نفحات

بقلم
عبد الله البوعلاوي
العقل والغفلة ضدان لا يجتمعان(1)
  لقد ميّز اللّه الإنسان على بقيّة المخلوقات بالعقل، وهي القيمة التي يميز بين الأشياء صوابها وخطئها. ويتفاضل النّاس من حيث قوّة الجهد العقلي، وقدراتهم في ابتكار المعرفة والإبداع وإيجاد الحلول للمشاكل التي تعترضهم بأقل جهد ممكن. وقيمة الإنسان من قيمة عقله في النّشاط المعرفي وتفوّقه بالنّظر والتّأمّل بدون توقّف في القضايا الإنسانيّة والوجوديّة، ذلك أن ليس للعقل حدود في الزّمان والمكان، وأنّ العقل هو الذي مكَّن الإنسان من تحقيق إنجازاته العلميّة في كلّ المستويات المعرفيّة.
ولولا العقل لما عُرفت مسيرة الإنسان، ولما انطلق الإنسان في أرجاء المعمورة يتوسّع وينتشر، ويعتبر القرآن الكريم «معجزة الرّسالة الخاتمة، معجزة عقليّة فكريّة مجرّدة خالدة، دافعة للتّفكّر والاجتهاد والتّوليد في كلّ زمان ومكان.. ربّت عقل الإنسان، وزوّدته بأدوات البحث العلمي، وحرّضته على النّظر والاعتبار، ووحّدت أبجديّات القراءة بالمواءمة بين علوم الحياة وعلوم المادّة،وجعلت علم الأنفس(علم الإنسان)، والآفاق(علم الكون بكلّ مكوّناته) ميدان هذا الكسب المعرفي، وميدان النّظر والاستبصار والكشف العلمي للسّنن والأسباب والقوانين النّاظمة لحركة الحياة والأحياء وتحصيل البراهين والآيات الدّالة على الحقائق من خلال الملاحظة والاختبار:«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(1)»(2) . 
يدعو القرآن الكريم إلى إعمال العقل والتّأمل في الواقع واستشراف المستقبل، والعقل المسدّد بالوحي يكون ملتزما بالقيم القرآنيّة ووفق متطلّبات الإنسان المرتبطة بالزّمان والمكان، وما يجلب المنافع ويدفع عنه المفاسد. و«يعتبر العقل محلّ الوحي والتّكليف، ووسيلة الامتداد، وتحقيق صفة الخلود، في ضوء معطيات الوحي، الذي يشكّل بالنّسبة للعقل مركز الرّؤية، ودليل العمل»(3)، و«العقل الواعي المتحرّر المتأمّل هو أحسن ما في الإنسان، بل هو أنبل ما يميّزه عن الحيوان، وهو الأداة القيمة والوحيدة القادرة على رفع الإنسان ومنعه من أن يتحوّل إلى سائمة اجتماعيّة، أو إلى شيء من الأشياء الجامدة أو المتحرّكة الخاضعة في جمودها وفي حركتها لإدارة المجتمع، وهي لا تملك من أمرها شيئا»(4) .
أمّا العقل غير المسدّد بالوحي، فهو عقل غافل لا ينتفع بشيء ولو كان إلى أعلى في اكتشاف المعارف والعلوم، لأنّه عقل يؤمن بالمصلحة الذّاتية، ولو كان ذلك على حساب الإنسان والكون، هذا النّوع ممّن أوعوا حوافظهم في إنتاج المعرفة، وحقّقوا للإنسان مستوى من الرّفاهيّة المادّيّة، وأغفلوا الجانب الرّوحي. وهناك نوع آخر آثروا منطق الكلالة على استفراغ الجهد العقلي المطلوب، والاستراحة العقليّة وعطّلوا عقولهم عن التّفكير، فحجبوا عن أنفسهم قيمة التّفكّر فيما يجب النّظر، فأووا إلى درجة البهيميّة أو دونها، يقول اللّه تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا، أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(5)، فإنّ عمَى القلب أشدّ وأمرُّ من عمى البصر، فالخطاب القرآني يأمر بالنّظر كيف أنّه سبحانه وتعالى أهلك الأمم، فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، لكنّ الإنسان الذي أصيب بشلل في عقله، وأسكب الصّديد في أذنه، وحجب عنه نور الهداية، لا يعتبر بما يبصره، لأنّ العمى الحقيقي، هو عمى القلب. إنّه سلوك غير طبيعي في الإنسان.
