نفحات

بقلم
عبد الله البوعلاوي
العقل والغفلة ضدان لا يجتمعان(2)
 -1 الغفلة عن آيات اللّه تعالى
تنقسم الغفلة عن آيات اللّه تعالى إلى قسمين؛ غفلة عن آياته الشّرعيّة، وغفلة عن آياته الكونيّة.
الغفلة عن آيات اللّه المبثوثة في كتاب اللّه تعالى: لقد أنزل اللّه تعالى القرآن الكريم متّصلا بحياة النّاس وواقعهم وحركتهم، فقد اشتمل القرآن الكريم على جميع ما يمكن أن يحتاج إليه الإنسان في حياته الرّوحية والمادّية. 
والحقّ في ذلك أن يقرأ الإنسان القرآن بهدف التّعامل معه بفاعليّة، ويمشي على خطاه، لا أن يعتبره نصّا مقدّسا  للتّبرك والاستشفاء، لهذا يعتبر التّأمل في القرآن الكريم وقراءته بقلب واعٍ، ضرورة شرعيّة وسنّة كونيّة، يحتاج الإنسان إليها لمعرفة سرّ وجوده إلى جانب سرّ الوجود بكامله، لتنضبط علاقته بخالق الوجود، ويحقّق أمر الاستخلاف في الأرض. 
يأمر اللّه تعالى بقراءة القرآن الكريم وتدبّره، وينهى عن الإعراض عنه، فقال:﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُها﴾(1)، «والاستفهام تعجّب من سوء علمهم  بالقرآن ومن إعراضهم عن سماعه. والمعنى: «بل بعض القلوب عليها أقفال، وهذا من التّعريض بأنّ قلوبهم من هذا النّوع. لأنّ إثبات هذا النّوع من القلوب في أثناء التّعجّب من عدم تدبّر هؤلاء القرآن، يدلّ بدلالة الالتزام، لأنّ قلوب هؤلاء من هذا النّوع من القلوب ذواتِ الأقفال. فكون قلوبهم من هذا النّوع مستفاد من الإضراب الانتقالي في حكاية أحوالهم» (2) . 
لقد أنكر القرآن على من يقرؤه دون سبر مقاصد تشريع أحكامه وعلاقتها بحياة الإنسان الوجوديّة. هذا الصّنف الذي يقرأ القرآن  ولا يستفيد من نوره، كمثل الذين وقع لديهم الشّك فيما أخبر به من آيات تشريعيّة، إذ كانوا يخرجون من عند رسول اللّه ﷺ فيستهزئون، ويقولون ماذا قال آنفا، لأنّهم لم يرقوا إلى ما يخبر به من دلائل حكمته، لا لأنّهم كابروا أو عاندوا  آياته، بل  لأنّهم لم يلقوا إليه حواسهم، ليكونوا على استعداد  في التقاط  معانيه، ولم ينتفعوا بفيوضاته وكنوزه.
إنّ الغفلة عن فهم معاني القرآن تفوّت على الإنسان انتفاع  القلب بهديه وأنواره، ولو انتفع به لصلحت أحواله  ولانتقل من الحيرة  إلى الرّشد، ومن الظّلمات إلى النّور، ومن الضّلال إلى الهداية، لهذا استنكر اللّه على كلّ من لم يتدبّر آياته، فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبّرُونَ القُرْآنَ﴾(3)، و«الاستفهام عن عدم تدبرّهم فيما يتلى عليهم من القرآن وهو المقصود بالقول، أي الكلام، هنا يأتي التّساؤل الإلهي، بالنّسبة إلى هؤلاء الذين تردّد ألسنتهم التّراتيل، دون وعي لمقاصده، ولا تطبّق أحكامه، هل أقفلت قلوبهم وعطلت عقولهم، فلا تتدبر ما تقرأ ولا تنتفع به» (4) .
إنّ الغاية من قراءة القرآن الكريم فهم آياته وتثويرها، وتحصيل المنفعة منها، يقول تعالى:﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(5). ويعتبر الجهل حالة طارئة على الإنسان تعطّل حواسه، فيهوي بها إلى درجة الكائنات غير العاقلة، وتزجّ به إلى درجة الدّونيّة، وتجعله من أهل النّار في الآخرة، يقول اللّه تعالى:﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(6).
