حوارات

بقلم
فيصل العش
مع الدكتور جميل حمداوي (الجزء الثاني)
 (11)
لك اهتمامات نقديّة ودراسيّة بأدب الأطفال مسرحا وشعرا وقصّة، فما هي الخصائص التي يجب أن تتوفّر في هذا النّوع من الأدب؟
يعلم الجميع أنّ الأدب العربي قديما وحديثا قد اهتمّ كثيرا بأدب الكبار، ولم يخصّص لأدب الأطفال وأدب النّاشئة إلاّ حيزا ضئيلا. لذا، وجدنا فراغا كبيرا في ساحتنا الثّقافيّة العربيّة فيما يخصّ كتابات الأطفال والنّاشئة. ولسدّ هذا النقص المهول، اعتمد العرب منذ البداية على الغرب في استيراد كتب الأطفال في شتّى الأجناس، والفنون، والمعارف، والعلوم. وعلى الرّغم من ذلك، فقد وجدت بعض المحاولات العربيّة تعدّ على الأصابع، استهدفت تبسيط قصص ألف ليلة وليلة، وقصص كليلة ودمنة لابن المقفع، والاستفادة من سيرة الرّسول ﷺ لابن هشام، وسير الصّحابة رضوان اللّه عليهم... ومن ثمّ، أصبح من اللاّزم اليوم الاهتمام بأدب الأطفال والنّاشئة أيّما اهتمام، لأنّ الأطفال هم رجال المستقبل، وعلينا تهذيبهم وتكوينهم وتأطيرهم وتعليمهم وتخليقهم على أسس تربويّة ونفسيّة واجتماعيّة وقيميّة  سليمة لكي يكونوا مواطنين صالحين. ولا يمكن  أن يتحقّق ذلك، بأيّ حال من الأحوال، إلّا إذا كان المبدع أو الكاتب مطّلعا على علم النّفس، عارفا مبادئ علم الاجتماع، متمثّلا كلّ النّظريات التّربوية الحديثة والمعاصرة، منفتحا على نظريّة التّلقي، مستلهما في كتاباته الإبداعيّة، إن تصوّرا وإن تطبيقا، عوالم التّشكيل والإنترنيت، لتقريب القصّة أو القصيدة أو المسرحيّة المصوّرة إلى الطّفل أو النّاشئ. وثمّة شروط أخرى لابدّ من التّركيز عليها، كالاطّلاع على السّرد العربي القديم، والاستفادة من تقنياته وأجوائه، وتشغيل الفانطاستيك والخارق والعجائبي، والاطلاع على الأدب الرّمزي، وتوسيع مخيّلة الطّفل باستعمال الأساطير والخيال العلمي، والبحث عن تيمات أدبيّة جديدة ذات طابع إنساني وحضاري عبر صيغ أسلوبيّة متميّزة ومشوّقة ومحفّزة. 
ومن هنا، يتميّز أدب الأطفال بالتّخييل، والإكثار من الفانطاستيك العجائبي والغرائبي، واستعمال قصص الحيوان، وتوظيف القصص التّعليميّة والتّربويّة، وتوسيع خيال الأطفال، وتقديم رسائل هادفة وبناءة ومثمرة،  والتّركيز على الطّفولة بمختلف معانيها، والتّشديد على التّنشئة الاجتماعيّة، والأخلاقيّة، والتّربويّة.
