العقبة أو تزيد، فيه الإقدام والدّخول بلا تروٍّ ذلك معنى فعل الاقتحام، فالأمر لا يتحمّل التّردّد ولا التّراخي، بل يتطلّب الإصرار والمُواجهة وكذلك القُدرة العلميّة والاجرائيّة، لذلك لن يكون فعل الاقتحام هذا إلاَّ من عظماء، أصحاب القدرة على رفع التّحدّي في ذواتهم أوّلا، ثمّ في واقع مجتمعاتهم ثانيا، لإنقاذ البشريّة من الأسر الحياتي والمعيشي الذي تردَّت فيه. 
ولأنّها أمور عظام فإنّ العُظماء عبر التّاريخ، وفي مُقدّمتهم الأنبياء والمُرسلون، هم من اقتحموا العقبات التي حالت دون حرّية وكرامة، ويُسر حياة أفراد الجهة التي أُرسلوا لها، ومن تَخلوا هُم الذين لم يقدِروا على اقتحام العقبة والذين خصّهم القرآن بالذكر في سورة «البلد» للإخبار عنهم وبيان صفاتهم التي حالت دون إكسابهم القُدرة على الاقتحام(9)خاصّة خاصّيّة الجشع وإطلاق التّصرف في الموارد دون رقيب أو حسيب.
واليوم تجد المجتمعات الإنسانيّة نفسها -بما فيها مجتمعنا التّونسي- في أمسّ الحاجة الى «العلماء ورثة الأنبياء» لاقتحام العقبة التي تُحول دون حُرِّية الأفراد والمُجتمعات وكرامتهم ويُسر حياتهم، ولن يكون العُلماء كذلك ما لم يتحرّروا من الأوزار والمعيقات المُكبّلات لعملية الاقتحام، كأن يتحرّروا من توظيف مستواهم العلمي لتلبية جشعهم ويتحرّروا من تعلُّقِهِم بالآني الظّرفي الذّاتي أو الفئوي ويهتمّوا بالاستراتيجي الإنساني. وأن يكونوا علماء قادة لصُناع القرار السّياسي لا خدما لهم، صادقين في نشاطهم العلمي، مخلصين لوطنهم، حاملين أمانة حرّية أفراد مجتمعاتهم وكرامتهم ويسر حياة أفرادها، لا أن يكونوا ممّن وصفهم الإمام عليّ بن أبي طالب ذامّا لهم «ظِلال المُلوك ضَلال الرّعيّة».
 كلّ تلك المواصفات للعلماء تجعلهم ورثة للأنبياء، فيكونون بذلك أهلا لريادة عمليّة اقتحام العقبة فهم أهل الاقتحام بدون منازع.
- فَكُّ الرِّقاب (التّحرّر الذّاتي والحضاري)
الحرّية ليست فقط من نظام فاسد ومستبدّ محلّي أو عالمي، بل تحرّر ذاتي من منظومته ومكوّناتها العقليّة والقانونيّة والإداريّة والهيكليّة التي لا تزال جاثمة على صدور العالمين بما فيهم التّونسيين، وما تحمله تلك المنظومة من تصوّرات ومفاهيم ومسلّمات، ومن تشريعات غير منصفة لكلّ أفراد المجتمع، وأنماط أدائي إداري مكبّلة للنّشاط الاقتصادي، ومؤسّسات ومنظّمات عاجزة عن إحداث تغيير حقيقي يُحدث تيسيرا لحياة الأفراد والمجتمعات.
