قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
«الكورونا» دعوة للسّلام
  «العالم ما بعد الكورونا لن يكون نفسه قبل الكورونا» مقولة اشتهرت في العالم كلّه ليردّدها الخبراء بجميع أصنافهم والأطباء والسّياسيون والنّاشطون في كلّ المجالات والاقتصاديّون ورجال الأعمال. ولكن هل حقّا سيكون العالم مختلفا جذريّا عمّا كان عليه قبل هذه الجائحة؟
اجتاح فيروس مجهريّ كلّ أرجاء الكرة الأرضيّة في بضعة أشهر، على نحو أرعب الجميع، وجعلهم في خوف دائم من موت محقّق قد يأتي بمجرّد العدوى، وكلّنا يتذكّر كيف هبّت كلّ الدّول إلى إغلاق حدودها البريّة والبحريّة والجويّة، وكيف فرضت معظم الدّول إجراءات صارمة للحدّ من انتشار المرض كان أهمّها إجبار النّاس على البقاء في بيوتهم، وعدم الخروج منها إلاّ لقضاء حاجة ملحّة عادة ما تكون مرتبطة بالغذاء أو الدّواء. 
فجأة أصبحت الحياة على الأرض بحسبان واستوى الجميع أمام الخوف من الموت، أغنياء وفقراء، حكّاما أو محكومين، وأصبحت السّلامة الفرديّة والجماعيّة غاية الجميع، ولم يعد العالم يأبه للاقتصاد وشأنه، ولا للنّمو الاقتصادي مهما كان مبلغ التّراجع.
مرّت شهور عدّة، ولا حديث يعلو على الحديث عن الكورونا، وغزوها المفاجئ للعالم، وطرق الوقاية منها، وعلاجها، وبات الجميع يفكّر في اللّقاح الذي قد يجنّب الأجيال القادمة ويلات هذا المرض اللّعين وشروره؛ 
وأمام استحالة العثور على هذا اللّقــاح وطول المدّة التي استغرقتها الموجــة الأولى، عاد الجميع إلى الحديث عن ضرورة التّعايــش مع المرض، واستحالة الإبقــاء على الحجر الصّحي في البيوت، وعن خطرٍ أكبرٍ بات يهدّد المجتمعـات كلّها، نتيجة تراجع الاقتصاد العالمي وتأثّر الأفراد كما المؤسّسات بهذا التّراجع.
«لم يعد بالامكان تقديم المزيد من التّضحيّات» ، هذا ما بات يتردّد على لسان الجميع، سواء كانوا من أهل الاقتصاد أو كانوا من المتخصّصين في الاجتماع، فضلا عن أهل السّياسة، حيث بات الجميع يرفع شعار التّعايـش بدل أيّ شعار آخـر، وحيث باتت الغلبة واضحة للاقتصاد والمال مهما كان حجم الكارثة التى قد يتسبّب فيها انتشار المرض في موجة ثانيــة قد تدوم طويــلا، خاصّة ونحن مقبلــون على انتشار الفيروسات الأخرى التي تنشط مع البرد والشّتاء، فكيف سنواجه هذا الغول وأيّ ثمن سوف ندفع؟
إنّ الذين قالوا بأنّ العالم سيتغيّر بعد الهجمة الأولى لفيروس كوفيد 19، لم يبنوا مقولتهم على الفراغ، وقد تبيّن لهم جليّا أنّ العجز عن مواجهة المرض لم يكن عجزا طبيّا فقط، وأن اكتشاف دواء أو لقاح مهمـا كان ملحّا لن يحلّ المشكلة، لقد لفت المرض انتباه الجميع إلى ما كان يعانيه العالم من اختــلال في توزيع الموارد بين جهاته الأربع وبين قاراته، كما ظهر جليّــا أنّ الفقر والمعاناة والحرمان وكل الآفات الأخرى لم تكن وبالا على ملايين النّــاس فقط، وإنّما كانت دليلا على فساد المنظومات القائمــة بغض النّظـر عن كلّ الشّعارات البرّاقة التي ظهرت في أعقاب الحرب العالميّـة الثّانية  مثل شعارات الازدهــار والحقوق الأساسيّة والرّخاء والتّنمية المستدامة وغيرها من الشّعــارات المتهافتة، لقد وضح جليّا أنّ العالم كان عالمين: واحد متطوّر و الآخــر متخلف كما وضح أكثــر من ذي قبل أن الإنسان لم يكن سعيــدا ولا مرتاحــا في العالمين على حدّ ســواء .