(12)
هل ترى أن أدب الاطفال وجد - عربيّا - الاهتمام الذي يستحقه؟ وما هي العقبات التي تحول دون ذلك؟  ومن تقع عليه مهمّة ذلك الاهتمام ؟
مازال أدب الأطفال في وطننا العربي متعثّرا كمّا، ونوعا، ورؤية، ومنظورا؛ بسبب صعوبته على مستوى الكتابة، والإبداع، والنّشر، والتّوزيع، والاستهلاك، والتّجويد الفنّي والطّباعي. علاوة على ذلك،  يتطلّب  هذا الأدب، كما قلنا سابقا، معرفة متميّزة بآليات السّيكولوجيا وعلم الاجتماع وعلوم التربية، بمراعاة المستوى العمري للأطفال لمعرفة طريقة تفكيرهم لعبا، وتخييلا، وتشخيصا. ويعلم الكلّ أنّ نشر قصص الأطفال، وطبع مسرحياتهم، وإنتاج الكتب المتعلقة بهم، كالموسوعات العلميّة والفنيّة والمعرفيّة، تستلزم نفقات مادّية ومالية باهظة؛ نظرا لما تتطلّبه هذه المطبوعات من آليات التّلوين والتّشكيل، واختيار الورق المناسب المزيّن بالصّور المعبّرة والجذّابة سيميائيّا. ويجعل هذا كلّه مجموعة من المبدعين والكتّاب والنّقاد يتهرّبون من الكتابة للأطفال والنّاشئة، ويحجمون عن تناول كلّ ما يمتّ بصلة إلى أدب الأطفال إبداعا، ودراسة، وتوثيقا، ونقدا.
ومن جهة أخرى، تقع المسؤوليّة على الدّول والحكومات والمجتمع المدني ووزارات التّعليم والثّقافة على حدّ سواء، فلابدّ لهذه المؤسّسات الرّسميّة وغير الرّسميّة من تشجيع أدب الأطفال والنّاشئة، بدعم المبدعين والكتّاب في أثناء عمليّات الطّبع والنّشر والتّوزيع والاستهلاك، من خلال المساهمة مادّيا ومعنويّا في تنشيط النّدوات الثّقافيّة والفكريّة والإبداعيّة المتعلّقة بأدب الأطفال، وتخصيص الجوائز لهؤلاء الكتاب تحفيزا وتشجيعا على مواصلة الكتابة، والخلق، والابتكار. 
وإذا كانت الكتب والمقرّرات والمناهج المدرسيّة في عالمنا العربي ضعيفة ومتخلّفة عن اللّحاق بالكتب المدرسيّة المتطوّرة في دول الغرب مضمونا، وتقنية، وطباعة، وتجويدا؛ فإنّ أدب الأطفال مازال أدبا مهمّشا، لا يبالي به المربّون والمشرفون على قطاع التّربية والتّعليم والثّقافة. ويتحمّل الكتاب والمبدعون قسطا من هذه المسؤولية؛ إذ يهتمون بتوجيه أدبهم إلى الكبار على حساب الصّغار والنّاشئة، إمّا استصعابا لهذا الأدب، وإمّا جهلا بتقنياته وآلياته الفنيّة والجماليّة.
(13)
لديك كتابات عديدة وإصدارات حول الكتابة النسويّة في الأدب والقصّة والشّعر... لماذا هذا الاهتمام؟ وكيف تقيّم تجربة المرأة العربيّة في الكتابة؟
من المعروف أنّ الكتابة النّسائيّة هي التي تشخّص أدبيّة الأنثى في علاقتها بالرّجل، وتجسّد همومها الشّعوريّة واللاشعوريّة، وصراعها الذّاتي الدّاخلي والخارجي، عبر المناجاة، والبوح، والاعتراف، والتمرّد، واستخدام أساليب التّذويت والتّبئير الشّخصي. لكن أهمّ مايميّز الكتابة النّسائية هو إثبات الهويّة أوالخصوصيّة الأنثويّة، والدّفاع عن استقلاليّة المرأة في اتخاذ قراراتها المصيريّة ، دون الاستسلام لضغوط الرّجل وأوامره ونواهيه. 
كما تصور هذه الكتابة النّسائيّة ذلك الصّراع الجدلي بين الذّكورة والأنوثة من جهة، وتمزّق الأنثى ذاتيّا وموضوعيّا من جهة ثانية. وغالبا، ما يكون بين المرأة والرجل صراع جدلي، أو تعايش وائتلاف حميم. لذلك، تحضر عقدة الرّجل كثيرا في الكتابة النّسائيّة إلى جانب مقومات الجسد، وما يتّصل به من زواج، وطلاق، وحبّ، وأسرة، وجنس، وجمال، وأنوثة، وسن، وبكارة، وعنوسة، وإنجاب، وحرّية، وعمل،  ومسؤوليّة ... علاوة على ذلك، تتسلّح الكتابة النّسائية بسلاح التّأنيث أو المؤنث في مواجهة الذّكورة التي تحيل، في متخيّل المرأة، إمّا على الرّجولة، والفحولة، والقوامة، والقوّة، والمسؤوليّة، والقيادة...؛ وإمّا على الغطرسة، والتّحرّش، والعنف، والاستعباد، والاغتصاب، والتّرهيب، والظّلم...