إنّ الغفلة تنافي ارتقاء الإنسان، فيهوي إلى أسفل سافلين، وتجعله عرضة لقبول كلّ ما يَرِد عليه من آراء وأفكار ولا يستطيع أن يميّز  بين الغثّ والسمين، و«إنّ من أخطر الإصابات التي لحقت بالعقل المسلم فحالت بينه وبين التّدبّر، وكسر الأقفال، ووضع الأغلال والآصار، والتّحقّق بالفكر القرآني والرّؤية القرآنيّة الشّاملة، والاغتراف منها لعلاج الحاضر، والامتداد صوب المستقبل، واعتماده مصدرا للمعرفة والبعث الحضاري، هو التوهّم بأنّ الأبنية الفكريّة السّابقة التي استمدت من القرآن الكريم في العصور الأولى، هي نهاية المطاف، وإنّ إدراك أبعاد النّص مرتهن بها في كلّ زمان ومكان، وما رافق ذلك من نهي عن القول في القرآن بالرّأي، وجعل الرّأي دائما قرين الهوى، وسوء النّية، وفساد القصد. وفي هذا ما فيه من محاصرة للنّص القرآني، وقصر فهمه في عصر معيّن، وعقل محكوم برؤية ذلك العصر، وحجر على العقل، وتخويف من التّفكّر، الأمر الذي يحول بين الإنسان والتّدبّر المطلوب إليه  بنصّ القرآن»(6).
والغفلة داء ينخر المجتمعات، ويجعلها قابلة للسّقوط الحضاري ولكلّ حصار فكري، وكيف يفهم العقل الغافل عن اللّه تعالى ما يلزمه من أمور دينه ودنياه، وليس أشدّ من الغفلة عن اللّه تعالى وعن عبادته، وعندما يذمّ اللّه الدّنيا، إنّما يذمّها لأجل أناس يعيشون فيها بمنطق «الصّم البكم الذين لا يعقلون»، ولا يقومون بوظيفة التكليف بالرّسالة التي تتضمّن أحكاما شرعيّة تستدعي العقل لفهمها، وتنزيلها حسب ما تقتضيه الضّرورة الإنسانية، و«العقل المتأمّل هو الذي يتلقّى هدى اللّه تعالى فيمزجه باستقصاء للواقع وحاجته، كما يمزجه بعلومه ومعارفه، ثمّ يخرج للنّاس الخير الكثير»(7) . 
ولا يمكن لمن آثر الغفلة على التّفكّر، أن يفهم ما يدور في فلك الوجود ممّا أمر اللّه تعالى الاستفادة من تسخيره، يقول تعالى: «وسَخَّرَ  لكُم مَّا فِي السَّمَاواتِ ومَا فِي الأَرْضِ جمِيعًا مِّنْه، إنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لقَوْمٍ يتَفكَّرُونَ»(8)، وقد منح اللّه الإنسان وسائل إدراك وجوده ووجود محيطه، وكلّ من عطّل حواسه عن الإدراك خسر الدّنيا والآخرة، يقول اللّه تعالى: «وَلَقَد ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلوبٌ لا يَفقَهونَ بِها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرونَ بِها وَلَهُم آذانٌ لا يَسمَعونَ بِها أُولئِكَ كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولـئِكَ هُمُ الغافِلونَ»(9). وقد يكون المعنى؛ أنّ عدم استعمال وسائل الإدراك للوصول إلى حقيقة الأشياء من الأسباب المفضية إلى الهلاك، وأهمّ شيء يجب استعمال وسائل الإدراك فيه، آيات اللّه تعالى الدّالة على وجوده، سواء تعلّق الأمر بآيات الكتاب المسطور أو آيات الكتاب المشهود، وقد يكون «نفي الفقه والإبصار والسّمع عن آلاتها الكائنة فيهم، إذ عطّلوا أعمالها بترك استعمالها في أهمّ ما تصلح له: وهو معرفة ما يحصل به الخير الأبدي، ويدفع به الضرّ الأبدي، لأنّ آلات الإدراك والعلم خلقها اللّه لتحصيل المنافع ودفع المضارّ، فلمّا لم يستعملوها في جلب المنافع ودفع المضارّ، نفى عنهم عملها على وجه العموم للمبالغة، لأنّ الفعل في حيز النّفي يعمّ، مثل النّكرة، فهذا عام أريد به الخصوص للمبالغة لعدم الاعتداد بما يعلمون من غير هذا، فالنّفي استعارة بتشبيه بعض الموجود بالمعدوم كلّه... وجملة أولئك كالأنعام مستأنفة لابتداء كلام بتفظيع حالهم، فجعل ابتداء كلام ليكون أدعى للسّامعين. وعرفوا بالإشارة لزيادة تمييزهم بتلك الصّفات، وللتنبيه