«وتأتي الدّعوة الإلهيّة من جديد إلى الذين عطّلوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم عن ذكر اللّه وما نزل من الحقّ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾(7)، أن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يفتحوا مغاليق قلوبهم، ويزيلوا عنها ما ران عليها من الصّدأ ، وأن يُعملوا عقولهم بعد أن يزيلوا عنها ما تراكم من غبار التّقليد عبر السنين، وأن يعيدوا قراءة كتاب اللّه، ويتلوه حقّ تلاوته، بأعين مدركة  للنّصوص، مفتوحة على الواقع. عندها، سيجدون أنّ اللّه تعالى قادر على أن يحي الأرض بعد موتها، وقادر على أن يعيدهم إلى الحياة والعزّة بالقراءة من جديد»(8). 
وتعتبر القــراءة المتدبّرة للقرآن الكريــم المنفـذ إلى فهم الوحي، والإبحار في معانيــه، والجولان في فضاءاته المتعدّدة والتّنقل في آفاقه. وعدم القيام بتدبّر القرآن الكريم وفهمه، يعطّل تنزيل آيات اللّه الشّرعيّة وحدودها التي نزلت من أجل العمل بها في واقع النّاس، ليُقَوّموا بها أخلاقهم، ويسدّدوا بها فكرهم، وينظّموا بها حياتهم. 
إنّ مستوى تعطيل التّفكير والغفلة التي وصلنا إليهما في التّعامل مع القرآن الكريم، لا يتعدّى عتبة التّقديس، بالعناية به حفظا وتجويدا لحروفه وتفسيرا لألفاظه، وإن كان ذلك مدخلا من مداخل الفهم، لكنّ الملاحظ غياب طريقة التّعامل مع القرآن الكريم لدى عامّة النّاس، فضاعت معه الرّؤية الشّمولية في إصلاح الأنفس والمجتمعات، إذ أصبحنا نتعامل مع القرآن بطريقة تقليديّة تحمل معها الكثير من الخلل وغياب المنهجيّة السّليمة في التّحقّق من المراد من تنزيله. إنّنا نحتاج إلى«امتلاك القدرة على تنزيل النّص على الواقع، بحسب استطاعته، والنّظر في الواقع ومعاناته من خلال النّص، ومحاولة تقويم هذا الواقع بقيم القرآن الكريم، إذ لا يمكن ولا يعقل أن تقتصر الأحكام على عشرات الآيات من القرآن الكريم أو المئات منه، وكأنّ بقية الآيات لا حكم لها، وهي موجودة للتّبرّك والاقتصار على التلاوة فقط»(9). إنّ إعادة قراءة القرآن باستحضار  الحواس يعطي فرصة أكثر  لتثوير آياته وسبر مقاصدها، ويقود إلى عمليّة تفجير معارفه الخفيّة وكنوزه المتعدّدة، والحفاظ على قدرته في الإنتاج المعرفي ومواكبة القضايا المستجدة عند الإنسان.
إنّ تاريخ الأمّة الإسلاميّة أثبت هذا التّفاعل الإيجابي مع القرآن الكريم وبشكل صحيح، في تنزيل آياته في واقعهم، فكان ذلك سببا مهمّا في بناء حضارة إنسانيّة بكلّ المقاييس، حيث وحدّ القبائل المتناحرة، وهذّب الأخلاق، وفجّر المعرفة والعلم، وتحقّقت الشّهادة على أنّه المنهج الأمثل في إخراج النّاس من قلق التّصوّرات إلى وحدة الفكر وطمأنينة النّفس.
إنّ الغفلة عن قراءة القرآن الكريم على مستوى العمل لا تأتي بنتيجة إيجابيّة، بل تؤدّي إلى كتمان الحقّ الذي أنزله ربّ العالمين ليكون هداية للنّاس، يقول اللّه تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(10). «والكتمان:عدم إيصال الخبر، والثّمن القليل: أن لا تقدر أهمّية هذا الشّيء، والنّتيجة نار في البطون في اليوم الآخر، وشراء الضّلالة بالهدى في الدّنيا، وإنّه لعجب من صبرهم على النّتائج النّاريّة في الدّنيا والآخرة من جرّاء الكتمان، وبقدر ما يحذر  اللّه تعالى من الكتمان، ويهول من نتائجه في الدّنيا والآخرة، يمكن أن نرى نتائج البلاغ المبين»(11) .