وإذا كانت أغلب الكتابات النّقدية النّسائيّة تناولت هذا النّوع من الكتابة في حقول الشّعر، والرّواية، والقصّة القصيرة، والمسرح، والنّقد، والسّينما...، وعليه، تتأرجح الكتابة النّسائية بين الجودة من جهة أولى، والتّوسط من جهة ثانية، والضّعف من جهة ثالثة. وينطبق هذا الحكم النّقدي أيضا على الكتابات الرّجولية.
(14)
للمرأة خصوصية ونكهة متميزة في الكتابة، لكن لماذا برأيك مازال صوت الأديبات المحترفات خافتاً في الوطن العربي، ولا يمثّل عددهنّ إلاّ نسبة ضئيلة مقارنة مع عدد الكتّاب الذكور؟
صحيح أن عدد الكاتبات قليل جدّا مقارنة بعدد الكتّاب.كما أن ّصوتهن خافت مقارنة بأصوات الذّكور الصّاخبة والصّارخة. وعلى الرّغم من ذلك، فللكتابة النّسائية حضور لافت للانتباه في المشهد الثّقافي العربي، ولها أيضا تميّز كبير كمّا وكيفا في الأدب.
 ولا ننسى أنّ المبدعة السّعودية رجاء عالم، مثلا، قد تخطّت الحواجز المحليّة الضّيقة لتصبح روائيّة متميّزة على صعيد الوطن العربي، وقد تفوّقت في ذلك على كثير من الرّوائيين السّعوديين الذّكور الذين لم يخرجوا عن نطاق الكتابة الإنشائيّة أو الموضوعيّة، دون الانفتاح على التّراث ، أو تكون لديهم ثقافة موسوعيّة رائدة ومتميزة. 
وعلى العموم، تنبني الكتابة النّسائية على مجموعة من المقومات والمرتكزات الدّلالية، مثل: الفضح، والكشف، والهتك، والبوح، والاعتراف، والتّصريح، والتّمرد، والثّورة، والنّقمة، والتّحدي، والتجاوز، والتغيير، والإدانة، والرغبة في التحرر والانعتاق.فضلا عن التأرجح بين الكتابة الإنشائية والكتابة الموسوعية العالميّة ، والتراوح بين الكتابة الكلاسيكية، والكتابة التجريبية، والكتابة التّأصيلية.
(15)
هل هناك مفردات ومواضيع خاصّة تهتمّ بها المرأة الأديبة ؟ وهل صحيح أنّ أغلب الكتابات النسويّة منصبّة على الصراع مع الكائن الذكوري؟ 
تتميز الكتابة النسائية القصصية القصيرة جدا مقارنة بالكتابة الذّكورية بمجموعة من السّمات والخصائص. ومن بين هذه المميّزات على المستوى الدّلالي: طرح موضوع جدليّة الذّكورة والأنوثة عبر محوري الصّراع والتّعايش، والتّركيز على البيت والأسرة والتّربية برصد التّناقضات المتفاقمة، وتبيان نسيج العلاقات البنيويّة المتحكّمة في الأسرة سلبا وإيجابا، خاصّة على مستوى التّفاعل السيكواجتماعي والقيمي والإنساني، والانطلاق من الذّات الشّعوريّة واللاّشعوريّة  في التّعامل مع الظّواهر الحياتيّة بغية تحقيق التّواصل الإنساني، والتّفاعل مع  منطق الأشياء، والارتكان إلى أعماق الدّاخل الوجداني  في معالجة القضايا الذّاتية والموضوعيّة، واستنطاق السّيرة الذّاتية والأنا، والتّركيز على المكبوتات الواعية واللاّواعية في استعراض المشاكل الدّاخليّة والذّاتية، والاهتمام بالطّفولة التي