على أنّهم بسببها أحرياء بما سيذكر من تسويتهم بالأنعام أو جعلهم أضلّ من الأنعام، وتشبيههم بالأنعام في عدم الانتفاع بما ينتفع به العقلاء، فكأنّ قلوبهم وأعينهم وآذانهم، قلوب الأنعام وأعينها وآذانها، التي لا تقيس الأشياء على أمثالها ولا تنتفع ببعض الدّلائل العقليّة، فلا تعرف كثيرا ممّا يفضي بها إلى سوء العاقبة. و«بل» في قوله «بل هم أضلّ» للانتقال والتّرقي في التّشبيه في الضّلال وعدم الانتفاع بما يمكن الانتفاع به، ولمّا كان وجه الشّبه المستفاد من قوله «كالأنعام» يؤول إلى معنى الضّلال، كان الارتقاء في التّشبيه بطريقة اسم التّفضيل في الضّلال. ووجه كونهم أضلّ من الأنعام : أنّ الأنعام لا يبلغ بها ضلالها إلى إيقاعها في مهاوي الشّقاء الأبديّ، لأنّ لها إلهاما تتفصّى به عن المهالك... وأنّ الأنعام قد خُلق إدراكها محدودا لا يتجاوز ما خلقت لأجله، فنقصان انتفاعها بمشاعرها ليس عن تقصير منها، فلا تكون بمحل الملامة، وأما أهل الضلالة فإنهم حجزوا أنفسهم عن مدركاتهم، بتقصير منهم وإعراض عن النظر والاستدلال فهم أضل سبيلا من الأنعام. وجملة أولئك هم الغافلون تعليل لكونهم أضل من الأنعام وهو بلوغهم حد النهاية في الغفلة، وبلوغهم هذا الحد أفيد بصيغة القصر الادّعائي إذ ادعي انحصار صفة الغفلة فيهم بحيث لا يوجد غافل غيرهم لعدم الاعتداد بغفلة غيرهم، كل غفلة في جانب غفلتهم كلا غفلة لأنّ غفلة هؤلاء تعلّقت بأجدر الأشياء بأن لا يغفل عنه، وهو ما تقضي الغفلة عنه بالغافل إلى الشقاء الأبدي فهي غفلة لا تدارك منها، وعثرة لا لعى لها... وقد وقع التدرج في وصفهم بهذه الأوصاف من نفي انتفاعهم بمداركهم ثمّ تشبيههم بالأنعام، ثمّ الترقّي إلى أنّهم أضلّ من الأنعام، ثمّ قصر الغفلة عليهم»(10). 
 وكثيرا ما حذّر القرآن الكريم من أن يقع الإنسان في الغفلة عن حقائق الأشياء، فيقضي حياته في الزّينة، بين اللّهو واللّعب، وفي طريق زهرة اللاّمبالاة، فتتخطّفه الأهواء يمنة ويسرة، لا يبالي بأحداث الواقع، ولا يريد عناء التّفكير، أو تقدير ما يدور حوله من تغيّرات اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة، ويتمتّع باستراحة عقله، فيحقّق قول اللّه تعالى في وجوده غافلا عن حقيقة وجوده، يقول اللّه تعالى: «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ»(11).  هذا الصنف من الناس لا يتعظون بالأسئلة المطرقة التي توقظ الغافل إلى صحوة الفكرة والتّعقل، يقول الله تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ»(12). 
تمرّ بالإنسان الغافل محن، وأزمات، وشدائد، وبلايا، ولا يأخذ منها العبرة، وقد تتكرّر عليه، ولا يستطيع دفعها، وهذا حال الأمم التي فقدت مقومات النّهوض الحضاري ومقومات النّمو، فعصفت بها رياح التّقهقر إلى أسوا حالات الضّعف في جميع مجالات الحياة. ولا يمكن لغافل عن السّنن الاجتماعيّة والسّنن الكونيّة أن يحقّق وجودا حضاريّا وإنسانيّا، وإنّما يركن إلى فعل السّنن يميل معها حيث مالت، فيعيش فوضى في سلوكه، وفوضى الغفلة عن حقيقة الأشياء، تُنفذ فيه الأقدار دون أن يأخذ بالأسباب. و«الغفلة أشدُّ ما يُفسِد القلوب، فالقلْب الغافل قلْب مُعطَّل عن وظيفته، معطَّل عن الالْتقاط والتأثُّر والاستجابة، تمرُّ به دلائلُ الهدى، أو يمرُّ بها دون أن يحسَّها أو يدركها، ودون أن ينبض أو يستقبل، ومِن ثَمَّ كان الإنذار هو أليقَ شيء بالغفلة التي كان فيها القوم، الذين مضتِ الأجيال دون أن ينذرَهم منذِرٌ، أو ينبّههم منبِّه»(13)، يقول تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ»(14).