أنزل اللّه تعالى القرآن ليتعامل معه ذووا العقول، ويعملوا بمقتضى أحكامه، ويتّخذوه منهجا في حياتهم الرّوحيّة والمادّية، قال الحسن البصري: «واللّه ما تدَبَّرهُ بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إنّ أحدهم ليقول: قرأت القرآن، ما يُرى لهُ القرآن في خُلق ولا عمل»(12). وقال ابن القيم: «وقد ذمّ اللّه سبحانه من لم يفقه كلامه، والفقه أخصّ من الفهم، وهو فهم مراد المتكلّم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرّد فهم وضع اللّفظ في اللّغة، وبحسب تفاوت مراتب النّاس في هذا، تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم»(13) ، قال تعالى:» ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ﴾(14). تبين الآية صورة إعراض أهل العناد والكفر عن الحقّ، وعدم قبوله وتنكّرهم له رغم قوّة الأدلّة، فيعبّر القرآن الكريم بالاستفهام الإنكاري لكلّ من كان حاله للتّوبيخ بعدم إعمال العقل. 
إنّ المقصد الحقيق في التّعامل مع كتاب اللّه، ليس تلاوته فقط وإنّما تدبّر آياته للعمل بها وتنزيلها بما يناسب واقع الإنسان  وقضاياه المتجدّدة في الزّمان والمكان، لأنّه المنهج الأقوم والأصلح للبشريّة، يجلب لها كلّ ما ينفعها، ويدفع عنها ما يضرّها. فكلّ إنسان ملزم بأن يفتح عقله ولا يغفل عن آية منه، ليزكّي نفسه بقيمه الخالدة، ويمنعها قبيح الأخلاق وسيّئها، وكل ما يمكن أن يعْلق بها من أمراض نفسيّة أو بدنيّة، كما أنّه مطالب ليَعِيَ ما يحذر منه ليغلق كلّ منافذ الأهواء والأفكار المنحرفة التي تكون سببا في هلاكه روحيّا ومادّيّا، يقول ابن القيم: «فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته، من تدبّر القرآن، وإطالة التّأمل، وجمع فيه الفكر على معاني آياته، فإنّها تطبع العبد على معامل  الخير والشّر بحذافيرها، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتَتُلّ (تل الشيء في يده وضعه فيها) في يده مفاتيح كنوز السّعادة والعلوم النّافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطّد أركانه، وتريه صورة الدّنيا والآخرة، والجنّة والنّار في قلبه، وتُحضِره بين الأمم، وتريه أيام اللّه فيهم، وتُبَصِّرهُ مواقع العبر، وتشهده عدل اللّه وفضله، وتعرف ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبّه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطّريق وآفاتها، وأهل النّار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السّعادة وأهل الشّقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون عليه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه»(15). 
وينتفع بقراءة القرآن الكريم عن طريق فقه معانيه. ولا يحصل هذا إلاّ بتوليد الطّاقة الفكريّة اللاّزمة في فهم الآية بترديدها والوقوف عندها بطول التّأمّل، وليس بكثرة التّلاوة وبحفظها، ذلك أنّ«تدبّر كتاب اللّه مفتاح العلوم والمعارف، وبه يستنتج كلّ خير وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته»(16). وفي هذا قال ابن تيمية رحمه الله:»«العناية بتجويد القرآن الكريم مهمّة، ولكن يجب أَلاّ تكون على حساب العناية بالتّدبّر والفهم لكلام اللّه تعالى، ولا يجعل همّته فيما حجب به أكثر النّاس من العلوم عن حقائق القرآن الكريم: إمّا بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيقها، وتفخيمها، وإمالتها، والنّطق بالمدّ الطّويل والقصير والمتوسّط وغير ذلك، فإنّ هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرّبّ من كلامه»(17). 
-2 الغفلة عن آيات الله الكونية ودورها في سقوط الأمم ونهضتها. 
إنّ السّنن الكونيّة تحدث بنظام دقيق، وتسير وفق قوانين لا تتغير ولا تتبدّل، محكومة بالعلّة الفاعلة فيها، يقول تعالى: ﴿مَا تَرَى فِي خلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوتٍ﴾(18). فالتّغيير يقع في أحوال النّاس بقدر تفاعلهم مع هذه السّنن، وبقدر نضجهم الفكري في الاستفادة من تسخير هذه القوانين لصالحهم، فلا بدّ إذن من تدخّل الإنسان في عمليّة النّهوض، ليس من أجل أن يغيّر سنن الكون وإنّما ليستفيد منها، ويتكيف تبعا لنظامه. لكنّ الإنسان الغافل لا يمكنه أن يدرك هذه السّنن، و يسخّرها لصالحه، يقول اللّه تعالى:﴿وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾(19).