تعدّ فرعا أساسيّا للأمومة، ورصد الواقعين: الذّاتي والموضوعي بكلّ تناقضاتهما الإنسانيّة والتّشييئية. علاوة على الاهتمام بجسد المرأة  الجمالي والإيروسي والشّبقي، والعزف على نغمة الحبّ وإيحاءاته الواقعيّة، والرّومانسيّة، والجنسيّة؛ واستعمال الخطاب العاطفي والوجداني والانفعالي، من خلال الإكثار من البكائيّة الحزينة والمواقف التراجيديّة، والاهتمام بالتّخييل الحلمي والرّومانسي  على حساب فظاظة الواقع، ومرارته الشّديدة، والبحث عن السّعادة المفقودة تلذّذا وانتشاء، والتّطلع إلى الزّواج المثالي الطّوباوي. ولا ننسى كذلك التّغني بالسّأم، واليأس، والملل، والدّاء، والألم، والقلق الوجودي، ورصد الهموم الذّاتية والموضوعيّة، وانتقاد المرأة المغرورة والمتبجّحة انتقادا شديدا.
أما على الصعيد الفنّي والجمالي، فيلاحظ  استعمال الكتابة الذّاتية في شكل ذكريّات شاعريّة وخواطر إنشائيّة حلمية، واستحضار ضمير المتكلّم بشكل مكثّف، والاسترسال في الكتابة الشّاعرية والانفعاليّة، وتخطيب الكتابة بالمنولوج التأملي، وتوظيف الرّؤية الداخلية، واستخدام أسلوب السّخرية والمفارقة في إطار الصّراع الجدلي مع  الرّجل، والاستعانة بالكتابة الرّقمية الافتراضيّة في توصيل الرّسائل الذّاتيّة والعاطفيّة، وتوظيف الفانطاستيك لرصد التحوّلات الامتساخيّة البشعة ؛ إذ تتحوّل الكائنات الإنسانيّة (الرّجل على سبيل الخصوص) إلى حيوانات ماكرة وخادعة ، ثمّ تؤول إلى ذوات مشوّهة ممسوخة عضويّا، ونفسيّا، وقيميّا. بالإضافة إلى استعمال الكتابة الحلميّة والرّومانسية في التّعبير الذّاتي، وتبليغ الرّؤى والمقاصد المباشرة وغير المباشرة، والسّقوط في بعض الأحيان في التّقريرية والمباشرة في معالجة قضايا الذّات والموضوع، وتعطيل علامات التّرقيم  في الكتابة القصصيّة.
وعليه، فقد حقّقت الكتابة النسائية، في الوطن العربي، شأوا كبيرا في مجال القصّة القصيرة جدا قصة، وخطابا، ورؤية، سواء أكان ذلك على مستوى التّخطيب الفنّي والجمالي أم على مستوى انتقاء القضايا الجادة والمصيرية، والتّعبير عنها بواسطة كبسولة قصصية قصيرة جدا . 
(16)
ذكرت القصّة القصيرة جدا ؟ هل تعتبرها نوعا جيدا في الكتابة القصصيّة ؟ وما هي فلسفتها ومقوماتها الفنيّة وميزاتها عن باقي الأجناس الأخرى من الأعمال الأدبيّة؟ 
تعدّ القصّة القصيرة جدّا من الأجناس الأدبيّة المستحدثة في أدبنا العربي الحديث والمعاصر. وقد ظهرت في العقود الأخيرة من القرن العشرين في بلاد الرّافدين والشّام. وازدهرت، بشكل لافت، في المغرب مع بداية الألفيّة الثّالثة، على الرّغم من وجود بعض ملامح هذا الشّكل السّردي في التّراث العربي القديم ( الخبر- الفكاهة- الحديث- الكذب- النّادرة- المثل- القصّة- الأحجية- الخرافة- المستملحات- الطّرائف...). 