والتّحرّر الذّاتي من تلك المنظومة لن يتحقّق ما لم يتمّ القطع مع غفلة سكنت القلوب وتغلغلت في العقول، فبات استحضار حتمية المكاشفة والمُساءلة والمحاسبة الالهيّة شبه غائب، على كلّ تصوّر وقع تبنّيه، وعلى كلّ منهج وقع اتباعه، وعلى كل سلوك إنفاقي تمّ القيام به؛ والحال أنّ تلك المحاسبة واقعة لا محالة، ويكفي الإنسان أن يُدرك تركيبته ليعلم ذلك «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا* أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرهُ أَحَدٌ* أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ*وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن» (10) 
والتّحرُّرُ يكون أيضا حضاريّا من خلال القطع مع المنهج الوضعي ومُنطلقاته التي أصبحت مُسلّمات كمَسلّمة «نُدرة الموارد» و«حاجات البشر اللاّمحدودة» و«حرّية رأس المال المطلقة» والتي أصبحت تتحكّم في عُقول السّياسيين وصُنَّاع القرار دُوَليًّا ومحلّيا، وفي ما يضعوه من سياسات اقتصاديّة وما تتمّ مُمارسته خاصّة في مجال التّصرّف في الأموال والموارد بصفة أعمّ وأشمل إيرادا و إنفاقا. 
ولتجاوز العقبات سابقة الذّكر، تحتاج الإنسانيّة من خلال عُلمائها وصُنّاع قرارها ومصيرها، الى منهج جديد لا تنطلق فيه من المُسلّمات التي يضعها الإنسان المخلوق الضّعيف، العَجُول، الجشع، الخائف من فقدان الموارد، بل من مُسلّمات قُرآنيّة من خالق الإنسان العادل صاحب إرادة التّيسير بالعباد، وتخفيف طبيعة الضّعف فيهم، وبيان سبيل هدايتهم، كالمُسلّمة التي تمنحنا إيَّاها الآية «وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ»(11)، مسلّمة مفادها أنّ رزق كلّ دابة في الأرض مُتوفّر ومضمون، وإذا فقد أحد رزقه، فإنّ ذلك يعود لتصوّراته وللمنهج الذي اتبعه العلما وصنّاع القرار السّياسي بمجتمعه، وسلوك الإنفاق الذي سلكوه في المال الذي استخلفهم اللّه فيه إما تقتيرا او إسرافا، سلوك إهلاكي للمال، وما ظاهرة الفقر والبطالة والتّداين المفرط إلاّ نتائج لسياسات إنفاق غير سليمة وغير رشيدة، ولنا في الأثر مثال لذلك «ما جاع فقير الا بما مُتّع به غني».
فمسلمة «ندرة الموارد» نابعة من نفسٍ خائفةٍ من فقدان تلك الموارد، وهي مُسلّمة لا تمتّ للواقع والحقيقة بأيّة صلة، فكلّ البيانات الصّادرة عن الجهات المختصّة تؤكّد توفّر الموارد لتغطية حاجيّات كلّ سكان المعمورة، فالـ «فاو» أعلنت مؤخّرا أنّ المحاصيل الزّراعية في العالم ومخزون المياه والطّاقة بمختلف أنواعها تكفي لسدّ الحاجات الغذائيّة لكلّ النّاس، وقس على ذلك وهذا أفق آخر نبحث فيه مستقبلا إن شاء اللّه بعد أن نتحدّث في مقال قادم عن كيفيّة اقتحام العقبة وآليّاته بعون اللّه استكمالا لما احتواه هذا المقال من بلورة مفهوم العقبة ومتطلّبات اقتحامها وذلك تيسيرا لحياة الأفراد والمجتمعات. 
الهوامش
(1) راجع مقالنا بالعدد 159 من مجلة «الاصلاح» الالكترونية «alislahmag.com»
(2) راجع مقالنا بالعدد 160 من مجلة «الاصلاح» الالكترونية «alislahmag.com»
(3)  Blogs.worldbank.org
(4)  https://www.bbc.com
(5)  https://www.who.int
(6)  https://www.lepoint.fr
(7)   معجم المعاني الجامع
(8)  www.independentarabia.com
(9) و(10) تدبّر سورة البلد كاملة في القرآن الكريم.
(11)   سورة هود - الآية 6