إنّ في حركة الكون، من الذّرة إلى أعظم المخلوقات الكونيّة، ومن اختلاف اللّيل والنّهار وتتالي الفصول، وانسجام المخلوقات وظروف المناخ، وتتابع الأمم، وعمليّة سقوطها ونهوضها، سنن كونية لا تتبدّل ولا تتغيّر، يجب أن ينتبه إليها الإنسان ولا يغفل عنها، ليسترشد بها ويؤسّس من خلالها منهجا علميّا لحياته ويستفيد من التّسخير الإلهي لصالحه، «ولن يُحْسِن معرفةَ اللّه تعالى، إنسان يعمى عن سنن اللّه الحقّ، ولن يخدم رسالات اللّه جهول بهذه السّنن»(20). 
يوجّه القرآن الكريم حواسنا إلى ما في الكون من عجائب لكي لا نغفل عنها، ويرصد حشدا كبيرا من الحقائق والمشاهد نعرض عن تدبّرها والانتفاع بها، ولو دقّقنا النّظر من حولنا وفي أنفسنا، لوجدنا أنّها تذكّرنا بعظمة الخالق سبحانه، وسرّ وجودها، ثم هي بعد ذلك تفتح لنا طريق المعرفة بنعم اللّه تعالى، وتعرّفنا بالتّقدير الإلهي والتدبير المحكم لسنن الكون. يضم هذا الكون آيات صامتة وأسرارا، يدعو فيها الإنسان إلى بذل الجهد اللازم لاكتشافها والانتفاع بها. واهتمام القرآن الكريم بدعوة الإنسان إلى يقظة الضمير والتأمل في الكون وإلى مختلف آياته ومكوناته، هو من صميم الهداية القرآنيّة، ليعرف  الإنسان رسالته ومكانته في الوجود، وينظر إلى عناية اللّه تعالى به، إذ سخّر له كلّ ما في السّموات وما في الأرض، ليسهل حمل الأمانة التي كلّف بها. فكلّ ما نراه في الوجود الكوني، وما بمقدور الإنسان اكتشافه في الزّمان والمكان من حقائق علميّة، وما ينصّ عليه القرآن الكريم بصريح العبارة أو غيرها، كلّ ذلك من تحقيق المقصد من الوجود الإنساني. «والحقّ سبحانه يريد في الكون حركة متبادلة، هذه الحركة المتبادلة لا تنشأ إلا بوجود نوع من التنافس الشريف البناء، التنافس الذي يثري الحياة،ولا يثير شراسة الاحتكاك، يقول تعالى:﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾(21).
لقد اهتم القرآن الكريم بالتّأمل في آياته المسطورة، كما لفت نظر الإنسان إلى التأمّل وعدم الغفلة عن آياته المشهودة في الآفاق وفي الأنفس، وسنن الكون وقوانينه، ثم  إن الله تعالى وضع لهذا الكون سننا وقوانين لا تحابي أحدا، ومنح العقل الإنساني القدرة على النّظر والبحث، وحضّه على التّعرّف على تلك السّنن، ليتعامل مع المعلوم أو ما هو قابل أن يكون معلوما بالنّظر والبحث والتّأمل، ويمضي ثابتا واثقا من نفسه، ولا يعيش مقهورا بقوى غيبية خرافيّة»(22)، يقول تعالى:﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾(23). «ولا شكّ أنّ التّفكّر في الكون شغل الإنسان منذ خلقه، لكن لم يدوّن من هذا التّفكير إلاّ النّزر اليسير، ولم يصلنا من ذلك إلاّ أقلّ  القليل»(24) .
نزلت دعوة القرآن الكريم إلى النّظر في الكون، في بيئة مزدحمة بالتّصورات المنحرفة،حيث تعلّق الإنسان بالخرافة وعبد الطّبيعة، ووسط مجتمع مزّقته الحروب، وخاطبت الإنسان بلغة بليغة تهزّ فكره، وتُشْعِره بكرامته، حتّى يفتح عقله على الكون ويحاوره ويتعامل معه بالمنفعة غير المخلّة بنظامه، كما هو الحال بالنّسبة للرّؤية المادّية التي قهرت الإنسان.