ونسجل وجوده أيضا في الكتابات السّردية الحديثة من القرن العشرين ، كما عند جبران خليل جبران، ونجيب محفوظ، وإبراهيم بوعلو، ومحمد زفزاف، وأحمد زيادي، وزكريا تامر، وغيرهم...
 ويستند هذا الفنّ الأدبي الجديد - كما هو معروف-  إلى عدّة خصائص واصفة، ومكوّنات مميّزة يمكن حصرها في الخاصيات التّالية: التكثيف، والقصر، والإيجاز، والحذف، والإضمار، والإيحاء، والتناص، والتّخريف، والأسطرة، والمفارقة، والأسلبة، والتهجين، والباروديا، والسّخرية، والفانطاستيك... 
كما يعمد هذا الفن أيضا إلى تشغيل المستنسخات التّناصية، واستخدام التّوتر الدّرامي، والاستعانة بتراكب الجمل وفعليتها، والاتكاء على الإدهاش، والانزياح، والجرأة، والتشويق، والتلغيز، والشاعرية، والقصصية، وتخييب أفق انتظار القارئ، والتفنن في التلوين الترقيمي...
ظهرت القصّة القصيرة جدّا في العالم العربي منذ منتصف القرن العشرين، وربّما قبل ذلك مع قصص جبران خليل جبران، كما يتجلى ذلك واضحا في مجموعتيه(المجنون)و(التّائه) استجابة لمجموعة من الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والثّقافيّة المعقّدة المتشابكة التي أقلقت الإنسان، وما تزال تقلقه، وتزعجه ذهنيّا، ووجدانيّا، وحركيّا. وبالتالي، لا تتركه يحسّ بنعيم التروي، والاستقرار. 
ناهيك عن عامل السرعة الذي يستوجب قراءة النّصوص القصيرة جدا كمّا وكيفا، والابتعاد عن كلّ ما يتّخذ حجما كبيرا، أو يبدو مسهبا في الطّول نسبيّا ، مثل: القصّة القصيرة، والرّواية، والمقالة ، والدّراسة، والأبحاث الأكاديمية.... كما لم تترك المرحلة المعاصرة، المعروفة بزمن العولمة والخوصصة والاستثمارات الاقتصاديّة الهائلة والتنافس الشّرس، إنساننا الحالي، ولاسيما المثقّف منه، مستقرّا في هدوئه الذي تعوّد عليه،  ولم تتركه أيضا يتناغم مع بطء وتيرة حياته، بل دفعته إلى السّباق المادّي والحضاري والفكري والإبداعي قصد إثبات ذاته، والدّفاع عن وجوده مادّيا ومعنويّا، والحصول على رزقه الذي يؤمّن حياته وحياة أولاده. 
أثّر هذا كلّه في مستوى التّلقي والتّقبّل، والإقبال على طلب المعرفة؛ فترتّب عن ذلك ما يسمّى بظاهرة العزوف عن القراءة . ثمّ أصبح الكتاب يعاني أزمة الكساد والرّكود. كما بدأت المكتبات العامّة والخاصّة تشكو من الفراغ المهول للرّاغبين في التّعلّم، وغياب المحبّين للعلم والثّقافة، وانقطاع طلبة القراءة عن رفوفها المكدّسة بالكتب والمصنّفات في مجالات معرفيّة شتّى. دون أن ننسى الرّغبة الأكيدة في التّجديد، والتّحديث، وتجاوز السّرود النّمطيّة السّابقة لأغراض فنيّة وجماليّة.
(17)
ما الذي جعل إقبال القارئ على جنس القصّة القصيرة جدّا يتفوق على بقية الأجناس؟ هل هي طبيعة الزّمن الذي نعيش الذي يتميز بالسرعة والايجاز؟ أم أسباب تتعلّق بطبيعة هذا الجنس من الكتابة؟
تربع الشّعر على عرش الأدب العربي لقرون طويلة، إلا أن الركود والبوار والكساد أصابه في العقود الأخيرة ، وحلّت الرّواية محله، وكان الإقبال عليها شديدا ؛ والسّبب في ذلك هو  انتشار التّعليم، واهتمام الدّرس الجامعي بالسّرديات بصفة عامّة، وفنّ الرّواية بصفة خاصّة .بيد أنّ القصّة القصيرة جدّا أعلنت انقلابها الفنّي على الرّواية بشكل مفاجىء، فأسقطت الرواية عن عرشها، واستطاعت أن تفرض نفسها في ثلاثة عقود متتابعة، من سنوات السبعين من القرن الماضي إلى يومنا هذا. 