تعتبر كلّ لحظة من أيام الدّهر إشارات ودلائل ينتبه إليها العاقل، فيقتبس منها دروسا وعبرا حتّى لا يسقط في واد التّيه، فتنجرف به زينة الحياة الدّنيا، ويتعلّق بها ويسخّر بعد ذلك كلّ طاقاته في العمل لها وينسى المهمّة التي من أجلها خلقه اللّه تعالى، يقول اللّه تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ»(15)، فيظل للأسف الشّديد يجري وراء سراب يرجو الوصول إليه، فلا يظفر بروية ظمئه. ولقد حذّر اللّه عباده من اجتثاث الدّنيا على قلب الإنسان، فهي بهيجة بقدر زينتها وتنوّع التّفاخر بالمال والولد، فيتشبّث صاحب الهوى بها ويحرص عليها ويميل إليها.
 إنّ حال الدّنيا إلى زوال مستمر، فالشّباب يصير إلى العجز ويفقد الإنسان نضارة وجهه وقوته، وتتغيّر الطّباع، وتصير القوّة إلى ضعف ولربّما يعجز الإنسان على أداء الشّيء اليسير، كما يقول تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً، يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ»(16)، ولمّا كان هذا المثل دالاّ على زوال الدّنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأنّ الآخرة كائنة لا محالة، حذّر الله من أمرها ورغّب فيما فيها من الخير فقال «وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ»(17)، أي سيكون في الآخرة الآتية القريبة إمّا عذاب شديد، وإمّا مغفرة من اللّه ورضوان.
و«القرآن الكريم لا يذكر العقل إلاّ في مقام التّعظيم والتّنبيه إلى وجوب العمل به والرّجوع إليه»(18)، فالعقل يحصّن الإنسان من التيه في مسالك الحياة المتشعبّة دون معرفة حقيقتها، وبه يعرف الحقّ والباطل، والطّيب والخبيث. وعمليّة إعمال العقل ضرورة وجوديّة  للإنسان ليسخّر جميع طاقاته فيما يجلب له المنافع الدنيويّة والأخرويّة ويدفع عنه الأضرار. والقرآن «معجزة عقليّة فكريّة مجرّدة خالدة، دافعة للتّفكّر والاجتهاد والتوليد في كلّ زمان ومكان.. ربّت عقل الإنسان، وزوّدته بأدوات البحث والعلم، وحرّضته على النّظر والاعتبار، ووحّدت أبجديّات القراءة بالمواءمة بين علوم الحياة وعلوم المادّة، وجعلت علم الأنفس(علم الإنسان)، والآفاق(علم الكون بكلّ مكوناته) ميدان هذا الكسب المعرفي»(19). لهذا نجد أنّ مادة(ع ق ل) في القرآن الكريم كلّها جاءت بصيغة الفعل المضارع إلاّ واحدة من تسع وأربعين مرّة، لتدلّ على عمليّة إعمال التّفكير المستمرّة وعلى حياة الإنسان، «فإن عمل الإنسان بضدّ ما يعلم، وضدّ ما يأمر به غيره، لا يصدر عن إنسان سويّ في عقله، ناضج في فكره، إنّما هو ضرب من الجنون»(20).
يرفع التّكليف عن الإنسان في حال فقدان وظيفة عقله، وبه يستنطق الإنسان مسيرته الوجوديّة ويقرأ السّنن الكونيّة ويربط الأسباب بالمسبّبات، ويستنبط المعارف من الوحي في علاقتها مع الكون، وكان احترام هذا القرآن الكريم للعقل أن كانت معجزته عقليّة وليست معجزة حسّية، فالمعجزة القرآنيّة تقوم على البيان والمعاني والتّشريع والنّظر والتدبّر والتفكّر. 