إن القرآن الكريم يعرض لنا الكون مسرحا ومختبرا للبحث والنّظر، بلغة العلم والمعرفة، لنتعرف أولا على أن الخلق للّه تعالى جميعا، يقول اللّه تعالى:﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾(25)، ولنُسطّر من جهة أخرى بمداد فكرنا التّمكين الحضاري المطلوب. ولم «يأمرنا اللّه تعالى بالنّظر إلى ما خلق، وإلى كيفية بدء الخلق، من الذّرة إلى المجرة، ومن الإبرة إلى الصّاروخ، ومن عطف الأمّ إلى الوحدة بين الزّوجين، إلى بقية الأشياء في مستوى المجتمعات، نظرة سطحيّة، وإنّما يأمرنا بذلك حتّى نعرف كيف نسخّر الكون، ونستفيد منه، وكيف نشكره»(26). والإنسان العاقل «يرى ضآلة وجوده أمام هذا الكون المتناهي في اتساعه، الدّائب في حركته، والمنطلق إلى نهاية لا يعلمها إلاّ مبدع الكون، خالق الكائنات، يرى في الكون حاجته إلى رعاية خالقه في كلّ لحظة من لحظات وجوده، وفي كلّ آن من آناء عُمُره، ويرى في استقراء قوانين الكون والتّعرّف على سننه، ما يمكنه من عمران كوكبه، وتسخير كلّ ما فيه في سبيل سعادته وسعادة الخلق جميعا من حوله»(27) .
والإنسان العاقل يجدّد دوما نظرته إلى حركة الكون وسننه ويكثر من التّفكير في حركتها في كلّ حالاته وأحواله، يقول تعالى: ﴿إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(28)، ليصير الكون بالنّسبة للإنسان مادّة للقراءة ومختبرا يتأمّل أسراره وسننه، ليفهم علاقته بخالقه من جهة وعلاقته مع الكون الذي يعيش فيه من جهة أخرى، لأنّ «الكون الذي نعيش فيه وحدة واحدة تنتظمه، ونظام معجز لا يستطيع العقل أن يحيط به، ولكنّ هذا النّظام تفسّره قوانين ثابتة، وتحكمه سنن  دائمة، تؤكّد بما لا يرقى إليه شكّ، أنّ كلّ شيء في هذا الكون قد خلق بقدر معلوم،ودقّة متناهية،وحكمة بالغة عبر عنها قوله تعالى:﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر﴾(29) .
يدعونا القرآن  إلى النّظر في السّموات والأرض وما فيهن من المخلوقات، والتّفكّر في العناية التي أبدعت الخلق في أحسن صورة، وبالنّظر إلى الحكم البالغة في الكون التي لا تتغيّر ولا تتبدّل، ليعلَمَ  هذا الإنسان ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾(30)، وليتخِّذ سبيلا في اكتشاف أسرار هذا الكون وحقائقه، والعلاقة بين الكواكب والنّجوم وحركتها، والمسافات التي تفصل بينها، ويعرف الأرقام والحساب، كلّ ذلك وأكثر ليأخذ الإنسان نصيبه من المعرفة عن عالم الشّهادة. 
لقد جعل اللّه تعالى الكون منضبطا بسُّنَّة التّقابل، واستمرار حياة الكائنات مرهون بالمزاوجة بين جميع المخلوقات، وحاجة كلّ من الطّرفين إلى الآخر، ما عدا الخالق المتفرّد على خلقه بالوحدانيّة. «وهذا الاستدلال عليهم بخلق يشاهدون كيفياته وأطواره كلّما لفتوا أبصارهم، وقَدحوا أفكارهم، وهو خلق الذّكر والأنثى، ليكون منهما إنشاء خلق جديد يخلف ما سلفه»(31). وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾(32) ليُدرك الإنسان هذه الوحدانيّة بالتّفكّر في سائر المخلوقات، وأنّ وجود طرف دون الآخر يُوحي بالنّقص والافتقار إلى غيره، إلّا اللّه الغنيّ الذي يفتقر إليه الخلق كلّه. إنّ «هذا الكون المعجز في بنائه، المذهل في اتساعه، الرّائع في حركته واتزانه (هذا الاتزان الدّقيق الذي لو اختل قيد شعرة في أمر من أموره، لانفرط عقد الكون وانهار كلّ ما فيه ومن فيه). هذا الكون لا بدّ له من مرجعيّة في خارجه، وهذه المرجعيّة لا بدّ أن تكون مغايرة للكون مغايرة كاملة، فلا يحدّها أي من المكان أو الزّمان، ولا يشكّلها أيّ من المادّة أو الطّاقة، وصدق اللّه العظيم الذي وصف ذاته العليّة بقوله العزيز:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾الآية 11 من سورة الشّورى»(33).