ويعود انتشارها السّريع إلى ما قدّمه الأنترنيت من خدمات جلى لهذا الجنس الأدبي الجديد تعريفا، وتنظيرا، وتطبيقا. وهذا ما جعل بعض الباحثين يسمّيها بالقصّة التّويتريّة.علاوة على تعقّد الحياة اليوميّة على جميع المستويات والأصعدة؛ ممّا يستلزم ذلك الميل نحو السّرعة في كلّ شيء. واليوم، أصبحنا نتحدّث عن القراءة السّريعة المركّزة أو الماسحة أو الذّكية. علاوة على ذلك، لايستطيع القارىء أن يقرأ النّصوص المسترسلة أو الرّوايات الكبيرة الحجم ؛ لأنّ هذا يتطلّب وقتا طويلا، نفتقده - اليوم-  بسبب تعقّد حياتنا المعاصرة، وتشابكها بشكل كبير بين حين وآخر. 
أضف إلى ذلك الرّغبة في التّجريب والتّجديد والانزياح وتكسير الطّابو السّردي، بالبحث عن الأشكال السّردية الجديدة، فكان العثور على هذا الجنس الجديد. دون أن ننسى كذلك مدى التّأثر بتراثنا السّردي العربي القديم من جهة، والانفتاح على تجارب كتاب أمريكا اللاّتينية الذين أظهروا مقدرة إبداعيّة هائلة في مجال القصّة القصيرة جدّا من جهة أخرى. وأكثر من هذا ما قدّمه النّقد العربي المعاصر من اهتمام بالقصّة القصيرة جدّا على مستوى التّأريخ، والتّنظير، والتّطبيق، والتّشجيع. فضلا عن انتشار النّدوات والملتقيات والمهرجانات التي تخصّصت في القصّة القصيرة جدا. وغالبا، ما كانت هذه المهرجانات تعلن عن جوائز مادية ومعنوية في مجال كتابة القصّة القصيرة جدا. 
وبعد أن كان انتشارها في العراق وسوريا لافتا للانتباه ما بين سنوات السّبعين والتّسعين، انتقلت بسرعة إلى المغرب في سنوات الألفية الثّالثة ليصبح حاضنها الأول دون منازع إلى يومنا هذا. 
(18)
هناك من يرى أنّ هذا النّوع من الكتابة يمرّ بنكسة إبداعيّة بسبب انخراط العديد من المتطفلين الأدبيين فيه، الذين انجروا إلى الاستسهال والاستعجال؟ ما رأيك؟ 
يلاحظ أنّ كثيرا من كتاب القصّة القصيرة جدّا يستسهلون كتابتها، ظانّين أنّها مجرّد عمليّة سهلة في أسطر قليلة نكتبها كما نشاء، المهمّ أن نشبعها بالطّرفة والنّكتة والمفارقة والسّخرية والنّادرة، فنخرج بها إلى النّاس تحت يافطة القصّة القصيرة جدّا. لكنّ الحقيقة أنّ القصّة القصيرة جدّا أصعب من الرّواية والقصّة القصيرة بكثير. فهي فنّ صعب المراس، يتطلّب الحنكة والخبرة والتّجربة، وإلماما بقواعد السّرد، والاستعانة بنظرّية الأدب، ومعرفة تامّة بنظرية الأجناس الأدبيّة. لذلك، نجد الكتّاب يسقطون في الإنشائية، والشّاعرية، والطّرفة، والنّكتة، ويخلطون بين الأجناس الأدبية، فيغيبون الحكائيّة، ثمّ يبتعدون عن مقياس التّكثيف والاختزال والاقتصاد اللّغوي. 