وتعتبر الغفلة حاجزا مانعا عن فهم وظيفة الإنسان في الوجود، يستنزف كلّ طاقاته فيما لا طائل وراءه، فلا يستطيع التّحرّر من قيود ما تمليه عليه شهواته ورغباته، فيتحول  بذلك  إلى «سائمة اجتماعيّة أو إلى شيء من الأشياء الجامدة أو المتحركة الخاضعة في جمودها وفي حركتها لإدارة المجتمع وهي لا تملك من أمرها شيئا»(21). وإنّ أهم عنصر يهتمّ به عدوّ الإنسان «الشّيطان» إيقاعه في الغفلة، ليضلّ تائها متّبعا لهواه، فلا يتلقّى ما ينفعه، وخصوصا ما يتعلّق بنصوص الوحي «قرآنا وسنّة»، ولا شكّ أنّ العقل غير المهتدي بنّصوص الوحي لا يستطيع مواجهة الضّلالات الفكريّة، خصوصا ما يتعلّق بالعقيدة وما يدور في فلكها.
ينعت القرآن الذين يعطّلون عقلوهم عن الوظيفة المنوطة به بالمخلوقات غير العاقلة أو أضلّ من ذلك، بل هم أشبه من الأنعام في مرعاها التي ينادي عليها راعيها، فلا تسمع إلاّ صوتا، ولا تفهم ما ينادي به، لأنّهم منعوا أدوات التّواصل المؤدّية إلى المعرفة، ولا يسمحون للعقل بالسّياحة في ملكوت اللّه تعالى، ويحجبون عن أنفسهم لذّة التّفكّر، ويفضّلون منطق الكلالة على منطق الايجابيّة، يقول تعالى: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ»(22)، وعدم إعمال العقل سلوك غير طبيعي في الفطرة الإنسانية التي جبل عليها . 
إنّ الغفلة داء يصيب الكثير من النّاس، فمنهم من يصحو ويتوب من عثراته، ومنهم من ينهض مرّة ويسقط  أخرى، ومنهم من يتمادى في الغفلة بحسن الظنّ أنّه  يحسن صنعا، ومن الغفلة المركبة أن يُنَبَّه الرّجل إلى  غفلته، ولا يدري مع ذلك أنّه غافل، من جهة فهو غافل عن ذكر اللّه واطلاعه عليه، وغافل عن المقصد الذي خلق من أجله، وغافل عن إنقاذ نفسه من الدّنيا، وغافل عن مصيره، وغافل عن آيات الله تعالى الشّرعية والكونيّة.
الهوامش
(1) سورة فصلت - الآية 35
(2) رؤية في عوامــل النهـوض، عمر عبيد حسنه، ص: 92، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، عمان، الطبعة الأولى، 1428ه/ 2006م
(3) العقـل العربـــي وإعـادة التشكيـــل،  مقدمـة عمر عبيد حسنه،ص: 8
(4) خواطر حول أزمة الفكر عند المسلــم المعاصـر، عبد الحليم محمد أبو شقة، ص: 4 
(5) سورة الحج - الآية 46
(6)  كيف نتعامل مع القرآن الكريم، للشيخ محمد الغزالي رحمه الله ص: 22
(7) خواطر عن أزمة الفكر عند المسلم المعاصر،ص: 9
(8) سورة الجاثية - الآية 12
(9) سورة الأعراف - الآية179
(10) التحرير والتنويــر، للشيــخ محمـد الطاهــر بن عاشور 9/182-183
(11)  سورة الجاثية - الآية 24
(12)  سورة المؤمنون - الآية 115
 (13) في ظلال القرآن لسيد قطب
 (14) سورة الأنبياء - الآية 1
 (15)  سورة الذاريات - الآية **
 (16) سور ة الروم - الآية 54
 (17) سورة الحديد - الآية 20
(18) التفكير فريضة إسلامية، عباس محمود العقاد،ص: 5، مؤسسة اقرأ،  الطبعة الأولى، 2014م
(19) رؤية في عوامل النهوض، عمر عبيد حسنه، ص: 92، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، عمان، الطبعة الأولى، 1428ه/ 2006م
(20) العقل والعلم في القرآن الكريم للشيخ يوسف القرضاوي، ص:13، مكتبة وهبة، الطبعة الرابعة، 1430ه 2009م
(21)خواطر حول أزمة الفكر عند المسلم المعاصر، عبد الحليم محمد أبو شقة، ص: 4 
(22) سورة البقرة - الآية 171