إنّ المسلمين عدلوا عن الكون إلى غيره، «أليس أكبر خذلانا للدّين وجناية عليه أن لا ينظر المنتسبون إليه في آيات الكون التي يوجهّهم كتاب اللّه إلى النّظر فيها، ويرشدهم إلى استخراج العبر منها؟ أليس من أشدّ المصائب على الملّة أن يهجر رؤساء دين كهذا الدّين، العلوم التي تشرح حكم اللّه وآياته في خلقه، ويعدّونها مضعفة للدّين أو ماحية له، خلافا لكتاب اللّه الذي يستدلّ لهم بها ويعظم شأن النّظر فيها؟ بلى وإنّهم ليصرّون على تقاليدهم هذه وليس عليها حجّة، وإنّما اتبعوا فيها سنن قوم ممّن قبلهم. وكان بعض الحكماء المتأخّرين يقول كلمة في أهل دينه الذين خذلوه: هكذا شأن أهل الأديان كافّة، كأنّهم تعاهدوا جميعا على أن يكون سيرهم واحدًا. وهذا المعنى مأخوذ من قول اللّه تعالى في الكافرين يتّفقون في كلّ أمة على الطّعن في نبيها:﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾(34)».
 وقد يزعم بعض هؤلاء الذين يعادون علم الكون باسم الدّين أنّ النّظر في ظواهر هذه الأشياء كاف للاستدلال بها ومعرفة آيات صانعها وحكمته ورحمته. فمثلهم كمثل من يكتفي من الكتاب برؤية جلده الظّاهر، وشكله، من غير معرفة ما أودعه صاحبه من العلم والحكمة فيه. ويعتبر الكون الكتاب المشهود الدّال على عظمة اللّه وقدرته على الخلق وعلى الإبداع الدّقيق المعبِّر عن كماله، وجلاله وجماله.
سنخصّص الحلقة الثّالثة إن شاء اللّه للحديث عن: الغفلة عن ترابط آيات اللّه المسطورة  وتوأمتها مع الآيات الكونيّة، وعن الغفلة عن مهمّة الإنسان في الوجود، و الغفلة عن مصير الإنسان.
الهوامش
(1) سورة محمد - الآية 24
(2) التحرير والتنوير، 26/113 
(3) سورة النساء - الآية 82
(4) القراءة أوّلا ، ص: 154
(5) سورة المائدة - الآية 15-16
(6) الأعراف - الآية 179
(7) سورة الحديد - الآية 16
(8) القراءة أوّلا، ص: 155
(9) كيف نتعامل مع القرآن الكريم، ص:10
(10) سورة البقرة - الآية 174
(11)العمل قدرة وإرادة، ص: 157
(12) تفسير ابن كثير  ج12،ص: 86-87، 
(13) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية1/219، دار ابن الجوزي،الرياض، السعودية، الطبعة الأولى ، 1423هـ
(14) سورة محمد الآية 25
(15)  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم الجوزية، تحقيق محمد حامد الفقي،  ومحمد عبد الرحمن الطيب، ج1، ص: 432 ، المكتبة التوفيقية، ، القاهرة، مصر، 
(16)  تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر،ص:189 تحقيق عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى،1423ه-2002م
(17)  مجموع الفتاوى لابن تيمية، 16/50
(18) سورة الملك - الآية3
(19) سورة  يوسف - الآية 105
(20)  المحاور الخمسة للقرآن الكريم،للشيخ  محمد الغزالي، ص:54، دار الشروق،، الطبعة الرابعة، 2010م
(21) سورة المطففين - الآية 26- تفسير الشعراوي، ج 4 ،ص: 8385
(22) خواطر حول أزمة الفكر عند المسلم المعاصر، عبد الحليم محمد أبو شقة، ص: 6، دار القرافي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1993م
(23)  سورة الأعراف - الآية 185
(24) الإنسان والكون، زغلول النجار، ص: 49-50، دار المعرفة، لبنان، الطبعة الأولى، 2010
(25) سورة العنكبوت - الآية 20
(26) العمل قدرة وإرادة، جودت سعيد، ص:  80-81
(27) الإنسان والكون، ص5
(28) سورة آل عمران - الآية 190-191
(29) سورة القمر - الآية 49
(30) سورة الطلاق - الآية 12
(31) التحرير والتنوير، ج 27، ص: 18 
(32) سورة النور - الآية 1
(33)  كتاب الإنسان والكون، ص144
(34)سورة الذاريات - الآية 53 - تفسير القرآن الحكيم، المعروف بتفسير المنار، محمد  رشيد رضا، ج2،ص: 63-64