من المؤكد أنّ  عدم الوعي بالتّجربة ينتج- بلا ريب- استسهالا في الكتابة عند معظم كتاب القصّة القصيرة جدّا في الوطن العربي. ناهيك عن قلّة التّراكم والإنتاج في هذا الجنس الأدبي الجديد ؛ ممّا يجعل المبدع العربي غير مؤهّل لخوض غمار التّجربة الجديدة بشكل جيد. ولا ننسى كذلك قلّة الكتب النّظريّة والتّطبيقيّة في هذا المجال. ناهيك عن عدم مواكبة النّقد للمنتج القصصي القصير جدّا بالقراءة، والتّحليل، والتّقويم ، والتّوجيه. 
كما يترتب عن عدم الوعي بالتّجربة عدم الاطلاع على نتائج علم السّرديات، وعدم بذل مجهود من أجل الاستفادة من نظريّة الأدب، والانفتاح قدر الإمكان على الآداب العالميّة، والقدرة على التّمييز الجيّد والدّقيق بين الأجناس الأدبية بشكل علمي ومضبوط.
(19)
ما الفرق بينها وبين القصة الومضة؟
يرى الباحث المصري مجدي شلبي أنّ القصّة الومضة هي بالفعل أدب حكمة، وليست أدب حكي، هي عبارة عن حكمة ترتدي ثوب القصّ، فالقصّ بالنّسبة للومضة هنا مجرّد رداء (حكمة ترتدي ثوب القصّ)؛ ولأنّ أصل القصّة الومضة هو أدب التّوقيعات، وليس أدب القصّ؛ فهي تستمدّ عناصرها منه: التّكثيف، والمفارقة، والإيحاء، والخاتمة المباغتة المدهشة. الحكمة الومضة إذا ألبسناها رداء القصّ أضحت قصّة ومضة، ولا ينبغي أن نطالب جسد النّص أن يلتزم بمواصفات مايرتديه من ثوب . ويعني هذا أنّ الومضة حكمة بليغة، وشذرة عميقة، وقصّة مكثّفة. ومن ثمّ، ترجح الحكمة على الومضة حسب مجدي شلبي، وإن كنت لا أتّفق معه في هذا الرّأي؛ لأنّ الومضة إذا ارتبطت بالحكمة، وكان هدفها هو ضرب الأمثال، وأخذ العبر، وهذا هو مقصدّية الحكمة، فإنّ هذا لن يصبح قصّة ومضة، بل يصبح شذرة فلسفيّة عميقة تجمع بين الحكمة من جهة، والتّفلسف من جهة أخرى. لذا، ما يهمّ في هذه القصّة هو الوضمة أو ومضيتها.أي: إشعاعها الفنّي والجمالي المباغت القائم على التّركيز، والتّكثيف، والإدهاش، والحيرة الوامضة، والشّعلة المباغتة.
ومن هنا، تتميّز القصّة الومضة عن القصّة القصيرة جدا في كونها محدودة الأسطر، تتأرجح بين سطر واحد أو سطرين، تغلب عليها الومضات المفاجئة والمباغتة، واللّمحات الخاطفة، والعمق الفكري، والإيجاز في التّوقيع، والمقدرة على البيان، وسرعة الخاطر، وسرعة البديهة، والتّقسيم المنطقي، والتوازي بالتّماثل أو التّقابل، وبلاغة الإيحاء، والميل نحو التّضمين بدل التّعيين، والإحالة التّناصيّة. وقد تكون الومضة شرحا، أو توضيحا، أو قصّة، أو تساؤلا، أو تعليقا، أو جوابات عن سؤال، أو حكمة، أو مثلا، أو شذرة، أو توقيعة، أو تأويلا، أو تأشيرة ، إلخ...  وغالبا، ما تتّخذ القصّة الومضة نسقا فعليّا، يتأسّس على مجموعة من الأفعال والمحمولات والوقائع والمواقف التي تدلّ على الحدث في الزّمان والمكان، ولا تكون أسماء جامدة أو ثابتة.بمعنى أنّ القصّة الومضة ديناميكيّة وحيويّة الحركة.