عاش العالم قرونا من الصّراع الطّويل حتّى أحكم الغرب سيطرته الكاملة على معظم الشّعوب ومقدراتها، وأصبح عالم ما بعد العولمة صغيرا جدّا وضعيفا جدّا أيضا أمام ما يملكه الغرب من وسائل الصّراع بمختلف أنواعها، صراع على الغذاء والدّواء والمياه والمعابر والموانئ والموارد الطبيعيّة، وصراع على النّفوذ والسّلطة أشدّ من أيّ حقبة تاريخيّة أخرى منذ عرف الانسان الحضارة.
لقد أصبح الانسان الحديث يحيا تحت وطأة الخوف، فلا هو مطمئن على نفسه في العالم المتقدم، ولا هو مطمئن عليهــا في العالم المتخلّف، ويكفي أن نلقي نظرة خاطفــة على بؤر التّوتر في العالم لندرك مدى اتساعها يوما بعد آخر أو نلقي نظرة على حجم الاتهامات المتبادلــة بين أقطـاب العالــم حاليّا (الولايات المتّحدة وأوروبا والصّين وروسيــا) لكي يزداد خوفنا ممّــا يهدّد العالم مستقبــلا من صراعات ومآس.
لقد دارت رحي الحربين العالميتين لما يزيد عن ثلاثة عقود، ودمّرت وقتلت أعدادا من النّاس بالملايين، وكان الظنّ السّائد أنّ هذا سيكفي، وأنّ العالم سوف يكون آمنا بتجنّب ويلات أيّ حرب جديدة، لكنّ الصّراع ظلّ سمة العالم، وتحوّل من صراع بالسّلاح إلى صراع بوسائل أخرى قد تكون أشدّ فتكا، وثمّة من يرى في ظهور هذا الوباء على نحو مستجد وكاسح مظهرا آخر من مظاهر هذا الصّراع، ووسيلة أخرى من وسائله. 
لم يكتف العالم بغربه وشرقه بحجم الدّمار الذي تسبّبت فيه الحربان وملايين القتلى، رغم ما بذله مناضلون كثر في نواحي الأرض من أجل الدّعوة إلى السّلام، والتّصالح بين الشّعوب، وتغليب المصلحة العليا للإنسان بدل تدمير فئة من النّاس لتحيا فئة أخرى.
يتّخذ الصّراع بين البشر أشكالا متعدّدة وتختلف أدواته باختلاف المصالح والقوى، ولكن الدّمار واحد، فإن لم يكن هذا الدّمار في شكل قتل وتدمير وتهجير، فسيكون دمارا في القيم والثّقافة، وجبروتا سياسيّا واقتصاديّا أشدّ إيلاما من الموت في أكثر الأحيان.
لقد أجبرت الموجة الأولى من الكرونا كلّ العالم على الوقوف أمام حقائق كثيرة تتعلّق في علاقته بالإنسان وفي علاقته بالبيئة القريبة منه والبعيدة، ولكنّ الخوف كلّ الخوف أن تدور رحي الصّراع بسرعة أكبر، وأن يكون عالم ما بعد الكورونا عالما أشدّ بؤسا وصراعا وتنافيا ودمارا ممّا كان قبلها، وليس في هذا الخوف أيّ مبالغة ما دام هذا العالم لا يبحث عن السّلام ولا ينحني إجلالا لدعوة الأنبياء إلى السّلام منذ آدم إلى نبيّنا الكريم .